يصادف يوم 24 نوفمبر 2023 مرور 164 عامًا على نشر كتاب تشارلز داروين الثوري «أصل الأنواع»، وهو أحد أكثر الكتب العلمية تأثيرًا على الإطلاق. وتقديرًا لذلك، يُعرف يوم 24 نوفمبر باسم «يوم التطور» أو «يوم جميع أعمامنا قرود». يشعر الباحثون في معهد أبحاث السرطان بأنه من واجبهم إحياء ذكرى هذا العمل المهم الذي تحدى فهمنا للعالم الطبيعي، ولأشياء أخرى أيضًا.
عند التفكير في التطور (العملية التي تتغير من خلالها الخصائص الوراثية للكائنات الحية على مدى أجيال متتالية) فإننا نميل إلى التركيز على التكوين الظاهري للهياكل والأنواع الجديدة.
إننا نفضل دائمًا أن نفهم العملية ونشرحها من خلال النظر في الأمثلة المعروفة، مثل كيفية تطور البشر من القردة العليا، وكيف طورت العصافير في جزر غالاباغوس مناقير مختلفة الشكل لتناسب مصادر غذائها، وكيف طورت الحشرات والطيور والخفافيش بشكل منفصل القدرة على الطيران.
الجانب المظلم من النجاة
نقصد بهذا العنوان الإضاءة على فكرة أننا عادة ما ننظر إلى الإيجابيات وراء تطور الكائنات. ولا يوجد حاليًا نوع آخر غيرنا نحن البشر ليجادلنا في ذلك. ففي نهاية المطاف، من دون الإصبع الأوسط الكبير لن يكون حيوان الآيآي قادرًا على البحث عن اليرقات في الأشجار، وسيتعين عليه التنافس مع الحيوانات الأخرى للحصول على طعامه. أما بالنسبة لقنفذ البحر فقد زاد من فرصته في البقاء على قيد الحياة من خلال قدرته على تجديد أجزاء من جسمه بعد إصابتها، ومن خلال التكيف للعيش في الماء كحيوان بالغ.
قد تجد في بعض الأمثلة الأكثر تطرفًا، في حال انعدام وجود الماء، يتخذ بطيء الخطو (أو خنزير الطحلب) شكلًا جافًا يسمى «تون»، والذي يمكنه البقاء على قيد الحياة عند تخزينه في الثلاجة لسنوات، وإرساله إلى الفضاء، وتعريضه لضغوط عالية للغاية. وبمجرد عودة المياه، سوف «ينشط» ويعود إلى حياته الطبيعية.
إن القوة الهائلة للتطور لدعم البقاء في مملكة الحيوان واضحة.
لكن التطور لم يمنح الزرافة رقبتها الطويلة فحسب، وحيوان المدرع درعه، وسمكة الضفدع إغراءها المتخصص. لم يقدم التطور فوائده فقط إلى الكائنات الحية التي نريدها أن تزدهر. ففي نهاية المطاف، أي شيء له جينوم (سواء كان يحتوي على DNA أو RNA) يمكن أن يتطور مع مرور الوقت.
لقد أدركنا منذ فترة طويلة أن قدرة البكتيريا والفطريات على التطور قد تؤدي إلى مقاومة مضادات الميكروبات، وكان من المستحيل تقريبًا الهروب من الحديث عن تطور فيروس SARS-CoV-2. وعلى العكس من ذلك، لم يحظى التطور في مرض السرطان على الاهتمام خارج العالم العلمي والطبي. ومع ذلك، فهو شيء لا يمكننا تجاهله. وبما أن التطور منح الحيوانات «قوى خارقة»، فنحن بحاجة إلى احترام دوره في تطوير المرض.
التطور يؤدي إلى مقاومة الأدوية
في مركز التطور والسرطان في معهد أبحاث السرطان، يعمل العلماء من مختلف التخصصات معًا لتحديد سبب تعرض البشر للإصابة بالسرطان، وما الذي يحدد كيفية تطور السرطان بمرور الوقت وما يتعين علينا القيام به للتغلب على مقاومة الأدوية.
