انفصل البشر عن أقرب أقربائنا من الحيوانات، الشمبانزي، وشكلوا فرعنا الخاص على الشجرة التطورية منذ حوالي سبعة ملايين سنة. في ذلك الوقت (باختصار، ومن منظور تطوري) طور أسلافنا السمات التي تجعلنا بشرًا، بما في ذلك دماغ أكبر بكثير من دماغ الشمبانزي وأجسامنا الأكثر ملاءمة للمشي على القدمين. نتجت هذه الاختلافات الجسدية عن تغييرات طفيفة على مستوى حمضنا النووي. ولكن من الصعب تحديد الاختلافات الجينية الصغيرة العديدة بيننا وبين الشمبانزي، والتي لها الدور الأهم في تطورنا.
يستخدم بحث جديد يشارك فيه جوناثان وايزمان، وهو باحث في معهد وايتهيد، ومن جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو الأستاذ المساعد أليكس بولين، ومن مختبر وايزمان أستاذ ما بعد الدكتوراة ريتشارد شي، وطالب الدراسات العليا في مختبر بولن تايلر فير وزملاؤه أدوات متطورة من مختبر وايزمان لتضييق نطاق الاختلافات الرئيسية في كيفية اعتماد البشر والشمبانزي على جينات معينة. قد توفر النتائج التي توصلوا إليها، والتي نُشرت في مجلة Cell في 20 يونيو، أدلة فريدة حول كيفية تطور البشر والشمبانزي، بما في ذلك كيف أصبح البشر قادرين على امتلاك أدمغة كبيرة نسبيًا.
دراسة الوظيفة بدلًا من الشفرة الجينية
يختلف القليل فقط من الجينات اختلافًا جوهريًا بين البشر والشمبانزي. جينات باقي النوعين متطابقة تقريبًا. تقتصر الاختلافات بين الأنواع إلى متى وكيف تستخدم الخلايا تلك الجينات المتطابقة تقريبًا. ومع ذلك، فقط البعض من هذه الاختلافات في استخدام الجينات بين النوعين هي سبب التغييرات الكبيرة في السمات الجسدية. طور الباحثون طريقة للتقليل من هذه الاختلافات الهامة.
تعتمد طريقتهم على استخدام الخلايا الجذعية المستمدة من عينات الجلد البشري والشمبانزي، باستخدام أداة تسمى تداخل كريسبر (كريسبر آي: CRISPRi) التي طورها مختبر وايزمان. يستخدم CRISPRi نسخة معدلة من نظام تحرير الجينات كريسبر كاس 9 CRISPR / Cas9 لتعطيل الجينات بشكل فردي. استخدم الباحثون تقنية CRISPRi لتعطيل كل جين واحدًا تلو الآخر في مجموعة من الخلايا الجذعية البشرية ومجموعة من الخلايا الجذعية للشمبانزي.
وتابعوا دراستهم لمعرفة ما إذا كانت الخلايا تتكاثر بمعدلها الطبيعي أم لا. إذا توقفت الخلايا عن التكاثر بسرعة أو توقفت تمامًا، سيكون الجين المُعطّل ضروريًا: فالجين الذي تحتاجه الخلايا لتنمو توقف عن العمل. بحث العلماء عن الحالات التي يكون فيها الجين ضروريًا في نوع واحد فقط كطريقة لاستكشاف ما إذا كانت هناك اختلافات جوهرية في الطرق الأساسية التي تعمل بها الخلايا البشرية وخلايا الشمبانزي.
من خلال البحث عن الاختلافات في كيفية عمل الخلايا (أدائها لوظائفها) بعد تعطيل جينات معينة، بدلًا من دراسة الاختلافات في تسلسل الحمض النووي أو التعبير عن الجينات، يتجاهل النهج الاختلافات التي لا يبدو أنها تؤثر على الخلايا. إذا كان للاختلاف في استخدام الجينات بين الأنواع تأثير كبير وقابل للقياس على مستوى الخلية، فقد يعكس هذا اختلافًا مهمًا بين الأنواع على نطاق فيزيائي أكبر، وبالتالي فإن الجينات المحددة بهذه الطريقة قد تكون مرتبطة بالسمات المميزة التي ظهرت على تطور الإنسان والشمبانزي.
