يفترض معظم الناس على هذا الكوكب –بشيء من الابتهاج وغالبًا دون الاستناد إلى منطق علمي سليم– أن البشر مخلوقات تتمتع بطبيعة خاصة ومتميزة عن الحيوانات الأخرى. المثير للفضول هو أن العلماء الأكثر تأهيلًا لتقييم صحة هذا الادعاء يُبدون –في أغلب الأحيان – تحفظًا على الإقرار بتفرُّد الإنسان العاقل Homo sapiens، ربما خوفًا من تعزيز فكرة خصوصية البشر التي تؤكدها العقائد الدينية. وبالرغم من ذلك، فقد تم جمع بيانات علمية مؤكدة في مختلف التخصصات، بدءًا من علم البيئة ووصولًا إلى علم النفس المعرفي، تؤكد جميعها حقيقة أن البشر يمثلون -حقًّا- نوعًا استثنائيًّا ولافتًا للانتباه.
إن كثافة التجمعات البشرية تَفُوق بدرجة كبيرة ما يمكن أن يكون حالةً نموذجيةً بالنسبة لأي حيوان في حجمنا. كما أننا نعيش على امتداد نطاق جغرافي هائل، ونتحكم في تدفقات غير مسبوقة من الطاقة والمادة، مما يجعل تأثيرنا العالمي لا تخامره الشكوك. وعندما نتأمل أيضًا ما نتمتع به من ذكاء، وقدرة على التواصل، ومقدرة على اكتساب المعرفة ونشرها –إلى جانب ما تبدعه قريحتنا من أعمال فنية ومعمارية وموسيقية رائعة– عندها سندرك أن البشر يبرزون كنوع مختلف تمامًا عن بقية الحيوانات. إن ثقافتنا تفصلنا، فيما يبدو، عن بقية الطبيعة، إلا أن هذه الثقافة لا بد أن تكون بدورها أحد نواتج التطور.
إن التحدي المتمثل في تقديم تفسير علمي مقنع لتطور القدرات المعرفية لنوعنا وتجلياتها في ثقافتنا هو ما أسمِّيه “السيمفونية غير المكتلمة لداروين”. السبب في هذا هو أن تشارلز داروين بدأ بحثه في هذه الموضوعات قبل نحو 150 عامًا، ولكن –كما اعترف هو نفسه– كان فهمه لكيفية تطويرنا لهذه السمات “منقوصًا” و”غير مترابط”، وفق تعبيره. ولحسن الحظ، اضطلع علماء آخرون بالأمر، وهناك شعورٌ مُتَنامٍ يساور أولئك الذين يُجرون بحوثًا في هذا المجال من بيننا بأننا قاب قوسين أو أدنى من التوصُّل إلى إجابة.
يتمثل الإجماع الناشئ بين الباحثين في المجال في أن إنجازات البشر تنبع من قدرة الإنسان على اكتساب المعارف والمهارات من الآخرين؛ فالأفراد، إذًا، يبنون مرارًا وتكرارًا على هذا المخزون من المعارف المتراكمة على مدار فترات طويلة. ويُوفر هذا المخزون الجمعي من الخبرات القدرة على ابتكار المزيد من الحلول الناجعة والمتنوعة لمواجهة التحديات التي تفرضها الحياة. لم تكن أدمغتنا الكبيرة، أو ذكاؤنا الوقاد، أو لغتنا الثرية هي ما منحنا الثقافة، وإنما ثقافتنا هي ما منحنا هذه العقول وهذا الذكاء وهذه اللغة. بالنسبة لنوعنا، وربما لعدد قليل من الأنواع الأخرى أيضًا، كانت الثقافة هي الموجِّه الأساس للعملية التطورية.
ينطوي معني “الثقافة” كمصطلح على أنماط الملبس والمأكل، ولكن إذا كان لنا أن نرد هذا المصطلح إلى أصله العلمي، فإن الثقافة تشمل الأنماط السلوكية التي يتشاركها أعضاء مجتمع يعتمد على المعلومات المنقولة في السياق الاجتماعي. وسواءٌ نظرنا إلى تصاميم السيارات، أو الأنماط الموسيقية الشائعة، أو النظريات العلمية، أو تجوُّل المجتمعات الصغيرة بحثًا عن الطعام، فسنجد أن هذه الأمور جميعها تتطور عبر حلقات لا نهائية من الابتكارات التي تضيف تحسينات تراكمية إلى قاعدة معرفية أولية. السر إذًا يكمن في عمليات النقل والابتكار المستمرة والتي تمضي في طريقها بلا هوادة.. هذا هو سر نجاح نوعنا.
