تنوع فسيولوجي هائل ضمن فصيلة من الخميرة: تحليل جينومي ودراسة استقلابية
لطالما حير العلماء سؤال محوري في مجال التطور: لماذا تتخصص بعض الأنواع في بيئة محددة بينما تتكيف أنواع أخرى مع مجموعة واسعة من البيئات؟ تقدم دراسة رائدة، اعتمدت على واحدة من أشمل مجموعات البيانات الجينومية التي جُمعت على الإطلاق، إجابة محتملة على هذا السؤال. قاد هذه الدراسة فريق من العلماء من جامعة ويسكونسن ماديسون وجامعة فاندربيلت.
أجرى فريق من الباحثين، بإشراف البروفيسور كريس تود هيتينجر، أستاذ علم الوراثة في جامعة ويسكونسن ماديسون، والبروفيسور أنطونيس روكاس، أستاذ علم الأحياء في جامعة فاندربيلت، تحليلًا للمخططات الجينية، والخصائص الغذائية / النهم (appetites)، والبيئية لأكثر من 1000 نوع من الخميرة. نتج عن هذا التحليل شجرة عائلة تُظهر كيفية تطور هذه الفطريات أحادية الخلية على مدار 400 مليون سنة.
تشير نتائج دراسة حديثة نُشرت في مجلة ساينس إلى أن العوامل الداخلية للخميرة، وليست العوامل الخارجية، هي المحرك الأساسي لاختلاف أنواع الكربون التي يمكنها استهلاكها. لم يجد الباحثون أي دليل على أية تنازلات مرتبطة بتنوّع الاستقلاب، أو القدرة على استهلاك مصادر غذائية مختلفة. بعبارة أخرى، تتمتع بعض أنواع الخميرة بقدرة فائقة على استهلاك مصادر متنوعة من الغذاء مع إتقان استهلاك كل منها.
«أثار ذلك دهشتنا العميقة»، بحسب تعبير هيتينجر.
ويضيف: «من المُفترض أن تتميز الكائنات المتخصصة بقدرة فائقة على استهلاك مصادر الكربون التي تكيفت معها، بينما تكون قدرة الكائنات العامة على استهلاك مصادر الكربون محدودة نظرًا لتنوع المصادر الغذائية. لكن النتائج التي توصلنا إليها عاكست تمامًا هذه التوقعات».
تمثل هذه الورقة نتاجًا لمشروع مُمتد على مدار عقد من الزمن، يهدف إلى بناء قاعدة بيانات شاملة تُحدد العلاقة بين الجينومات وخصائص الخمائر، وهي مجموعة من الكائنات التي تتمتع بتنوع جيني يُعادل تنوع جميع الحيوانات. وتُعد مجموعة البيانات الجينومية المُستخدمة في هذه الدراسة الأكثر شمولًا على الإطلاق لمثل هذه المجموعة القديمة والمتنوعة.
يُشير الدكتور هيتنيجر، باحث في مركز أبحاث الطاقة الحيوية في منطقة البحيرات العظمى متخصص بدراسة عملية استقلاب الخميرة، إلى أن قاعدة البيانات هذه يمكنها، وبالإضافة إلى تعزيز فهمنا للتنوع البيولوجي، أن تُساعد الباحثين في تحديد أو إنشاء أنواع من الخميرة تتمتع بكفاءة أعلى في تحويل سكريات النبات إلى وقود حيوي وبدائل أخرى للوقود الأحفوري.
تنوّعٌ هائلٌ بالفروع ونهمٌ مُتباينٌ تجاه الغذاء
بدءًا من عام 2015، شَرَعَ فريقُ هيتنيجر في العمل على تسلسل الجينومات ودراسة عمليات الاستقلاب لكل الأنواع المعروفة تقريبًا من فصيلة خميرة بعيدة الصلة بخميرة ساكاروميسيس سيرفيسي، المعروفة أيضًا باسم خميرة الجعة.
وقع الاختيار على هذه الفصيلة لِما تتمتع به من تنوع هائل في الأنواع المُحدّدة ونُظُمِها الغذائية الكربونية المتباينة بشكل كبير.
يتمتع نظامنا بتنوع هائل في التفرعات، بعضها متقارب والبعض الآخر متباعد، بحسب توضيح هيتنيجر، ويضيف: «يُتيح ذلك فرصًا لا حصر لها لاستكشاف مسارات تطورية متشابهة أو متطابقة. فيمكننا ملاحظة سمات اكتُسبت أو فُقدت مرات عديدة».
ما لم يكن معلومًا في ذلك الوقت هو كيفية ارتباط الأنواع ببعضها البعض.
استخدم الباحثون أدوات التعلم الآلي بعد جمع البيانات لتحديد الجينات المرتبطة بصفات محددة للكائنات الحية، بما في ذلك نطاق الموارد التي يمكنها استخدامها أو الظروف التي يمكنها تحملها، وهو مفهوم يعرف باسم «اتساع الحيّز البيئي المُخصص».
شأنها شأن الكائنات الحية الأخرى، اتخذت بعض أنواع الخمائر منحى التخصص، شبيهًا بحيوان الكوالا الذي يقتصر نظامه الغذائي على أوراق نبات الأوكالبتوس، بينما اتخذت أنواع أخرى نهجًا عامًا مشابهًا لحيوان الراكون الذي يتغذى على نطاق واسع من المصادر الغذائية.
