لا تعد قرية ملوي المصرية مكانًا معهودًا للسائحين؛ إذ تبعد 260 ميلًا شمالي مجمع المعابد بمدينة الأقصر. لكن إحدانا (سايمونز) سبق لها أن سافرت إلى هناك في مايو 2013 بصحبة روبرت كوكروفت، وهو أحد باحثي ما بعد الدكتوراة في معملها، على أمل أن يشاهدا واحدًا من أقدم السجلات الفلكية في العالم. وقد كان السجل –الذي لم يوصَف إلا ببضع عبارات مبهمة- موجودًا هناك بالفعل، ولكن ما أثار دهشتهما، أنه لم يكن الوحيد من نوعه هناك.
صاح كوكروفت متعجبًا: ’’أرى شيئًا مكتوبًا!‘‘. في تلك اللحظة، كان جاثمًا بجوار صندوق عرض يحوي تابوتًا في القاعة المركزية بمتحف آثار ملوي، وقد مد عنقه ليتمكن من رؤية الوجه السفلي للغطاء الخشبي المرفوع قليلًا. فوجهت سايمونز ضوء كشافها نحوه لتلقي الضوء على عارضة رقيقة تربط بين الألواح الخشبية.
كان سطح العارضة منقوشًا برموز هيروغليفية رشيقة تمثل أسماءً لنجوم، وأدركت سايمونز وكوكروفت حينها أن تلك القطعة كانت جزءًا من سجل فلكي قديم آخر. وحتى تلك اللحظة، لم يدرك أحد أهمية تلك القطعة التى تم ربطها بهذا التابوت عن طريق الخطأ. أُنشئ متحف ملوي، في 23 يونيو 1962، بمدينة المنيا الواقعة على النيل جنوبي مصر، في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ويحتوي على آثار تمثل العصور المختلفة.
بدأ علماء الأثار في اكتشاف تلك السجلات المثيرة للاهتمام في تسعينيات القرن التاسع عشر، في أثناء استكشافهم مقابرَ قريبة في منطقة المدافن بأسيوط. وبعد فتح عدد من التوابيت مستطيلة الشكل، تحتوي على البقايا المحنطة لأفراد من طبقة النبلاء المحليين، عثر المستكشفون على تصميمات دقيقة على الأوجه الداخلية لأغطية التوابيت الخشبية بدلًا من الخشب الخالي من النقوش أو الذي يحمل مقتطفات من النصوص الدينية الموجودة في معظم التوابيت المصرية القديمة. تمثل هذه الرسومات المميزة جداول منظمة لأسماء نجوم، سُجلت فيها حركة نجوم معينة على مدار السنة، مثل سيريوس (نجم الشعرى اليمانية).
وبصفتها مؤرخة للعلوم، قضت سايمونز السنوات العشرين الماضية في فهرسة هذه الجداول الفلكية وتحليلها. ووفقًا للطريقة المعتمدة في إحصاء قطع كهذه، لم يُعثر سوى على 27 قطعة، واحدة منها فقط كانت تزين سقف أحد المعابد، وليست داخل أحد التوابيت كالباقيات. ويعود تاريخ معظم الجداول إلى عام 2100 قبل الميلاد تقريبًا. وتأمل سايمونز -من خلال فحص هذه القطع، ودراسة تلك الجداول وغيرها من النصوص الهيروغليفية القديمة الأخرى، وبالاستفادة من البرمجيات المتطورة للقباب الفلكية- أن تتمكن من بناء تصور واضح عن كيفية وضع المصريين هذه الجداول وأسبابه، وأن تفك شفرة عمليات الرصد المستخدمة في تنظيمها. ويثير عملها حتى الآن الشكوك حول التصور السائد عن أسباب وضع المصريين هذه الجداول والرسوم البيانية في عصر الدولة الوسطى، وقد يساعد بشكل مؤكد على كشف ما عرفه الفلكيون المصريون عن النجوم التي ملأت سماواتهم وما لم يعرفوه.