مواهب الحيوانات
إن المقارنة بين البشر والحيوانات الأخرى تسمح للعلماء بتحديد أوجه تفوُّقنا، وتحديد الصفات التي نتشارك فيها مع الأنواع الأخرى، وكذا التوقيت الذي تطورت فيه سمات معينة. وعليه، تتمثل الخطوة الأولى نحو فهم السبب وراء اختلاف البشر وتَمايُزهم إلى هذه الدرجة في تبنِّي هذا المنظور المقارن والبحث في أنماط التعلم الاجتماعي والابتكار لدى المخلوقات الأخرى، وهو بحث من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى معرفة الاختلافات الدقيقة، والمهمة في الوقت نفسه، التي تجعلنا فريدين من نوعنا.
يقلِّد الكثير من الحيوانات سلوك الأفراد الأخرى، وبهذه الطريقة تحصل هذه الحيوانات على معلومات بشأن نظام الغذاء، وأساليب تناوُل الغذاء، وتجنُّب الحيوانات المفترسة، وإطلاق النداءات، وأداء الأغاني. المثال الشهير على هذا هو العادات المميَّزة التي تُظهرها عشائر مختلفة من الشمبانزي في جميع أنحاء إفريقيا فيما يتعلق باستخدام الأدوات. يتعلم صغار الشمبانزي في كل عشيرة سلوك المجموعة –سواءٌ في كسر حبات الجوز باستخدام مطرقة حجرية، أو اصطياد النمل باستخدام عصا– عن طريق تقليد الأفراد الأكثر خبرة. إلا أن التعلُّم الاجتماعي ليس مقصورًا على الرئيسيات، أو الحيوانات ذات الأدمغة الكبيرة، أو حتى الفقاريات؛ فقد أثبتت آلاف الدراسات التجريبية وجود تقليد السلوك لدى مئات الأنواع من الثدييات والطيور والأسماك والحشرات. الأكثر من هذا أن التجارب تُظهر أن الإناث الأحدث عمرًا من ذباب الفاكهة تنتقي للتزاوج ذكورًا سبق للإناث الأكبر عمرًا اختيارهم.
يتم تعلُّم مجموعة متنوعة من السلوكيات اجتماعيًّا؛ فالدلافين لديها تقاليدها في البحث عن الطعام؛ إذ إنها تستخدم الإسفنج البحري لإخراج الأسماك المختبئة في قاع المحيط. أما الحيتان القاتلة فلديها تقاليدها في صيد الفقمات، وتشمل هذه التقاليد إسقاط الفقمات من على الكتل الجليدية الطافية عبر التحرُّك الجماعي المتناسق لإحداث موجة ضخمة تضرب كتل الجليد. وحتى الدجاج يكتسب ميولًا إلى افتراس أفراد من النوع نفسه من خلال التعلُّم الاجتماعي من دجاجات أخرى. وتتركز غالبية المعارف التي يتم نقلها ضمن عشائر الحيوانات على الطعام (ما الذي يمكن أكله؟ وأين يمكن العثور عليه؟)، ولكن هناك أيضًا بعض الأعراف الاجتماعية التي تخرج عن المألوف؛ فقد ابتكرت إحدى عشائر السعدان المُقَلنَس في كوستاريكا عادةً غريبة، تتمثل في إدخال السعادين لأصابعها في محاجر عيون أو فتحات أنوف سعادين أخرى، أو وضع الأيدي في أفواه هذه السعادين، ومن ثم تجلس السعادين بعضها إلى جانب بعض على هذا النحو لفترات طويلة، وتتمايل بلطف. يُعتقد أن هذه الأعراف تهدف إلى اختبار مدى قوة الروابط الاجتماعية.
