تفضل الحياة البنى المتناظرة دونًا عن المعقدة
التناظر في علم الأحياء هو القاعدة وليس الاستثناء. تمتلك أجسادنا نصفين، يمين ويسار، ونجم البحر يتشعب من نقطة مركزية، وحتى الأشجار، رغم أنها غير متناظرة إلى حد كبير، فهي تنتج أزهارًا متناظرة. في الواقع، يبدو عدم التناظر في علم الأحياء نادرًا جدًا بالمقارنة.
هل هذا يعني أن التطور يفضل التناظر؟ في دراسة جديدة، قالت مجموعة دولية من الباحثين بقيادة إيان جونستون، الأستاذ في قسم الرياضيات في جامعة بيرغن في النرويج، أن التطور يفضل ذلك بالفعل.
على الرغم من أن الهياكل المتناظرة لا تمثل سوى جزء صغير من الأشكال الممكنة -على الأقل في الهندسة- نرى التناظر في كل مكان ضمن الكائنات الحية. إنها أيضًا ليست مجرد ظاهرة تصميم الجسم. فحتى البروتينات -الآلية الجزيئية داخل الجسم- متناظرة إلى حد كبير أيضًا، وغالبًا ما تتكون من سلسلة من أجزاء نمطية متكررة. غالبًا ما تُرى الهياكل المتكررة في الحيوانات أيضًا؛ فكر في مئويات الأرجل، بأجزاء الجسم المتكررة. سبب هذا «التفضيل» الواضح لا تحركه الجماليات. بدلاً من ذلك، وفقًا للباحثين، يتعلق الأمر بالبساطة.
كتب جونستون وزملاؤه في الدراسة الجديدة: «قد يكون مغريًا الافتراض أن التناظر والنمطية ينبعان من الانتقاء الطبيعي». يمكن أن يتسبب الانتقاء الطبيعي في أن تغدو السمات المفيدة أكثر شيوعًا لأن تلك السمات تساعد على البقاء. ومع ذلك، فإن الانتقاء الطبيعي قادر فقط على أن يجعل السمة المفيدة أكثر شيوعًا أو يلغي السمة الضارة؛ لا يمكن للانتقاء الطبيعي أن يؤدي لظهور سمات جديدة كليًا.
بدلاً من ذلك، يمكنه فقط تعزيز تأثيرات الطفرات التي تحدث عشوائيًا. على سبيل المثال، قد يصعب على الطيور رؤية العثث داكنة الأجنحة أكثر من العثث فاتحة الأجنحة. لذلك، من المرجح أن تغفل الحيوانات المفترسة عن العثث داكنة الأجنحة، ما يزيد من فرص بقاء المزيد من تلك الحشرات والتكاثر وتمرير هذه السمة إلى نسلها. لكن هذا لا يسبب ظهور الأجنحة السوداء قسرًا. يجب أن يتحور الجين ليحدث ذلك. وإذا قدمت الطفرة ميزة ما، فمن المرجح أن تستمر بين الأفراد لأجيال عدة حتى تصبح سمة مشتركة للنوع.
بالطريقة نفسها، قد يبدو أن الانتقاء الطبيعي يفضل التناظر فقط لأنه يُعطى في الغالب أشكالًا متناظرة أساسًا ليعمل بها. التفسير الأكثر احتمالًا لسبب تناسق البروتينات والأجسام ليس لأن التناظر يمنح ميزة البقاء، إنما لأن الأشكال المتناظرة والمتكررة تظهر بتواتر أكثر في المقام الأول.
إذن ما السبب وراء حدوث ذلك؟ من المحتمل أن تكون الأشكال المتناظرة قد تطورت بشكل متكرر ثم استمرت على مدى الزمن التطوري لأنها تتطلب غالبًا معلومات أقل لإنتاجها مما تتطلبه الأشكال غير المتناظرة.
قال جونستون في بيان: «افترض أنك بحاجة إلى إخبار صديق بكيفية تبليط الأرضية باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات. لن تقول، ضع الأشكال الماسيّة هنا، والمستطيلات الطويلة هناك، والمستطيلات العريضة هناك. بل يمكنك القول مثلًا، ضع بلاطات مربعة في كل مكان. وهذه الوصفة البسيطة والسهلة ستعطي نتيجة متناظرة للغاية».
اختبر جونستون وزملاؤه فرضية البساطة هذه باستخدام النمذجة الحوسبية. من خلال إجراء محاكاة لتطور البروتين، وجد الباحثون أن الطفرات العشوائية من المرجح أن تنتج تسلسلات جينية بسيطة أكثر من المعقدة. إذا كانت هذه الهياكل البسيطة جيدة بما يكفي للقيام بوظائفها، فيمكن عندئذٍ أن يتولى الانتقاء الطبيعي هذه الهياكل ويستفيد منها. في عمليات المحاكاة التي أجراها الباحثون، وكذلك في الحياة، فاق عدد البنى شديدة التناظر منخفضة التعقيد عددَ الهياكل المعقدة منخفضة التناظر.
تضع الدراسة محورًا جديدًا لما يسمى مبرهنة القرد اللامنتهية، وهي تجربة فكرية قديمة في مجال علم الأحياء التطوري، مفادها أنه لو كان قرد، كما تتنبأ المبرهنة، يكتب بشكل عشوائي لفترة غير محدودة، فسينتج في نهاية المطاف الأعمال الكاملة لشكسبير (أو ربما سيناريو فيلم «Die Hard»). جوهريًا، تشبه الطفرات العشوائية في الحمض النووي كتابة القرد. إذ لو مُنحت الوقت الكافي (والقرود الكافية)، فمن المؤكد أن بعض الطفرات الذكية ستظهر.
ولكن بحلول الوقت الذي ينتج فيه قرد افتراضي فهرس أعمال شكسبير بالكامل، من المحتمل أن يكون الكائن المجتهد قد كتب بالفعل عددًا كبيرًا من القصائد القصيرة. وبالمثل، إذا كانت البيولوجيا تعتمد كليًا على التعليمات الجينية المتولدة عشوائيًا (ككتابة القرد العشوائية)، فإنها ستولد عددًا كبيرًا جدًا من التعليمات البسيطة، لأن تلك الإرشادات ستظهر بشكل أكثر تكرارًا من التعليمات المعقدة. خلص مؤلفو الدراسة إلى أنه فيما يتعلق بالانتقاء الطبيعي، فإن التعقيد غير ضروري عند توفر حل بسيط.
لذلك، في المرة القادمة التي تتوقف فيها للإعجاب بالتناظر الشعاعي لزهرة معينة، يمكنك أيضًا الإعجاب بكفاءة التسلسلات الجينية الأقصر والأبسط التي شفرت هذه السمة.
نُشرت هذه الدراسة في 11 مارس في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences.
المقال الأصلي: livescience
ترجمة: حاتم زيداني