يقول وايزمان، وهو أيضًا أستاذ علم الأحياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وباحث في معهد هوارد هيوز الطبي «تكمن المشكلة في دراسة تغييرات التعبير أو التغييرات في تسلسل الحمض النووي في أن هناك العديد منها وأهميتها الوظيفية غير واضحة، تبحث هذه الطريقة في كيفية تفاعل الجينات لأداء العمليات البيولوجية الرئيسية، وما نراه من خلال طريقتنا هو أنه، حتى في النطاق الزمني القصير للتطور البشري، كان هناك تجديد أساسي للخلايا».
بعد الانتهاء من تجارب CRISPRi، جمع شي قائمة بالجينات التي بدت ضرورية في نوع واحد دون الآخر. ثم بحث عن الأنماط.
جمع العلماء العديد من الجينات الـ 75 التي حددتها التجارب معًا في نفس المسارات، أي أن هذه الجينات تشترك معًا في نفس العمليات البيولوجية. قد لا يكون للتغييرات الفردية الصغيرة في استخدام الجينات تأثيرًا كبيرًا، ولكن عندما تتراكم هذه التغييرات في نفس المسار البيولوجي أو العملية، قد تسبب مجتمعة تغييرًا جوهريًا في الأنواع. عندما حدد نهج الباحثين الجينات التي تتجمع في نفس العمليات، اقترح هذا لهم أن نهجهم قد نجح وأن هذه الجينات قد تكون متورطة في تطور الإنسان والشمبانزي.
يقول بولن: «يمكننا مقارنة عزل التغييرات الجينية التي جعلتنا بشرًا بالبحث عن إبرة في كومة من القش؛ إذ يوجد ملايين الاختلافات الجينية، ومن المرجح أن يكون لها تأثيرات ضئيلة على السمات. ولكننا نعلم أن هناك الكثير من الطفرات ذات التأثير الصغير التي قد تفسر في المجمل العديد من الاختلافات في الأنواع. يسمح لنا هذا النهج الجديد بدراسة هذه التأثيرات، بالتالي نستطيع بذلك تقييم تأثير كومة القش على الوظائف الخلوية».
يعتقد الباحثون أن الأدمغة الأكبر قد تعتمد على الجينات التي تنظم سرعة انقسام الخلايا
برزت مجموعة واحدة أمام الباحثين: مجموعة من الجينات الأساسية عند الشمبانزي، غير الموجودة عند البشر، والتي تساعد على التحكم في دورة الخلية، والتي تنظم متى وكيف تنقسم الخلايا. لطالما افتُرض أن تنظيم دورة الخلية يلعب دورًا في تطور الأدمغة الكبيرة للإنسان. تنص الفرضية على التالي: الخلايا السلفية العصبية هي الخلايا التي ستصبح خلايا عصبية وخلايا دماغية أخرى. قبل أن تصبح خلايا دماغية ناضجة، تنقسم الخلايا السلفية العصبية عدة مرات لتكوين المزيد من الخلايا. كلما زاد عدد الانقسامات التي تخضع لها الخلايا السلفية العصبية، زاد عدد الخلايا الدماغية، وهكذا، سيكون الدماغ أكبر.
يعتقد الباحثون أن شيئًا ما تغير أثناء التطور البشري للسماح للخلايا السلفية العصبية بقضاء وقت أقل في مرحلة عدم الانقسام من دورة الخلية والانتقال بسرعة أكبر نحو الانقسام. سيؤدي هذا الاختلاف البسيط إلى انقسامات إضافية، كل منها يمكن أن يضاعف بشكل أساسي العدد النهائي لخلايا الدماغ.
بحسب الفرضية الشائعة القائلة بأن سلالات الخلايا العصبية البشرية قد تخضع لمزيد من الانقسامات، مما سيؤدي إلى دماغ أكبر، وجد الباحثون أن العديد من الجينات التي تساعد الخلايا على الانتقال بسرعة أكبر خلال دورة الخلية ضرورية في الخلايا العصبية السلفية للشمبانزي ولكن ليس في الخلايا البشرية.
