الكائنات بدائية النواة وحيدة الخلية، أسلاف البكتيريا والعتائق الحديثة، هي أقدم أشكال الحياة على كوكبنا. ظهرت هذه الكائنات لأول مرة منذ حوالي 3.5 مليار سنة، وظهرت الخلايا حقيقية النواة الأولى بعد حوالي 1-1.5 مليار سنة. ومع ذلك، تطورت الخلايا حقيقية النواة منذ ذلك الحين إلى العديد من الكائنات الحية المعقدة ومتعددة الخلايا التي نراها حولنا كل يوم (الفطريات والنباتات والحيوانات)، في حين ظلت بدائيات النوى كائنات أحادية الخلية.
تطورت الأشكال متعددة الخلايا أكثر من 50 مرة في تاريخ الحياة على الأرض، بدءًا من سلالات من بدائيات وحقيقيات النوى. تطور عند بعض بدائيات النوى أشكالًا من الحياة عديدة الخلايا، فمثلًا تقسّم بعض البكتيريا الزرقاء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي العمل إلى نوعين من الخلايا، إذ يؤدي أحد النوعين عملية التمثيل الضوئي بينما يعمل النوع الآخر على تثبيت النيتروجين.
وعلى الرغم من حقيقة أن بعض بدائيات النوى تجنبت أن تكون كائنات متعددة الخلايا من خلال تعايشها مع بعضها البعض بأسلوب حياة متعدد الخلايا، لكن لم تحقق أي من هذه السلالات ما حققته حقيقيات النوى في وصولها إلى المستوى المعقد من عديدات الخلية.
تطورت الكائنات المتعددة الخلايا المعقدة في خمس مرات منفصلة فقط، ودائمًا بدءًا من حقيقيات النوى. تكمن هذه الملاحظة وراء سؤال أساسي في علم الأحياء التطوري: على الرغم من أن الخلايا بدائية النواة لها هياكل وسلوكيات خلوية معقدة، وكان لديها متسع من الوقت لتتطور إلى كائنات متعددة الخلايا معقدة، لكنها لم تفعل ذلك أبدًا، فلماذا لا؟
المفتاح الجيني لتعدد الخلايا
إحدى النظريات التي تفسر سبب تطور حقيقيات النوى فقط إلى الكائنات معقدة الخلايا التي نراها اليوم هي أن حقيقيات النوى فقط هي التي طورت الخصائص الضرورية لتعدد الخلايا المعقدة. تختلف الخلايا حقيقية النواة عن الخلايا بدائية النواة في نواحٍ عديدة، فهي أكبر حجمًا، وتحتوي على عدد أكبر من العضيات المختلفة إضافة إلى النواة.
إن نطاق أشكال ووظائف الخلايا حقيقية النواة مذهل أيضًا مقارنة ببدائيات النوى. وتشمل الخلايا النباتية ذات الجدران الصلبة، والخلايا العصبية الطويلة الشائكة، والخلايا الهدبية التي تبطن جدران أحشائنا.
يتطلب توليد التنوع في الشكل والوظيفة الذي نراه في الخلايا حقيقية النواة آليات خاصة، أي وسائل متطورة للتنظيم الجيني. تحتاج الخلايا إلى تعيين أدوارها المحددة أثناء التطور.
في حقيقيات النوى، يلتف الحمض النووي في الخلايا بإحكام حول بروتينات تسمى الهستونات، والتي بدورها تتجمع معًا في بنية تعرف باسم الكروماتين. ويُعتقد أن هذه الأنواع من الآليات التنظيمية أعطت حقيقيات النوى فرصة للتطور إلى كائنات معقدة متعددة الخلايا.
تنظم التعديلات في بروتينات الهيستونات التعبير الجيني أثناء التطور في جميع الحيوانات، بما في ذلك أقدم أنواع الإسفنج. في عام 2017، لاحظ باحثون من جامعة كوينزلاند في أستراليا امتلاك أحد أنواع الإسفنج مشهدًا تنظيميًا قديمًا للغاية، وهو موجود أيضًا في الحيوانات الأخرى التي تطورت في وقت لاحق.
الإسفنج، أمفيميدون كوينزلانديكا، بسيط للغاية من الناحية الشكلية. ومع ذلك، وجد الباحثون آليات تنظيمية مهمة تسمح بتطور حيوانات أخرى أكثر تعقيدًا من الناحية الشكلية. أحد هذه البروتينات يُسمى معقد بولي كومب المثبط 2 (PRC2)، وهو عبارة عن مجموعة من البروتينات التي يمكنها تعديل الهستونات لتثبيط عمل أجزاء من الكروماتين. تساعد بروتينات معقد بولي كومب المثبط 2 الخلايا في الوصول إلى شكل معين والتمسك به، والتطور إلى نفس النوع من الخلايا عبر دورات الانقسام، مما يسهل تطور الكائنات المعقدة متعددة الخلايا.