الحيوانات “تبتكر” هي الأخرى. إذا طُلب منّا ذكر اختراع ما، فقد يتبادر إلى أذهاننا اختراع البنسيلين الذي توصل إليه ألكسندر فلمنج، أو تصميم الشبكة العالمية وتنفيذها على يد تيم بيرنرز-لي. في عالم الحيوان، الاختراعات المقابلة لهذين الاختراعين لا تقل روعة. الاختراع المفضل لديّ يتعلق بشمبانزي صغير يُدعى مايك؛ فقد راقبت عالِمة الرئيسيات چين جودول هذا الشمبانزي في أثناء ابتكاره عرضًا صاخبًا للهيمنة، وهو عرض تضمَّن ضرب عبوتي كيروسين فارغتين ببعضهما. أرهب هذا العرض منافسي مايك إلى حد كبير، ونتج عن العرض صعودٌ صاروخيٌّ لمايك عبر المراتب الاجتماعية ليصبح الذكر ألفا (الذكر المُسيطر) في وقت قياسي. وهناك أيضًا هذا الاختراع الذي توصلت إليه الغربان اليابانية آكلة الجيفة، وهو الاختراع المتمثل في استخدام هذه الغربان للسيارات لفتح الجوز! إن قشور الجوز شديدة الصلابة لدرجة لا تستطيع معها الغربان كسرها بمناقيرها، إلا أن هذه الغربان تتمكن –برغم ذلك– من أكل الجوز من خلال وضعه على الطريق لتمشي السيارات فوقه، ومن ثَم تعود الغربان لتحصل على طعامها المُفرح عندما تتحول إشارات المرور إلى اللون الأحمر. وفي مدينة فريدريكسبيرج بولاية فيرجينيا، قامت مجموعة من طيور الزرزور –وهي طيور تشتهر بولعها بالأشياء اللامعة، وتستخدم هذه الأشياء لتزيين أعشاشها– بالإغارة على ماكينة لتحصيل العملات معدنية في إحدى مغاسل السيارات، وانتزعت الطيور –دون مبالغة– مئات الدولارات على صورة أرباع من الدولار. (للمزيد من الأمثلة عن طرق تكيف الحيوانات مع البيئات الحضرية، انظر: “داروين في المدينة”).
تتجاوز هذه القصص مجرد كونها مقتطفات ساحرة من التاريخ الطبيعي؛ فالتحليلات المقارنة تكشف عن أنماط مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالتعلُّم الاجتماعي والابتكار لدى الحيوانات. يُظهر أكثر هذه الاكتشافات أهميةً أن الأنواع المُبتكِرة –وكذلك الحيوانات الأكثر اعتمادًا على التقليد– لديها أدمغة كبيرة بدرجة غير معتادة (في المطلق وبالنسبة لحجم الجسم). في البداية، لوحظ ارتباطٌ بين معدلات الابتكار وحجم الدماغ في الطيور، ولكن، منذ ذلك الحين، جرى تكرار هذه الأبحاث على الرئيسيات. تدعم هذه النتائج فرضية تُعرف بالدافع الثقافي، وهي فرضية اقتُرحت لأول مرة من جانب عالِم الكيمياء الحيوية آلان سي. ويلسون من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في ثمانينيات القرن الماضي.
دفع ويلسون بأن القدرة على حل المشكلات، أو محاكاة ابتكارات الآخرين، من شأنها أن تمنح الأفراد ميزةً في صراعهم من أجل البقاء. وعلى افتراض أن هذه القدرات كان لها أساسٌ ما في البيولوجيا العصبية، فإن من شأنها أن يتولد عنها انتقاءٌ طبيعيٌّ لمصلحة ظهور أدمغة أكبر حجمًا بشكل متزايد، ويمثل هذا عمليةً لا يمكن التحكم فيها تبلغ ذروتها بظهور الأعضاء الضخمة التي تنسق وتنظم الإبداع البشري اللا محدود والثقافة البشرية بمعناها الأشمل.
في البداية كان العلماء متشككين في حجة ويلسون. إذا كان ذباب الفاكهة بأدمغته الصغيرة يستطيع التقليد بشكل متقن، فلماذا يجب أن يؤدي الانتقاء في المزيد والمزيد من التقليد إلى ظهور الأدمغة العملاقة نسبيًّا التي نراها في الرئيسيات؟ استمر هذا اللغز لسنوات، حتى ظهرت الإجابة من مصدر غير متوقع.
