اكتُشف مسلخ لفيلة الماموث عمره 37000 عام في نيو مكسيكو، والذي قد يكون أول دليل على وجود البشر في أمريكا الشمالية وفقًا لبحث مثير للجدل. تظهر على بعض العظام علامات على تعامل البشر معها أو حتى استخدامها كأدوات ويعتبر هذا «أحد أهم الأدلة القاطعة» حتى الآن بأن البشر استقروا في أمريكا الشمالية في وقت أبكر بكثير مما اعتقده الخبراء سابقًا، وفقًا للدراسة الجديدة.
إن صحت رؤية الفريق بشأن النشاط البشري في الموقع، فهذا يعني أن الوقت الذي قضاه البشر في أمريكا الشمالية يبلغ ضعف الوقت المقدر سابقًا. بيد أن تحديد التاريخ الدقيق لظهور البشر للمرة الأولى في أمريكا الشمالية كان مثار جدل على امتداد العقود القليلة الماضية، وقد رُفضت دراسات مماثلة باعتبارها غير حاسمة. يشكك بعض الخبراء في الاستنتاجات التي توصل إليها الفريق من بقايا الماموث.
اكتُشف الموقع الجديد على هضبة كولورادو شمال نيو مكسيكو، بعد أن لاحظ المتسلق غاري هارتلي نابًا بازغًا عبر سطح التربة. أطلق الباحثون على الموقع اسم «محلية هارتلي للماموث» تكريمًا له.
كشفت عمليات التنقيب في موقع هارتلي عن بقايا غير مكتملة لفيليّ ماموث يعتقد أنهما أنثى بالغة وفيل يافع صغير. وكانت قد جُمعت أغلب العظام ضمن كومة كبيرة مع وضع جمجمة الأنثى البالغة على قمتها. باستخدام الكولاجين الكربوني الموجود في العظام، قدر الباحثون أن البقايا يمكن أن تعود إلى ما بين 36250 و38900 عام.
وقال الباحثون إن بعض العظام تبدو وكأنها منحوتة كسكاكين بدائية استُخدمت في ذبح فيلة الماموث. وأظهرت عظام أخرى علامات تكسر بفعل رضوض حادة كليلة جراء استخدام الصخور التي عُثر عليها أيضًا ضمن كومة العظام. ثمة أيضًا علامات تثقيب في بعض أضلاع فيلة الماموث، ربما تكون ناتجة عن محاولات البشر للحصول على العناصر الغذائية القيمة بداخلها
كما تضمنت الجسيمات الدقيقة الموجودة في الرواسب المحيطة بالعظام رمادًا متبلورًا اشتبه الباحثون أنه نتيجة إضرام نار استُخدمت لطهي لحم الماموث بالإضافة إلى الحيوانات الصغيرة الأخرى.
قال كبير مؤلفي الدراسة تيموثي رو، عالم الحفريات في جامعة تكساس في أوستن «ما تحصّلنا عليه مذهل للغاية».
متى وصل الأمريكيون الأوائل؟
حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أشارت الأدلة الأثرية إلى أن شعب كلوفيس – مجموعة من البشر الأوائل الذين يمكن التعرف عليهم من خلال أسلحة ذات أشكال مميزة – كانوا أول البشر في أمريكا الشمالية، إذ وصلوا قبل حوالي 13000 عام. لكن الاكتشافات الحديثة كشفت أنه من المحتمل وجود مجموعة منفصلة وراثيًا، تُعرف باسم شعب ما قبل الكلوفيس، عاشت في أمريكا الشمالية قبل وصول شعب كلوفيس «أسلاف الهنود».
ثبت الآن بقوة أن شعب ما قبل كلوفيس كانوا أول البشر الذين عاشوا في أمريكا الشمالية، ويمكن تتبعهم بصورة موثوقة حتى 16000 عام، وفقًا لجاستن تاكني، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة كانساس والمتخصص في المستوطنات البشرية من الأمريكتين ولم يشارك في الدراسة.