جينوم أكبر يعني أنماطًا ظاهرية أكثر
ومع ذلك، قد لا تكون الخصائص الخلوية هي كل شيء. اقترح بحث جديد أن تطور الخلايا المتعددة المعقدة يمكن أن يعود أيضًا إلى قوة غير مرئية لكنها قوية: الانجراف الجيني. تتكون كل مجموعة من أفراد من نفس النوع، ولكن مع اختلافات في جينات معينة.
تتغير تكرارات متغيرات الجينات المختلفة وتتأثر بالانتقاء، وبالصدفة العشوائية أيضًا. يصف الانجراف الوراثي هذا التغيير العشوائي، الذي تكون آثاره قوية بشكل خاص في المجموعات السكانية الصغيرة ذات الحجم السكاني الفعال الأقل (يُقصد بالحجم السكاني الفعال عدد الأفراد الذين ينتجون الجيل التالي).
عندما تنفصل الخلايا الفردية إلى مجموعات من الخلايا أثناء تطور الخلايا المتعددة المعقدة، يتناقص حجم السكان الفعال، مما يعزز تأثيرات الانجراف الوراثي. الأهم من ذلك هو أن استجابة بدائيات النوى وحقيقيات النوى للانجراف تكون مختلفة.
غالبًا ما تتقلص جينومات بدائيات النوى في مواجهة الانجراف، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التحيز المتأصل لحذف الجينات، بينما تفعل حقيقيات النوى العكس. في حقيقيات النوى، يؤدي الانجراف غالبًا إلى التوسع الجينومي، إذ تحدث إضافة أجزاء كاملة من الحمض النووي إلى الجينوم. قد تجمع بدائيات النوى أيضًا الجينات بسبب الانجراف، ولكن تكون هذه الجينات عادة جينات كاذبة (أجزاء من الحمض النووي تشبه الجينات) ولا تشفر البروتين.
التوسع الجينومي محرك قوي للتطور، لأنه يوسع الصندوق الجيني الذي يفتح الآفاق أمام المزيد من الصفات التطورية. استخدم الباحثون البكتيريا الزرقاء كمثال؛ وهي تتألف من مجموعة من البكتيريا طورت بين بعضها مثالًا بسيطًا من التعدد الخلوي عن طريق تطبيقها لمجموعة من التعديلات الرئيسية.
وجد العلماء علاقة إيجابية قوية بين عدد التكيفات متعددة الخلايا وحجم الجينوم عبر ما يقرب من 200 نوع من البكتيريا الزرقاء، مما يشير إلى أن الجينومات الأكبر مهمة لتعدد الخلايا عند البكتيريا الزرقاء.
بالإضافة إلى وجود علاقة إيجابية قوية بين التكيفات متعددة الخلايا وحجم الجينوم، وجد الباحثون أيضًا أن البكتيريا الزرقاء متعددة الخلايا تحتوي على أكثر من ضعف عدد الجينات الكاذبة مقارنة بالأنواع وحيدة الخلية. وهذا يدل على أن جينوماتهم قد تعاني من التآكل الناجم عن الانجراف نتيجة للتكيف متعدد الخلايا، وهو أمر متوقع أيضًا بالنسبة للكائنات بدائية النواة مثل البكتيريا الزرقاء.
على الرغم من اقتراح العديد من الفرضيات، لكن لا يزال من غير الواضح تمامًا لماذا تطورت الكائنات حقيقية النواة فقط إلى كائنات متعددة الخلايا المعقدة. علاوة على ذلك، من غير المعروف أيضًا ما إذا كان التآكل الجينومي الناتج عن الانجراف يمثل عقبة لا يمكن التغلب عليها أمام تطور تعدد الخلايا في بدائيات النوى.
وإجمالًا، ما زلنا بعيدين عن الفهم الأساسي لكيفية وسبب تطور الخلايا المتعددة المعقدة في حقيقيات النوى، وما هي السمات الأكثر أهمية للتحولات المورفولوجية الكبرى. ومع ذلك، يعتبر العلماء هذه الأسئلة بأنها رائعة في علم الأحياء التطوري لأن الإجابات ستعطينا لمحة عن الأحداث التي أدت إلى أصولنا منذ مئات الملايين من السنين.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org