لطالما حيّر العلماء وجود منحى التخصص والعموم في الطبيعة، ليكون موضوعًا شغل اهتمامهم منذ طرح تشارلز داروين لنظرية التطور عام 1859.
«كانت تلك الأفكار تتبلور في زمن داروين، وبعد ذلك بفترة وجيزة، بدأ الناس في التركيز على علم البيئة كقاعدة لكيفية عمل الانتقاء الطبيعي»، بحسب قول هيتنيجر.
قدم العلماء نموذجين رئيسيين لشرح هذه الظاهرة.
يُشير النموذج الأول إلى أن الكائنات التي اتخذت منحى عامًا، تتميز بقدرتها على التكيف مع نطاق واسع من الظروف البيئية ومصادر الغذاء. يرجع ذلك إلى قدرتها على تحمل ظروف بيئية متنوعة، واستغلال مصادر غذائية متعددة. مع ذلك، لا تهيمن هذه الكائنات على أي بيئة مخصصة أو مصدر غذائي بنفس فعالية كائنات المنحى المتخصص.
في حين يقترح النموذج الثاني نظرية تفيد بأن تنوع الحيّز البيئي المُخصص، ينجم عن علاقة متبادلة بين العوامل الداخلية والخارجية.
تشمل العوامل الداخلية تغييرات عدة، كأن تكتسب الكائنات الحية جينات تسمح لها بإنتاج إنزيمات قادرة على تحليل أكثر من مادة واحدة، ما يؤدي إلى توسيع نطاق الغذاء الذي يمكنها تناولها. أما العوامل الخارجية، يمكن أن يؤدي فقدان الجينات العشوائي بمرور الوقت إلى تضيق نطاق الموارد التي يمكن للكائن الحي استغلالها.
قد تؤدي البيئة دورًا في ممارسة ضغوط انتقائية على السمات، ففي بيئة محدودة الموارد، كتواجد مصدر واحد أو مصدرين فقط للغذاء أو درجات حرارة ثابتة، تُفضَّل الكائنات المتخصصة التي تكيفت مع هذه الظروف، بينما قد تنجح الكائنات ذات المنحى العامة في بيئات غنية بالغذاء أو المتنوعة من حيث الظروف البيئية.
في دراسة أجراها فريق هيتنيجر على استقلاب الخميرة، لم يُعثر على أي دليل لتخلي الخميرة عن أي مسار استقلابي على حساب الآخر.
ووفقًا للدكتور هيتنيجر: «تتفوق كائنات المنحى العام في قدرتها على استغلال جميع مصادر الكربون المتاحة لها، كما أنها تتمتع بمرونة أكبر في استهلاك مصادر النيتروجين مقارنة بكائنات المنحى المخصص، لم نتوقع ملاحظة هذه العلاقة بتاتًا».
أشارت نتائج الدراسة أيضًا إلى أن العوامل البيئية تلعب دورًا محدودًا في تحديد قدرة الكائنات الحية على استهلاك مصادر الكربون المختلفة.
أعربت الدكتورة دينا أوبولينتي، الباحثة المشاركة في الدراسة والتي بدأت العمل كباحثة ما بعد الدكتوراه في جامعة ويسكونسن ماديسون وتشغل حاليًا منصب أستاذ مساعد لعلم الأحياء في جامعة فيلانوفا، عن دهشتها من هذه النتائج.
وتقول الدكتورة أوبولينتي: «قد نتوقع أن نجد الكائنات المخصصة بشكل رئيسي في السلالات المستأنسة، لكن الواقع أظهر عكس ذلك. فقد وجدنا كائنات مخصصة وعامة في كل من التربة وعلى الأزهار، إنهم موجودون في جميع الأماكن نفسها».
يحذّر هيتنيجر إلى وجود قيود على ما يمكن استنتاجه من البيانات. من الممكن وجود تنازلات في الأنواع التي لم تُدرس بعد. كما أن التجارب المخبرية المستخدمة لقياس النمو الاستقلابي لا يمكنها محاكاة الظروف في التربة أو لحاء الأشجار أو أمعاء الحشرات حيث تعيش الخمائر في الطبيعة.
تعمل أوبولينتي الآن على جمع المزيد من البيانات حول هذه البيئات الطبيعية، والتي يمكن أن تكشف عن تأثير بيئي أقوى على اتساع الحيّز البيئي المخصص.
تُصرح أوبولينتي: «مع ازدياد البيانات المتاحة، تُصبح إمكانية طرح أسئلة جديدة وفريدة من نوعها متاحة أيضًا».
لا تقدم الدراسة تفسيرًا لعدم كون جميع أنواع الخمائر عامة، وذلك في حال عدم وجود تنازلات بين التخصص والتعميم.
أحد التفسيرات المحتملة يكمن في اختفاء الجينات خلال عملية التطور. فطالما لم يُشكل ذلك ضررًا على بقاء الكائن الحي، يمكن أن ينتقل الطفرة الجينية ويُسيطر على مجموعات بأكملها. وبالتالي، قد تتطور الأنواع المخصصة بشكلٍ مستمر من الأنواع العامة من خلال هذه العملية.
يُصرح هيتنجر: «لا أعتقد أننا أجبنا على هذا السؤال بشكلٍ قاطعٍ حتى الآن».
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org