يشير هذا الإطار الزمني إلى أن أفراد ما قبل كلوفيس وصلوا أمريكا الشمالية بعد نهاية الذروة الجليدية الأخيرة (LGM) – وهي الفترة الأخيرة عندما كانت امتداد الغطاء الجليدي عبر الأرض في أقصاه، ما بين 26500 و 20000 سنة مضت. من المحتمل أن تكون الصفائح الجليدية الذائبة قد وفرت لشعب ما قبل الكلوفيس فرصة لعبور جسر يابسة بيرنجيا الذي ربط في السابق أمريكا الشمالية وآسيا.
ومع ذلك، زعمت عدة دراسات خلافية حديثة أن شعب ما قبل الكلوفيس ربما يعود تاريخه إلى ما قبل العصر الحديث. لكن تاكني قال إن هذه الفكرة كانت «حقيقة صعبة التقبّل» بالنسبة لمعظم الخبراء لأن الأدلة من هذه الدراسات ليست حاسمة.
كشفت دراسة أجريت عام 2017 عن كومة مماثلة من عظام الماموث في موقع بالقرب من سان دييغو، كشفت أن العظام قد استخدمها البشر ويمكن أن يعود تاريخها إلى حوالي 130 ألف عام، ما يشير إلى أن البشر ربما كانوا أطول بنحو 10 مرات مما كان يُعتقد سابقًا. ومع ذلك، جادل النقاد بأن ميلان العظام غير الاعتيادي و«التآكل والتلف» يمكن تفسيره أيضًا بالعمليات الطبيعية وأنها ليست بالضرورة من صنع الإنسان.
في عام 2020، زعمت مجموعة أخرى من الباحثين أعثورهم على صخور غريبة الشكل في كهف مكسيكي ربما استُخدمت كأدوات حجرية يعود تاريخها إلى حوالي 30 ألف عام. لكن دراسة أخرى، نُشرت عام 2021، شككت بحقيقة أن شكل الصخور وحده دليل كافي لإثبات أنها من صنع الإنسان.
يمكن أن تسبب هكذا دراسات إشكاليات لأن ارتباط الأدلة بالبشر غير محسوم. إنما يكون البشر أحد التفاسير المعقولة. هذا يعني أن الباحثين غالبًا ما يتصورون سردًا يناسب الأدلة، بدلاً من إيجاد دليل واضح على ما حدث بالفعل.
قال تاكني: «عادة ما يخطئ الأشخاص في مجالنا بهامش الحذر، ويفضلون التفسيرات الأبسط. ولهذا أنا دائمًا متشكك للغاية في التقارير الواردة من مواقع حفريات كهذه».
حتى الآن، يأتي الدليل الأكثر حسمًا على مستوطنة ما قبل الذروة الجليدية الأخيرة لشعب ما قبل كلوفيس من دراسة عام 2021، والتي كشفت عن مجموعة من 60 أثرًا لأقدام بشرية اكتُشفت في متنزه وايت ساندز الوطني في نيو مكسيكو. يعود تاريخ المسارات المتحجرة إلى ما بين 21000 و 23000 عام بناءً على المواد العضوية المحصورة داخل آثار الأقدام، ما يشير إلى أن شعب ما قبل كلوفيس ربما انتقل إلى أمريكا الشمالية قبل أو أثناء الذروة الجليدية الأخيرة، لكن هذا الاكتشاف لم يكن كافيًا لتسوية الجدل.
دليل جديد
في الدراسة الجديدة، حلل الباحثون العظام الموجودة في موقع هارتلي باستخدام تقنيات عدة متضمنةً التصوير المقطعي عالي الدقة والمجهر الإلكتروني الماسح.