المقلدون
كان “دوري إستراتيجيات التعلم الاجتماعي” عبارة عن مسابقة قمت أنا وزملائي بتنظيمها، وكنّا قد صممنا هذه المسابقة للتوصل إلى الطريقة المُثلى للتعلُّم في بيئة معقدة ومتغيرة. تخيلنا عالمًا افتراضيًّا يمكن فيه للأفراد (أو “الفاعلين” كما أطلقنا عليهم) أداء عدد كبير من السلوكيات الممكنة، ولكل سلوك منها مردوده الخاص الذي يتغير بمرور الوقت. تَمَثل التحدي في تحديد التصرفات التي ستعطي أفضل المردودات، وكذلك تتبُّع كيفية تغيُّر هذه المردودات. كان بإمكان الأفراد إما تعلُّم سلوك جديد، أو أداء سلوك سبق لهم تعلُّمه، وكان التعلم يحدث إما عبر المحاولة والخطأ، أو من خلال تقليد أفراد آخرين. وبهذا، وبدلًا من أن نحاول حل اللغز بأنفسنا، قمنا بوصف المشكلة، وحددنا حزمةً من القواعد، ثم دعونا مَن كان لديه اهتمام بالأمر ليحاول حل اللغز. تنافس جميع المتسابقين –الذين جرى تقديمهم في صورة أكواد برمجية كانت تحدد الطريقة التي يجب أن يتصرف بها الفاعلون– ضمن نموذج حاسوبي للمحاكاة، وفاز أفضل مؤدٍّ بجائزة قدرها 10,000 يورو. كانت النتائج مفيدةً للغاية؛ فقد وجدنا علاقة إيجابية قوية بين جودة أداء المتسابق وقدر التعلُّم الاجتماعي الذي فرضه هذا الأداء على الفاعلين. المتسابق الفائز لم يطلب من الفاعلين أن يتعلموا في غالبية أوقاتهم، ولكنهم عندما كانوا يتعلمون، كان هذا التعلُّم يتم عبر التقليد في جميع الحالات تقريبًا، وكان التقليد يتم بدقة وكفاءة على الدوام.
لقد علَّمتنا المسابقة كيف يمكننا أن نفسر العلاقة الإيجابية بين التعلُّم الاجتماعي وحجم الدماغ في الرئيسيات. وأشارت النتائج إلى أن الانتقاء الطبيعي لا يوفر ظروفًا مواتية للمزيد والمزيد من التعلم الاجتماعي، بل يخلق ميلًا نحو تعلم اجتماعي أكثر جودة؛ فالحيوانات لا تحتاج إلى رأس كبير لتتمكن من التقليد، ولكنها تحتاج إلى رأس كبير لتتمكن من التقليد الجيد.
لقد شكلت هذه الرؤية المتعمقة حافزًا لإجراء أبحاث حول الأساس التجريبي لفرضية الدافع الثقافي، وقادت إلى التوقع بأن الانتقاء الطبيعي يجب أن يدعم بنى تشريحية أو قدرات وظيفية –في أدمغة الرئيسيات– تعزِّز من التقليد الدقيق والفعال. قد تتضمن الأمثلة وجود إدراك بصري أفضل إذا كان ذلك سيسمح بالتقليد من على مسافات أكبر، أو سيسمح بمحاكاة الأفعال الحركية الدقيقة. إضافةً إلى ذلك، يجب أن يكون الانتقاء سببًا في تعزيز وجود روابط أكبر بين البنى الإدراكية والبنى الحركية في الدماغ، بما يساعد أفراد العشيرة على ترجمة مشاهد أداء الآخرين لإحدى المهارات إلى إظهار أداء مطابق عبر تحريك أجسادهم بطريقة مماثلة.
بالإضافة إلى هذا، تنبأت فرضية الدافع الثقافي نفسها بأن الانتقاء من أجل تحسين التعلم الاجتماعي يجب أن يكون قد أثر على جوانب أخرى من السلوك الاجتماعي وتاريخ الحياة، تتضمن العيش ضمن مجموعات اجتماعية، والقدرة على استخدام الأدوات. وكان المنطق الكامن وراء هذا متمثلًا في أنه كلما زاد حجم العشيرة وزاد الوقت المنقضي في صحبة الآخرين، زادت فرص تحقيق تعلُّم اجتماعي فعال؛ فمن خلال التقليد، تكتسب السعادين والقردة مهاراتٍ متنوعةً في البحث عن الطعام، وتتراوح هذه المهارات بين طرق البحث الاستخراجي –مثل استخراج اليرقات من لحاء الأشجار– والأساليب المتطورة لاستخدام الأدوات، مثل صيد النمل الأبيض بالعُصيّ. وإذا كان التعلُّم الاجتماعي هو ما يسمح للرئيسيات باختيار طرق للحصول على الطعام يصعب تعلُّمها –ولكنها طرق تتسم بالإنتاجية– فإن أي أنواع تتقن التعلم الاجتماعي يجب أن تُظهر مستويات عليا في البحث الاستخراجي عن الطعام وفي استخدام الأدوات، ويجب أن يكون لديها نظامٌ غذائيٌّ أغنى وأن تتمتع بحياة أطول، إذا كان ذلك يمنح مزيدًا من الوقت لتعلُّم مهارات جديدة ونقلها إلى النسل. وإجمالًا، يتنبأ الدافع الثقافي بأن معدلات التعلم الاجتماعي لا ترتبط بحجم الدماغ فقط، بل أيضًا بمجموعة من التدابير المرتبطة بالأداء المعرفي.
