في الشهر الماضي، أصيب أحد سكان كاليفورنيا بحمى الضنك بعد لدغة بعوضة محلية. تصدرت هذه الحالة الأخبار لأنها كانت الأولى، لكنها قد لا تكون الأخيرة. وتشهد حمى الضنك ومرض آخر ينقله البعوض، وهو الملاريا، ارتفاعًا في جميع أنحاء العالم. يوجد عدة عوامل وراء هذا الاتجاه. يسمح تغير المناخ للبعوض بالعيش في مناطق جغرافية أوسع. فقد انتقل نوع من البعوض الذي يعيش في المدن عبر القارات واستقر في المناطق الحضرية الكثيفة. والأهم من ذلك أن البعوض تغير أيضًا.
أين التطور؟
سنراجع اثنين من تلك التغييرات الأخيرة في البعوض لنرى ما إذا كانت وراء التطور السريع الذي يتميز به، الأول هو حدوث طفرات تنتقل على شكل أليلات بين السكان، والثاني يُعرف باللدونة المظهرية، التي تمثل الاختلافات بين الأفراد الناجمة عن بيئاتهم والتي لا تعتمد على الجينات التي يحملونها.
أصبح البعوض مقاومًا بشكل متزايد لمبيداتنا الحشرية. وكان المبيد الحشري دي دي تي واحداً من أولى الأسلحة واسعة النطاق التي كانت لدينا ضد الأمراض التي ينقلها البعوض. فالقضاء على البعوض منعهم من نقل المرض. استُخدم الـ دي.دي.تي لأول مرة ضد البعوض في الأربعينيات من القرن الماضي؛ ومع ذلك، بعد بضع سنوات فقط، ظهرت المقاومة. على مدى السنوات الأربعين الماضية، اعتمدت جهود المكافحة على مبيدات البيرثرويد الحشرية، وهي قاتلة للبعوض، وآمنة نسبيًا للبشر، ويمكن تطبيقها على الناموسيات لحماية النائمين. ومع ذلك، فإن البعوض المقاوم للبيرثرويد آخذ في الارتفاع منذ التسعينيات، ويهدد الآن بجعل البيرثرويدات غير فعالة. إننا نعلم أن هذا التحول من البعوض غير المقاوم إلى البعوض المقاوم ناجم عن الانتشار التطوري لنسخ الجينات المقاومة، جزئيًا، لأننا تمكنا من تحديد التغيرات الجينية المحددة التي تسبب المقاومة. تنتشر هذه النسخ الجينية من خلال عملية الانتقاء الطبيعي. والآلية هي كالتالي:
- يوجد تباين وراثي بين أفراد البعوض. إذ يختلف فرد واحد عن الآخر بسبب الطفرات التي تراكمت لدى السكان في الماضي. قد تجعل بعض هذه الطفرات التي تحدث بشكل عشوائي الحشرة قادرة على البقاء على قيد الحياة بعد التعرض لمبيد حشري معين.
- دور الانتقاء: نطبق المبيدات الحشرية لقتل البعوض، وإذا امتلكت أي حشرة طفرة تسمح لها بالبقاء على قيد الحياة بعد العلاج، يمكنها نقل هذه النسخة الجينية إلى الجيل التالي من البعوض. بالتأكيد سيموت البعوض الآخر، الذي لا يملك النسخة الجينية المفيدة، ولا ينقل جيناته إلى الجيل التالي.
- وبمرور الوقت، تصبح النسخة الجينية المقاومة أكثر شيوعًا بين مجموعات البعوض. نظرًا لأن البعوض المقاوم لديه فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة للتكاثر، يفقس كل جيل المزيد والمزيد من البعوض الذي يحمل النسخة الجينية المقاومة.
مقاومة المبيدات الحشرية هي تكيف البعوض مع البيئة التي يتعرض فيها بشكل متكرر للمبيدات الحشرية. وفي الواقع، قد تكون المقاومة مجرد البداية. قد يستخدم البعوض المقاوم رائحة المبيدات الحشرية للمساعدة في تحديد مصادر الغذاء. وفي إحدى التجارب، انجذب البعوض المقاوم إلى وجبة دم محتملة خلف ناموسية معالجة بالمبيدات الحشرية أكثر من انجذابه إلى وجبة دم خلف ناموسية غير معالجة!
لقد غيّر البعوض أين ومتى يعض. تتغذى بعض أنواع البعوض الحاملة للأمراض معظم وقتها في داخل البيوت ليلاً. ومن ثم، تركز جهود المكافحة في كثير من الأحيان على الرش حول المنازل وعلى استخدام الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية. ومع ذلك، في بعض هذه الحالات على الأقل، غيّر البعوض سلوكه، إذ تحوّل البعض وأصبح يلسع في الهواء الطلق وفي المساء أو الصباح. فهل تطورت هذه السلوكيات الجديدة المفيدة؟ أي هل شفرتها نسخ جينية أصبحت أكثر تواترًا لأن البعوض الذي يحملها كان قادرًا على الحصول على الغذاء وتجنب المبيدات الحشرية القاتلة؟ أم أنها أكثر شيوعًا الآن بسبب اللدونة المظهرية، أي هل هذه السلوكيات استجابة لشيء ما في البيئة؟ الإجابات على هذه الأسئلة ليست واضحة بعد. أظهرت تجربة حديثة أن بعض الاختلافات في وقت العض المفضل كانت ناجمة عن الاختلافات الجينية بين البعوض، أي أن هناك تباينًا وراثيًا في المجموعة السكانية فيما يخص هذه السمة. ويشير هذا إلى أن الانتقاء الطبيعي يمكن أن يؤثر على توقيت العض بطرق تشكل سلوك الحيوان، ولكن ليس من الواضح بعد ما إذا كان قد فعل ذلك بالفعل.
يوجد شيء واحد يوضحه البحث وهو أن البعوض، بأحجامه السكانية الكبيرة وأجياله المتعددة كل عام، يمكن أن يتطور بسرعة، بل وبسرعة أكبر بكثير مما نتخيل؛ لأننا نعمل على تطوير مبيدات حشرية جديدة واستراتيجيات وقائية. ويتعين على علماء الأحياء والعاملين في مجال الصحة العامة أن يأخذوا هذا التطور في الاعتبار في أي استراتيجية طويلة الأجل للحد من المعاناة الإنسانية الهائلة الناجمة عن الأمراض التي ينقلها البعوض.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: evolution.berkeley.edu