يمكن القول إن مقاومة الأدوية هي التحدي الأكثر أهمية في علاج السرطان. يوجد آليات مختلفة تقاوم فيها الخلايا السرطانية الأدوية، ولكن النتيجة هي نفسها، سيصبح العلاج غير فعال، وسيحتاج المريض إلى التحول إلى علاج مختلف، في حال وجوده أصلًا.
في بعض الحالات، تغير الخلايا السرطانية نمطها الظاهري (أي مظهرها أو سلوكها) بسبب طفرة جينية، مما قد يمنحها ميزة البقاء. ومع استمرار الخلايا الباقية في الانقسام وتكوين خلايا جديدة، ستكون هذه الميزة موجودة في نسبة متزايدة من الخلايا الورمية.
وفي حالات أخرى، تحدث تغييرات مفيدة من خلال آليات بديلة. يشير التطور غير الوراثي، والذي يُعرف غالبًا باسم الليونة المظهرية، عادةً إلى التغيرات في شكل الكائن الحي استجابةً لمحفز بيئي. فمثلًا، يمكن للخلية السرطانية أن تصبح مقاومة للعلاج الكيميائي، من دون اكتساب طفرة جينية.
استخدام القدرة التطورية للسرطان ضده
كتب البروفيسور تريفور غراهام، مدير مركز التطور والسرطان، والدكتور فريدي وايتنغ، عضو فريق تريفور، مقال رأي مؤخرًا يناقش الأساليب المختلفة لدراسة التطور غير الجيني في السرطان. ويشددون على أن الحصول على معلومات واضحة عن هذه العملية «أمر ضروري لتمكين تطوير علاجات تمنع تكيف السرطان مع العلاج أو تطور الورم».
وسلط المؤلفون الضوء في ورقتهم البحثية، التي نُشرت في مجلة Trends in Cell Biology، على أن الخلايا السرطانية يمكن أن تظهر أيضًا تغيرات ظاهرية غير وراثية لا تسببها البيئة بشكل مباشر ولكنها قد تمنحها ميزة انتقائية. يقترح المؤلفون أن هذا السيناريو البديل (إذ يمكن للأنماط الظاهرية أن تتغير بشكل عشوائي)، والذي أطلقوا عليه تسمية «الضوضاء المظهرية»، يمكن تمييزه بوضوح عن اللدونة المظهرية. وبما أن الضوضاء والليونة تغيران النمط الظاهري للخلية من خلال آليات مختلفة، يعتقد المؤلفون أن التمييز بينهما «سيؤدي في النهاية إلى تسريع الجهود المبذولة للسيطرة على أو منع تغيرات النمط الظاهري التي تمكن الخلايا السرطانية من مقاومة العلاجات».
فمثلًا، يعمل الباحثون حاليًا على تطبيق مبدأ «التوجيه التطوري». تستغل استراتيجية العلاج هذه مبادئ التطور، ولكنها لا يمكن أن تكون فعالة إلا في الحالات التي تكون فيها التغيرات البيئية الناجمة عن هذا العلاج مسؤولة عن خلق أنماط ظاهرية مقاومة للسرطان. للاستفادة من هذا النهج، يحتاج الباحثون إلى القدرة على التأكد من أن الليونة المظهرية هي التي المسؤولة عن حالات المقاومة وليس الضوضاء المظهرية.
قد تشمل الخيارات بعد ذلك العلاج التكيفي، وهو نهج ديناميكي يهدف إلى منع تطور السرطان بدلاً من محاولة قتل أكبر عدد ممكن من الخلايا السرطانية. والفكرة هي أنه من خلال إيقاف العلاج الكيميائي وتعديله، يترك الأطباء بعض الخلايا السرطانية المستجيبة للعلاج على قيد الحياة. يمنع ذلك الخلايا المقاومة للعلاج من السيطرة والنمو. على الرغم من أنه يجب على المرضى أن يتعايشوا مع بعض أعباء الورم، لكنهم سيتلقون جرعات أقل من الأدوية السامة التي تقتل السرطان، مما يحميهم من أسوأ الآثار الجانبية. أثبت العلاج التكيفي باستخدام الأبيراتيرون، وهو دواء لسرطان البروستات اكتشفه العلماء في معهد الأبحاث المختصة بالخلق في تكساس، نجاحه بالفعل في التجارب السريرية.