لقد ثبتت هذه التنبؤات من خلال تحليلات مقارنة صارمة؛ فهذه الرئيسيات التي تتفوق في التعلم الاجتماعي والابتكار هي الأنواع نفسها التي تمتلك أنظمة غذائية هي الأكثر تنوعًا، وتستخدم الأدوات، وتتبع الطريقة الاستخراجية في البحث عن طعامها، وتُظهر السلوكيات الاجتماعية الأكثر تعقيدًا. في الحقيقة، تشير التحليلات الإحصائية إلى أن هذه القدرات تتنوع ضمن نطاق ضيق للغاية، لدرجة أن المرء يمكنه حينها أن يَصُفّ الرئيسيات على طول بُعد واحد فقط يمثل الأداء المعرفي العام، وهو ما نطلق عليه ذكاء الرئيسيات (المقابل بعيد التشابه لمعامل الذكاء لدى البشر).
يتفوق الشمبانزي وإنسان الغاب في جميع قياسات الأداء هذه، ويمتلكان معدلًا مرتفعًا في ذكاء الرئيسيات، وفي المقابل تُظهر بعض الأنواع الليلية من أسلاف القردة (أو الرئيسيات السفلى) معدلات منخفضة في معظم هذه القياسات، ويُخصص لها معيار أقل. إن علاقات الارتباط القوية بين ذكاء الرئيسيات وقياسات حجم أدمغة الحيوانات وأدائها في اختبارات التعلم والإدراك التي تُجرى داخل المختبرات تُثبت صحة استخدام هذا المعيار مقياسًا للذكاء. يتلاءم هذا التفسير أيضًا مع تحليلات في علم الأعصاب تبيِّن أن حجم مكونات الدماغ، كل مكوِّن على حدة، يمكن التنبؤ به بدقة على أساس الحجم الكلي للدماغ. ويرتبط تطور الأدمغة الكبيرة للرئيسيات بالمناطق الأكبر حجمًا والأفضل اتصالًا –القشرة المخية الحديثة والمخيخ– التي تسمح بضبط تنفيذ الأفعال، وتسمح كذلك بوجود المزيد من استطالات القشرة الممتدة إلى الخلايا العصبية الحركية الخاصة بالأطراف، وهو ما يسهِّل القيام بالحركات المنضبطة والدقيقة. يساعدنا ذلك على فهم السبب في أن الحيوانات كبيرة الأدمغة تتمتع بالقدرة على الإدراك ذي الطبيعة المعقدة، وبالقدرة على استخدام الأدوات. (للمزيد عن أدمغة الرئيسيات، انظر: “هل تختلف طبيعة شبكاتنا العصبية؟”).
ويكشف رسم مقياس الذكاء على شجرة عائلة من الرئيسيات عن وجود تطور نحو ذكاء أعلى يحدث بشكل مستقل في أربع مجموعات متمايزة من الرئيسيات، هي القردة المُقلنسة، وقردة المكاك، وقردة البابون، والقردة العليا، تحديدًا تلك الأنواع التي تشتهر بتعلُّمها الاجتماعي وتقاليدها الاجتماعية. هذه النتيجة تمثل بدقة النمط المتوقع إذا ما كانت العمليات الثقافية تقود –في حقيقة الأمر– تطور الدماغ ومستوى الإدراك. هذه الاستنتاجات تعززها تحليلات إضافية تستخدم بيانات أفضل وأساليب إحصائية متطورة، كما تعززها النماذج التي توفر تنبؤات كمية عن حجم الدماغ والجسم استنادًا إلى تقديرات بشأن التكاليف الاستقلابية للدماغ.
لا يُعَد الدافع الثقافي السبب الوحيد لتطور دماغ الرئيسيات؛ إذ إن النظام الغذائي وإظهار السلوك الاجتماعي يؤديان دورًا مهمًّا أيضًا؛ فالرئيسيات التي تتغذى على الفاكهة وتلك التي تعيش في مجموعات كبيرة ومعقدة تمتلك أدمغة كبيرة هي الأخرى. ورغم ذلك، يصعب التملص من الاستنتاج القائل بأن الذكاء المرتفع والحياة الأطول تطورا معًا لدى عدد من الرئيسيات لأن القدرات الثقافية لهذه الرئيسيات سمحت لها بالاستفادة من مصادر غذائية عالية الجودة لكن يصعب الوصول إليها، وكان للعناصر الغذائية المُستخلصة دورٌ في “منح المكافأة” المتمثلة في نمو الدماغ. تعتبر الأدمغة أعضاءً باهظة التكلفة فيما يتعلق باحتياجات الطاقة، ويمثل التعلم الاجتماعي أهميةً بالغةً بالنسبة للحيوانات التي تسعى إلى جمع الموارد اللازمة للحصول على دماغ كبيرة، وللإبقاء على الأداء الوظيفي الفعال لهذا الدماغ.
