الحصبة: فيروس قديم، مع حالات تفشي جديدة
ظهرت في الأسابيع الأخيرة حالات للحصبة في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية في ولايات أوهايو، وفلوريدا، وواشنطن، وميشيغان، وإنديانا، ومينيسوتا، وغيرها. غالبًا ما يؤدي هذا الفيروس شديد العدوى إلى دخول المستشفى، وأحيانًا إلى مضاعفات خطيرة ووفاة، خاصةً بين الأطفال دون سن الخامسة.
يعدّ لقاح الحصبة من اللقاحات الآمنة والفعالة، إلا أن انخفاض معدلات التطعيم عرّض أعدادًا من الناس للخطر. قد تبدو الحصبة وكأنها ذات تاريخ قديم مقارنة بكوفيد-19، وجدري القرود، وزيكا، وغيرها من الفاشيات التي تصدرت عناوين الصحف في السنوات الأخيرة، ولكن كم من الوقت مضى على ظهور الحصبة؟ علم الأحياء التطوري لديه الجواب.
أين يكمن التطور؟
يمكننا الكشف عن أصول الأمراض الفيروسية من خلال إعادة بناء شجرتها التطورية، أو ما يُعرف باسم السلالات التطورية.
يجمع علماء الأحياء المعلومات الجينية من العديد من السلالات المختلفة للفيروس المسبب للمرض ويقارنونها مع تسلسلات الحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي لفيروسات أخرى باستخدام برامج الكمبيوتر.
يحدد هذا التحليل الفيروسات التي يُحتمل أن تكون أكثر ارتباطًا ببعضها البعض، وكم يبعد تاريخ انفصال مساراتها التطورية عن بعضها البعض. كشفت الدراسات المبكرة على الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19 مثلًا أنه ربما تطور من فيروس سلف أصاب الخفافيش.
أظهر تحليل مماثل أن فيروس نقص المناعة البشرية قد تطور من فيروسات تصيب الرئيسيات غير البشرية عدة مرات. كشفت الشجرة أن سلالة فيروس نقص المناعة البشرية المسؤول عن معظم حالات العدوى (النوع الفرعي M) ربما قفزت إلى مضيف بشري حوالي عام 1908 وانتشرت دون اكتشاف لعقود من الزمن.
بحثت دراسة أجريت عام 2020 في التاريخ التطوري للحصبة. سعى الباحثون إلى لوصول إلى سلالة الحصبة السلف قدر الإمكان، فبحثوا في المجموعات الطبية القديمة وتمكنوا من الحصول على تسلسلات جينية من عينة نسيج رئة لطفلة تبلغ من العمر عامين توفيت بسبب الحصبة عام 1912.
جمعوا هذه المعلومات مع تسلسلات من سلالة الحصبة لعام 1960 والعديد من الفيروسات الحديثة لإعادة بناء الشجرة التطورية التي توضح كيفية ارتباط جميع الفيروسات.
تُصنف الحصبة ضمن عائلة من الفيروسات التي تصيب الماشية بشكل أساسي، ويعد فيروس الطاعون البقري أقرب أقارب فيروس الحصبة الحديثة، وهو مرض مدمر للماشية قُضي عليه نهائيًا في عام 2011 بفضل التطعيم.
حددت الأبحاث الفترة الزمنية التي ظهر فيها الحصبة، إذ انقسم فيروس الماشية إلى سلالتين سليلتين: الأولى تطورت إلى طاعون البقر الحديث، والأخرى إلى الحصبة، وذلك في فترة زمنية تقدر بين 2000 و3000 سنة مضت (في الوقت الذي عاش فيه بوذا في جنوب آسيا وقبل وقت قصير من ولادة سقراط).
لفت هذا الإطار الزمني لأصل سلالة الحصبة علماء الأحياء لأنه قريب من الوقت الذي نشأت فيه أولى المدن الكبرى التي يزيد عدد سكانها عن 250 ألف نسمة في العالم القديم. حدث ذلك في شمال إفريقيا والهند والصين وأوروبا والشرق الأدنى في نفس الوقت تقريبًا.
لوحظ ذلك لأن فيروس الحصبة يعتمد على الكثافة السكانية البشرية للبقاء. تستمر الفيروسات عن طريق إنتاج نسل يصيب أفراد معرضين للإصابة، وإذا نفد الفيروس من الضحايا المحتملين في أي وقت (على سبيل المثال، بعد وباء واسع أو حملة تطعيم ناجحة)، فسوف ينقرض، ويختفي عن الوجود. تولد الحصبة مناعة قوية، لذا بمجرد إصابة شخص ما بالحصبة، لا يمكن أن يصاب مرة أخرى.
يُرجح إذًا نفاد الضحايا المحتملين للحصبة في المجتمعات الصغيرة، قبل ولادة ضحايا جدد، ما يقضي على الفيروس تمامًا ما لم يتم إدخاله مرة أخرى من مجتمع آخر. قدر العلماء أن الحصبة لا يمكن أن تستمر إلا في مجموعات تتراوح بين 250 ألف و500 ألف شخص.
يُشير التزامن بين نمو المدن وظهور فيروس الحصبة إلى أن تطور التجمعات البشرية الكبيرة سمح لفيروس الحصبة بالبقاء بعد انتقاله من الماشية إلى البشر.
يُرجح أن أسلاف فيروس طاعون البقر قد وجدوا طريقهم إلى البشر قبل ذلك، ولكن بسبب صغر حجم هذه التجمعات، انقرض الفيروس. بمجرد ظهور المدن، استطاع فيروس الماشية المتحور أن يرسخ موطأ قدم له في المضيف الجديد، ويتطور إلى مرض بشري مدمر يتسبب بوفاة أكثر من 100,000 شخص كل عام، معظمهم من الأطفال الصغار.
يمكن أن يمنع التطعيم هذه الوفيات بالتأكيد، وفي الواقع، يمكن أن يفعل التطعيم أكثر من ذلك. يتفق العلماء والمهنيون الطبيون على إمكانية القضاء على مرض الحصبة ومحوها عن وجه الأرض للأبد من خلال الدعم والجهود الكافية التي تُبذل في برامج التطعيم. لقد عاش البشر وماتوا بسبب الحصبة لآلاف السنين، ويكفي ذلك.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: berkeley.edu