يوجد خيار آخر يتمثل في استخدام العلاج الأول لتطوير مجموعة الخلايا السرطانية بطريقة معينة قبل إعطاء دواء ثانٍ من المحتمل أن يكون فعالاً ضد هذه الخلايا المتغيرة. ويمكن وصف ذلك بأنه «توجيه تطور مجموعة الأورام باستخدام التكيف الدارويني مع الدواء».
أهمية التطور المشترك للجهاز المناعي والورم
على الرغم من أن العديد من العلماء يتفقون على أنه من الضروري مراعاة المبادئ التطورية عند علاج السرطان، لكن النظرية وحدها غير كافية. بالنسبة لكل نوع، وحتى للنوع الفرعي من السرطان، يحتاج العلماء إلى تحديد الأسباب التي تجعل السرطان يطور أنماطًا ظاهرية تجعله أقل حساسية للعلاج، وكيفية التعرف على ذلك وكيفية علاجه.
وفي الوقت نفسه، عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الاستجابة المناعية للمريض. يمتلك البشر جهازًا مناعيًا قويًا يتكون من شبكة من الخلايا والبروتينات والأعضاء. على الرغم من أن الجهاز المناعي تطور على مدى مئات الأجيال، لكن قد يطور الفرد مناعة خاصة خلال حياته.
لقد أثبت الباحثون أن مجموعات السرطان والجهاز المناعي يمكن أن يتطورا معًا، مما يعني أنهم «قد يستمرون في حالة توازن لفترات طويلة». يحدث هذا جزئيًا بسبب التعديل المناعي، وهي العملية التي يقوم بها الجهاز المناعي بتقييد نمو الورم أو تعزيزه. يمكن أن يحدث الأخير إذا فشل هجوم الجهاز المناعي في القضاء على الورم، مما يترك الخلايا المقاومة في مكانها. مما سيؤدي إلى انتقاء الخلايا المراوغة المناعية، بالتالي سيصبح السرطان أكثر عدوانية.
في دراسة حديثة قادها الدكتور لويس زاباتا أورتيز، وهو الآن قائد مجموعة علم المناعة الجيني التطوري في معهد الأبحاث المختصة بالخلق، ونشرت في مجلة Nature Genetics، وجد العلماء طريقة للتمييز بين نوعين من الخلايا السرطانية التي كانوا يدرسونها.
يفتقر النوع الأول، الذي وصفه المؤلفون بأنه «محرر مناعيًا»، إلى المستضدات المستحدثة (البروتينات الأجنبية التي تولد استجابة مناعية) في حين طور النوع الثاني، الموصوف بـ «المفلت من المناعة» القدرة على تجنب الجهاز المناعي على الرغم من تراكم المستضدات المستحدثة فيه؛ وذلك إما من خلال الطفرات أو التعبير عن بروتينات معينة تساعدها على «الاختباء». ووجد الفريق أن الأورام التي هربت من جهاز المناعة استجابت بشكل جيد للعلاج المناعي، في حين أثبت هذا العلاج عدم فعاليته في علاج الأورام التي تحررت من جهاز المناعة (نتيجة افتقارها إلى المستضدات).
وقال الدكتور لويس زاباتا أورتيز: «إنه مثال قوي على استخدام التطور كمؤشر حيوي للاستجابة للعلاج. نحن بحاجة إلى أن نأخذ في الاعتبار دور الجهاز المناعي في نحت جينوم السرطان حتى نتمكن من التأكد من إعطاء العلاج المناعي للمرضى الذين سيستجيبون له فقط».
كيف يمكن لجسم الإنسان أن يؤثر على تطور السرطان
في بحث تكميلي، متوفر حاليًا كنسخة أولية على موقع bioRxiv، قام فريق من الباحثين بقيادة البروفيسور غراهام والدكتورة آني بيكر، عضو في فريقه، بتطوير والتحقق من صحة منهجية التسلسل التي تجعل من الممكن تحليل كيفية استجابة الجهاز المناعي للخلايا السرطانية باستخدام عينة صغيرة فقط. يكشف هذا عن كيفية تفاعل خلايا الدم البيضاء التي تسمى الخلايا التائية عندما تواجه خلايا سرطانية ذات طفرات مختلفة وكيف تتصرف بمجرد أن يصبح السرطان غازيًا. نظرًا لأنها لا تتطلب معدات متخصصة، فإن هذه المنهجية متاحة لمعظم مختبرات البيولوجيا الجينومية والجزيئية، لذلك يمكن للعلماء في جميع أنحاء العالم استخدامها لتطوير فهم أفضل للتطور المشترك بين الورم والمناعة.