قرود الشمبانزي لم تخترع هواتف محمولة
لماذا إذًا لا تمتلك الرئيسيات الأخرى ثقافة معقدة مثلنا؟ لماذا لم يقم الشمبانزي بعمل تسلسل للجينوم أو بناء صواريخ يتم إرسالها إلى الفضاء؟ لقد قدمت النظرية الرياضية بعض الإجابات عن هذه الأسئلة. يكمن السر في دقة المعلومات وأمانة نقلها من فرد إلى آخر ضمن أحد الأنواع، أي الدقة التي تنتقل بها المعلومات المُكتسبة فيما بين الناقل والمُستقبِل. إن حجم المخزون الثقافي لدى أحد الأنواع ومدى استمرارية السمات الثقافية ضمن العشيرة يتضاعفان بصورة هائلة بما يتناسب مع دقة نقل المعلومات. وبعد حدٍّ معين، تبدأ الثقافة في التعاظم من حيث مدى تعقيدها وتنوعها. أما في غياب النقل الدقيق، فيستحيل أن تكون هناك ثقافة تراكمية. عند اجتياز هذا الحد أيًّا كان موقعه، فإن كم التوصل إلى اختراعات الجديدة وصقل ما هو موجود منها –حتى وإن كان كمًّا متواضعًا– سوف يؤدي سريعًا إلى إحداث تغيير ثقافي هائل. والبشر هم النوع الوحيد الموجود الذي تمكَّن من اجتياز هذا الحد.
لقد حقق أسلافنا نقلًا بالغ الدقة من خلال التعليم كسلوك يعمل على تسهيل تعلُّم التلاميذ. وفي حين ينتشر التقليد على نطاق واسع في الطبيعة، يعتبر التعليم عملةً نادرةً فيها، إلا أنه شائع ومتَّبَع في جميع المجتمعات البشرية إذا ما أخذنا في الاعتبار الأشكال المتعددة وغير الملحوظة لهذه الممارسة. وتكشف التحليلات الرياضية عن شروط صعبة يتعين الوفاء بها لتطوير عملية التعليم، إلا أن هذه التحليلات تبين أن التراكُم الثقافي يخفف من صعوبة هذه الشروط. وتشير عملية النمذجة ضمنًا إلى أن التعليم والتراكم الثقافي تطورا معًا خلال عهود أسلافنا، وهو ما أدى –لأول مرة في تاريخ الحياة على ظهر هذا الكوكب– إلى ظهور نوع قام أعضاؤه بتعليم أقاربهم مجموعةً كبيرةً من المهارات التي جرى تعزيزها -فيما يبدو- من خلال ممارسة هادفة و”مُتعمَّدة” (انظر: “داخل رؤوسنا”).
تضمَّن تعليم المعارف الثقافية بواسطة الهومينين Hominins (البشر وأشباههم المنقرضون) مهارات البحث عن الطعام، ومعالجة الطعام، والنداءات المُتعلَّمة، وصناعة الأدوات، وغيرها، كما وفر هذا التعليم السياق الذي ظهرت فيه اللغة لأول مرة. أما السبب في أن اللغة تطورت لدى أسلافنا فقط، دون غيرهم، فيعتبر هذا إحدى أكثر المسائل المستعصية على الحل تعقيدًا. يتمثل أحد الاحتمالات في أن اللغة تطورت لتقليل التكلفة، وزيادة الدقة، وتوسيع مجالات التعليم. قد تكون اللغة البشرية فريدةً من نوعها، على الأقل بين الأنواع الموجودة؛ لأن البشر فقط -دون غيرهم- هم النوع الذي تمكَّن من تشييد عالم ثقافي متنوع وديناميكي وصل إلى درجة خلقت معها احتياجًا للتحدث عنه. يتميز هذا التفسير بأنه يقدم شرحًا للعديد من الخصائص المميزة للغة، بما في ذلك تمايزها، وقدرتها على التعميم، والأسباب التي تدعو إلى تعلُّمها (انظر: “الكلام عبر الزمن”).