كشفت هذه التحليلات أن حفنة من العظام أظهرت علامات كسر بسبب رض حاد كليل، بالأخص جمجمة أنثى الفيل البالغة. أظهرت معظم الضلوع علامات على اقتطاعها من الفقرات وبعضها أظهرت علامات ثقب يعتقد الباحثون أنها صنيعة الإنسان لاستخراج النخاع الدهني من داخل العظام، وفقًا للدراسة. يظهر عظم ضلع واحد على الأقل أيضًا علامات تشبه جروح يمكن أن يسببها الإنسان.
قال رو: «تتمتع أنماط الذبح بسمات مميزة جدًا».
حدد الفريق أيضًا نحو 12 شذرة عظمية، وهي شظايا عظمية حادة الحواف، ويعتقد الباحثون أنها استخدمت كسكاكين لتقطيع لحم الماموث. ثمة أيضًا العديد من الشذرات الناعمة، التي يبلغ طولها أقل من 1.2 بوصة (3 سم)، والتي صُممت على الأرجح كمنتج ثانوي عندما استُخدمت العظام كسكاكين بدائية. لا يمكن أن تأتي كل هذه الشذرات والشذرات الدقيقة من عظام فردية، ولكن ثمة أدلة على أنها منحوتة إما بشكل عمودي أو موازي لبعض العظام، ما يشير إلى أنها لم تُصنع عشوائيًا بعمليات طبيعية، وفقًا للدراسة.
عُثر أيضًا على صخرة كبيرة والعديد من الصخور بحجم قبضة اليد بين عظام الماموث، والتي يعتقد الباحثون أنها استُخدمت للمساعدة بتهشيم العظام وكسرها.
وجد الفريق أيضًا أدلة محتملة على إضرام نار مضبوطة في الموقع. إذ ثمة جزيئات صغيرة من الرماد المتبلور في الرواسب، مماثلة لتلك الموجودة في المواقد القديمة من الدراسات السابقة. يشير التحليل الكيميائي للجسيمات إلى أنها تشكلت ضمن نار مضبوطة وليس جراء حريق غابات أقوى أو ضربة صاعقة قديمة. كان هناك أيضًا شظايا عظام من حيوانات أصغر وربما حتى قشور سمكية، ما يشير إلى أن البشر ربما طهوا أكثر من مجرد حيوان الماموث في الموقع.
ومع ذلك، مايزال بعض الخبراء متشككين.
لوريان بورجون، عالمة الآثار في جامعة كانساس والمتخصصة في عظام الحيوانات القديمة، والماموث من ضمنها، والتي لم تشارك في الدراسة، لـ Live Science في رسالة بريد إلكتروني. «لا يمكننا بالمطلق استبعاد دور العوامل الطبيعية أيضًا»
قالت بورجون إنه قد يكون من الصعب جدًا عزو النشاط البشري إلى العظام القديمة لأن العمليات الطبيعية – كالتجوية والدهس وترسيب الطبقات – يمكن أن تسبب أضرارًا مماثلة للعظام.
قالت بورجون إنه بدون دليل واضح ودامغ على الاستخدام البشري أو بقايا بشرية، يكاد يستحيل إثبات الضرر الناجم عن النشاط البشري. وأضافت أن الأحجار الموجودة داخل كومة الماموث والرقائق العظمية ليست كافية لتأكيد استخدام الأداة.
وقالت بورجون «أعتقد أن هذا سيظل موقعًا آخرًا مثيرًا للجدل».
أقر الباحثون بأن بعض الخبراء قد يكونون متشككين في النتائج التي توصلوا إليها، خاصة عند تحليلها بشكل فردي، لكنهم يعتقدون أن الجمع بين جميع الأدلة الموجودة في موقع هارتلي يرسم صورة واضحة للنشاط البشري.
قال رو «إنه ليس موقعًا جذابًا يحوي هيكلًا عظميًا جميلًا. كل شيء مكسر ومهشم، لكن هذه هي القصة».
نُشرت الدراسة على الإنترنت في 7 يوليو في مجلة Frontiers in Ecology and Evolution.
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: iflscience