جهاز المناعة ليس الجزء الوحيد من جسم الإنسان الذي يمكن أن يؤثر على تطور السرطان. فللميكروبيوم (وهو مجموعة كل البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى التي تعيش في الجسم) دورًا هامًا أيضًا.
توصلت أبحاث إضافية حديثة بقيادة البروفيسور أندريا سوتوريفا، قائد مجموعة الجينوم التطوري والنمذجة في مركز التطور والسرطان في معهد الأبحاث المختصة بالخلق إلى أن الأشخاص المصابين بسرطان القولون يمتلكون نسبًا أعلى بكثير من بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) التي تملك جينًا خاصًا يعرف باسم pks+ E. Coli. يشفر هذا الجين مادة كيميائية تسمى كوليباكتين والتي يمكن أن تسبب ضررًا للحمض النووي، مما قد يؤدي إلى طفرة تؤدي إلى السرطان. هذه النتيجة مهمة لأن تطور سرطان القولون والمستقيم لا يزال غير مفهوم جيدًا، والطفرات المعروفة لا تفسره بشكل كامل.
على الرغم من أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد تورط جين pks+ E. Coli في تطور سرطان القولون، لكن يملك هذا العضو في الميكروبيوم المعوي القدرة على العمل كمؤشر حيوي لخطر الإصابة بسرطان القولون. ومن المقرر أن تُنشر الورقة في مجلة Nature Communications.
الاحتفال بالتقدم في الأبحاث
على الرغم من أن تطور السرطان هو المسؤول عن العديد من صعوبات العلاج، لكننا نتخذ باستمرار خطوات للأمام في فهمنا لكيفية عمله وكيف يمكننا مواجهته أو استغلاله.
قال البروفيسور تريفور غراهام، مدير مركز التطور والسرطان في نعهد الأبحاث المختصة بالخلق: «من نواحٍ عديدة، تشبه العملية التي يتطور بها السرطان داخل الجسم تطور الأنواع. المجموعات السكانية الفرعية من الخلايا السرطانية مع الطفرات التي تمنحها ميزة البقاء على قيد الحياة سوف تتوسع، في حين أن تلك التي تحتوي على تغيرات غير مفيدة لن تتوسع. ويتبع ذلك المزيد من الطفرات، غالبًا استجابة للعوامل البيئية، مثل الميكروبيوم والعلاجات التي تقتل السرطان. وبمرور الوقت، يصبح السرطان أكثر تكيفًا مع بيئة مضيفه، مما يجعل السرطان أكثر عرضة للتطور وأكثر صعوبة في العلاج».
«إذا لم نتعلم كيفية العمل مع هذا التطور أو التغلب عليه، فسوف نظل مقيدين بمقاومة العلاج. نعمل في المعهد بجد لتطبيق مبادئ التطور على أبحاثنا حتى نتمكن من تحسين التشخيص والعلاج والوقاية من السرطان».
«إذا تمكنا من فهم تطور السرطان (كيف يتطور وينتشر ويصبح مقاومًا للعلاج) فيمكننا البدء في التنبؤ بسلوكه. وهذا سيمنحنا ميزة كبيرة عندما يتعلق الأمر بالوقاية من المرض وعلاجه. يستمر السرطان في مفاجأتنا وإرباكنا. ولكن بفضل فهمنا للتطور، فإننا نقوم بتوسيع معرفتنا بسرعة أكبر من أي وقت مضى. سيكون داروين فخورًا».
في يوم التطور، لا نحتفل فقط بالحيوانات الغريبة التي تعيش على كوكبنا، ولكن أيضًا بالعقل البشري المتطور للغاية القادر على إجراء الأبحاث العلمية المذهلة التي تنقذ الحياة وتحسنها.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org