بدأت اللغة كحفنة من الرموز التي تتشاركها مجموعةٌ من الأفراد، إلا أن هذه اللغة الأولية فرضت –فور بدايتها– حدوث انتقاء لمهارات تعلُّم اللغة على أدمغة أشباه البشر، وعلى اللغات نفسها، لتفضيل التراكيب والبنى اللغوية سهلة التعلُّم. وتلقى الفكرة التي مفادها أن الأنشطة الثقافية لأجدادنا فرضت الانتقاء على أجسادهم وعقولهم –وهي العملية التي تُعرف بالتطور الجيني الثقافي المشترك– تأييدًا قويًّا في هذه الآونة. وتوضح جميع التحليلات النظرية والأنثروبولوجية والجينومية كيف أن المعارف المنقولة اجتماعيًّا– بما في ذلك المعرفة التي تجلت في تصنيع الأدوات واستخدامها– نتج عنها انتقاءٌ طبيعيٌّ أحدَثَ تحولًا في السمات التشريحية والإدراكية للإنسان. هذه الاستجابات التطورية مهدت الطريق لظهور العقل البشري الحديث، وتولَّدت عنها حالة نفسانية متطورة حفَّزت الرغبة في تعلُّم أهداف الآخرين ونواياهم وتقليدها ومحاكاتها والتحدث عنها ومشاركتها مع الآخرين. كما أنتجت هذه الاستجابات قدرات محسَّنة على التعلم وإجراء الحسابات. ولأن هذه القدرات تزيد من دقة نقل المعلومات، فقد تطورت مصحوبةً بثقافة تراكمية.
لقد غيَّر التعليم واللغة قواعد اللعبة التطورية في سلالتنا، ونشأ تعاوُن واسع النطاق في المجتمعات البشرية بسبب قدراتنا المتفردة على التعلُّم والتعليم الاجتماعيين، وهو ما تشهد البيانات النظرية والتجريبية بصحته. أخذت الثقافة بزمام المجموعات البشرية إلى مسارات تطورية جديدة، عن طريق خلق ظروف عزَّزت من الآليات المترسخة للتعاون الموجود لدى حيوانات أخرى (مثل مساعدة الذين يقدمون المساعدة)، وأيضًا عبر إنتاج آليات تعاونية مبتكرة لا تعرفها الحيوانات الأخرى. وانتشر الانتقاء في المجموعة الثقافية بعد أن أثبت جدارته، ويُقصد بهذا الانتقاء تلك الممارسات التي تساعد المجموعة على التعاون وعلى التنافس مع المجموعات الأخرى، مثل تكوين جيش أو بناء نظام للري (انظر: “أصول الأخلاقيات”).
أمدت الثقافة أسلافنا بحيل للحصول على الطعام وللبقاء على قيد الحياة، ومع ظهور كل اختراع جديد، كانت كل مجموعة تتمكن من استغلال بيئتها على نحو أكثر كفاءة. وكان لهذا الأمر أثره في نمو الدماغ، بل ونمو عدد أفراد المجموعة أيضًا. وجاءت هذه الزيادة في أعداد البشر وفي مستوى تعقيد المجتمعات في أعقاب توصُّل أسلافنا إلى زراعة النباتات واستئناس الحيوانات في البئيات المحلية. لقد حررت الزراعة المجتمعات من القيود التي فرضتها حياة التجوال التي يعيشها الصيادون جامعو القطاف على حجم السكان وعلى أي ميول لابتكار تقنيات جديدة. ومع غياب هذه القيود، ازدهرت المجتمعات الزراعية لأن أعداد سكانها فاقت أعداد سكان مجتمعات الصيادين جامعي القطاف، ويرجع هذا إلى أن المجتمعات الزراعية ارتفعت فيها القدرة الاستيعابية لمساحة الأرض بسبب إنتاج الغذاء. وكان السبب الآخر لازدهار المجتمعات الزراعية هو أن الزراعة أطلقت العنان لمجموعة كبيرة من الابتكارات المتربطة بالزراعة، وهي ابتكارات كان لها أثرها في إحداث تغيُّر جذري في المجتمع البشري. وفي المجتمعات الأكبر حجمًا التي كانت تتمتع بزيادة مطردة في محاصيلها الزراعية، كانت الابتكارات المفيدة أكثر قابليةً للانتشار والاستمرارية. لقد أحدثت الزراعة ثورة، ليس فقط لأنها كانت إيذانًا باختراع تقنيات مرتبطة بها –كالمحراث أو نظام الري وغيرهما، بل لأنها أيضًا كانت سببًا في مبادرات لم تكن متوقَّعةً على الإطلاق، مثل العجلة، والدولة المدينة، والأديان.