عندما تفقد الخلايا السلفية العصبية للشمبانزي هذه الجينات، تبقى في مرحلة عدم الانقسام، ولكن عندما تفقدها الخلايا البشرية، فإنها تستمر في الدوران والانقسام. تشير هذه النتائج إلى أن السلالات العصبية البشرية قد تكون أكثر قدرة على تحمل الضغوط (مثل فقدان جينات دورة الخلية) التي من شأنها أن تحد من عدد الانقسامات التي تخضع لها الخلايا، مما يمكّن البشر من إنتاج خلايا كافية لبناء دماغ أكبر.
بحسب شي: «هذه الفرضية موجودة منذ فترة طويلة، وأعتقد أن دراستنا هي من بين أولى الدراسات التي أظهرت أن هناك اختلافًا في الأنواع في كيفية تنظيم دورة الخلية في سلالات الخلايا العصبية. لم تكن لدينا أية فكرة عن الجينات التي سوف يسلط نهجنا الضوء عليها، وكان من المثير حقًا أن إحدى أقوى النتائج التي توصلنا إليها تتوافق مع هذه الفرضية الحالية».
تؤدي المزيد من الدراسات إلى نتائج أكثر قوة
غالبًا ما تستخدم الأبحاث التي تقارن الشمبانزي بالبشر عينات من فرد واحد أو فردين فقط من كل نوع، لكن استخدمت هذه الدراسة عينات من ستة بشر وستة قرود شمبانزي. من خلال التأكد من أن الأنماط التي لاحظوها كانت متسقة عبر أفراد متعددين من كل نوع، استطاع الباحثون تجنب الخطأ في التباين الجيني الذي يحدث بشكل طبيعي بين الأفراد كممثل للأنواع بأكملها. سمح لهم ذلك بأن يكونوا واثقين من أن الاختلافات التي حددوها كانت بالفعل اختلافات بين الأنواع.
قارن الباحثون أيضًا النتائج التي توصلوا إليها عن الشمبانزي والبشر بإنسان الغاب الذي انفصل عن الأنواع الأخرى في وقت سابق في تاريخنا التطوري المشترك. سمح لهم ذلك بمعرفة أين حدث تغيير استخدام الجينات على الشجرة التطورية. إذا كان الجين ضروريًا في كل من الشمبانزي وإنسان الغاب، فمن المحتمل أنه كان ضروريًا في السلف المشترك لجميع الأنواع الثلاثة، ومن المرجح أن يكون اختلاف معين قد تطور مرة واحدة في سلف مشترك أكثر من تطوره بشكل مستقل عدة مرات. إذا لم يعد الجين نفسه ضروريًا عند البشر، فمن المرجح أن دوره تحول بعد انفصال البشر عن الشمبانزي.
باستخدام هذا النظام، أظهر الباحثون أن التغييرات في تنظيم دورة الخلية حدثت أثناء التطور البشري، بما يتفق مع الاقتراح القائل بأنهم ساهموا في توسيع دماغ البشر.
يأمل الباحثون ألا يؤدي عملهم إلى تحسين فهمنا لتطور الإنسان والشمبانزي فحسب، بل يوضح أيضًا قوة طريقة CRISPRi لدراسة التطور البشري ومجالات أخرى من علم الأحياء البشري. يستخدم الباحثون في مختبري وايزمان وبولن هذه الطريقة لفهم الأمراض البشرية بشكل أفضل، بحثًا عن الاختلافات الدقيقة في استخدام الجينات التي قد تكمن وراء سمات مهمة مثل ما إذا كان شخص ما معرضًا لخطر الإصابة بمرض ما، أو كيف سيستجيب للأدوية.
يتوقع الباحثون أن طريقتهم ستمكنهم من فرز العديد من الاختلافات الجينية الصغيرة بين الناس لتضييق نطاق السمات الأساسية الكامنة وراء الصحة والمرض، تمامًا مثلما استطاعوا تضييق نطاق التغييرات التطورية التي ساعدتنا لنكون ما نحن عليه اليوم.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org