وتشير الصورة الناشئة عن التطور المعرفي البشري إلى أننا إلى حدٍّ كبير مخلوقات وصلت إلى ما وصلت إليه بنفسها؛ فالملامح المميزة للبشرية –ذكاؤنا وإبداعنا ولغتنا، وأيضًا نجاحنا البيئي والديموجرافي– تمثل إما مظاهر تكيُّف تطوري للأنشطة الثقافية الخاصة بأسلافنا، أو تبعات مباشرة لتلك المظاهر. وبالنسبة لتطور جنسنا البشري، يبرز توريث الثقافة باعتباره على درجة الأهمية نفسها لتوريث الجينات.
نميل إلى النظر إلى التطور من خلال الانتقاء الطبيعي بوصفة عمليةً تؤدي فيها التغيرات في البيئة الخارجية –مثل المفترسات، أو المناخ، أو المرض– إلى ظهور تحسينات تطورية في سمات الكائن الحي. لكن العقل البشري لم يتطور بهذه الطريقة المباشرة؛ فقد نشأت قدراتنا العقلية –بدلًا من هذا– عبر عملية معقدة وتبادلية بنى فيها أجدادنا بشكل متواصل مواطن ملائمة (جوانب من بيئاتهم المادية والاجتماعية) كان لها مردودها في فرض الانتقاء على أجسادهم وعقولهم في حلقات لا نهاية لها. ويستطيع العلماء الآن فهم اختلاف البشر عن الرئيسيات الأخرى باعتباره يعكس عمل مجموعة ضخمة من آليات الاستجابة لدى سلالة أشباه البشر. وعلى غرار ما يحدث في التفاعل الكيميائي المستمر بمسببات ذاتية، فإن عملية مستمرة بذاتها قد دفعت بالإدراك البشري والثقافة البشرية قدمًا. إن المكانة التي تحتلها البشرية في الشجرة التطورية للحياة لا يرقى إليها شك. لكن قدرتنا على التفكير والتعلُّم والتواصل والتحكُّم في بيئتنا تجعل البشرية مختلفة تمامًا عن جميع الحيوانات الأخرى.
زيارة من «إي تي» E.T.
تخيل وجود جهاز استخبارات من الفضاء يعمل على دراسة الغلاف الحيوي لكوكب لأرض. من بين جميع الأنواع الموجودة على الكوكب، ما هو النوع الذي سيحدده جهاز الاستخبارات كنوع مختلف عن بقية الأنواع؟ الإجابة هي البشر، وها هي بعض الأسباب التي تدعم صحة هذه الإجابة:
التعداد. أعدادنا أكبر من أن تُقارن بأنماط تعدادات الفقاريات على مستوى العالم. يبلغ تعداد البشر ما يفوق –بعدة قيم أُسية– التعداد المتوقع لثدييات لها حجمنا نفسه.
النطاق البيئي. يعتبر توزيع جنسنا البشري توزيعًا غيرَ عادي؛ فقد استعمر البشر كل مناطق هذا الكوكب تقريبًا.
التنظيم البيئي. يتحكم البشر في تدفقات واسعة ومتنوعة من الطاقة والمادة، وعلى نطاقات غير مسبوقة.
التأثير العالمي. تهدد الأنشطة البشرية أعدادًا غير مسبوقة من الأنواع وتؤدي إلى انقراضها، وفي الوقت نفسه تتسبب هذه الأنشطة في إحداث تغيُّر تطوري قوي عبر أنحاء الغلاف الحيوي.
الإدراك والتواصل والذكاء. تُظهر التجارب أداءً فائقًا للبشر في اختبارات متنوعة تتعلق بالتعلم والإدراك. وتتسم اللغة البشرية بمرونة غير محدودة، على عكس التواصل الموجود لدى الحيوانات الأخرى.
اكتساب المعارف ونشرها. يقوم البشر باكتساب المعلومات ونشرها وتخزينها بمعدلات غير مسبوقة، ويبنون على مخزونهم المعرفي الثقافي بشكل تراكمي من جيل إلى جيل.
التكنولوجيا. البشر يخترعون وينتجون –على نطاق واسع، وبصورة لا نهائية– منتجات أكثر تعقيدًا وتنوُّعًا بالمقارنة بالحيوانات الأخرى.
ربما تنبهر الكائنات الفضائية بخرطوم الفيل وتندهش من عنق الزرافة، لكن البشر هم النوع الذي سيختارونه كنوع متفرد عن غيره من الأنواع.
اقرأ أيضًا: طيور حمراء تُجري تحويلات كيميائية للألوان
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.