ساعات نجمية؟
وكان المنقبون الذين عثروا على الخرائط يدركون أنها تصف حركة النجوم، ولكن لم يقدم أحد فرضية شاملة لشرح ما قد تمثله الخرائط وطبيعة وظيفتها حتى ستينيات القرن العشرين. ففي عمل من ثلاثة مجلدات بعنوان “النصوص الفلكية المصرية”، وصف مؤرخ العلوم أوتو نوجبارو وعالم المصريات ريتشارد أ. باركر الجداول الثلاثة عشر التي تم العثور عليها حتى ذلك الحين، وافترضا أنها تتبع الترتيب الذي ظهرت به نجوم (أو حشود نجمية) معينة فوق الأفق الشرقي على مدار كل ليالي الأسبوع طوال العام. وقد قادهما ذلك إلى الاعتقاد بأن تلك المعلومات قد سُجِّلت لمعرفة الوقت في أثناء الليل. فعندما يرى أحدهم واحدًا من هذه النجوم في الأفق في لحظة معينة من الليل، فسوف يتمكن من تقدير الوقت الذي مضى منذ غروب الشمس، ولذلك أطلق نوجبارو وباركر عليها اسم “الساعات النجمية”.
لو عُثر على تلك الساعات في أماكن أخرى غير الوجه الداخلي لأغطية التوابيت، لكان ذلك دليلًا على أهميتها بالنسبة للكهنة وقتها. فوفقًا للأساطير المصرية القديمة، تخوض الشمس رحلة صعبة في أثناء الليل تحتم عليها التغلب على العديد من العقبات التي تصادفها، وبممارسة الكهنة طقوسًا محددة في لحظات معينة خلال ساعات الظلام، يستطيعون تتبُّع رحلة الشمس بحيث يقدمون لها المساعدة.
وكان وصف نوجبارو وباركر للجداول النجمية متسقًا بالتأكيد مع مثل هذا الاستخدام. إذ كان الجدول الكامل مقسمًا إلى أربعة أرباع بواسطة شريط أفقي وآخر رأسي. ويحتوي الشريط الأفقي على سطر من نص ديني يقدم القرابين لعدد من الآلهة المصرية، ويصور الشريط الرأسي أربعة صور للآلهة نفسها. وكان وجود التقويم المدني المصري القديم على امتداد الجزء العلوي من الجدول هو ما وجه أنظار نوجبارو وباركر إلى فكرة الساعات النجمية.
كان الشهر في التقويم المدني المصري القديم يتكون من ثلاثة أسابيع، وكل أسبوع يتكون من 10 أيام؛ وكانت السنة تتكون من 365 يومًا مقسمة على 12 شهرًا و5 أيام.
ويتكون الجدول النجمي الكامل، عند قراءته من اليمين إلى اليسار، من 40 عمودًا، إذ يمثل كل عمود من الأعمدة الستة والثلاثين الأولى “أسبوعًا” واحدًا. تتبعها ثلاثة أعمدة تحتوي على أسماء جميع النجوم الواردة في الخريطة (ممثلة بالأرقام من 1 إلى 36)، أما العمود الأربعون والأخير، فيمثل نصف الأسبوع المتبقي من السنة المدنية. ونظرًا لوجود نجم مختلف على رأس كل عمود من الأعمدة، التي تمثل أسابيع السنة، والمكوَّن كل منها من عشرة أيام، فإن هذه النجوم تُعرف اليوم بالعَشريات “Decans”، اشتقاقًا من اللفظ اليوناني ديكا الذي يعني ’’عشرة‘‘.
يتكون كل عمود من العشريات من 12 صفًّا، إذ تمثل الأعمدة -وفقًا لتصور نوجبارو وباركر- تتابع ظهور العشريات وراء الأفق في السماء ليلًا. (ومن ثم، يمثل كل صف’’ساعة‘‘ مختلفة من ساعات الليل). وتحمل الخلية العلوية اسم العشرية التى تشرق من جهة الشرق بعد غروب الشمس بقليل. (ويتحرك النجم غربًا مع تقدم الليل). بعد ذلك، تشرق العشرية الحادية عشرة التالية وراءه بنفس ترتيب العشريات الموجود في العمود. وبعد عشرة أيام، يبدأ الأسبوع الثاني من التقويم المدني، وتتغير السماء؛ حيث تشرق عشرية مختلفة –الديكان الثاني– مع غروب الشمس، فيظهر في قمة العمود الخاص بذلك الأسبوع. وتكون النتيجة شكلًا قُطريًّا مائلًا، تتحرك فيه العشرية ذاتها في خط مائل من أسفل اليمين إلى أعلى اليسار، حيث يشرق في وقت مبكر عن اليوم الذي يسبقه مع تقدم السنة.
لو حدث وكانت السنة 360 يومًا بالضبط، لشكلت النجوم في الخرائط النجمية دورة مستمرة من 36 عشرية. وبعد شروق العشرية السادسة والثلاثين في السماء ليلًا، كانت ستظهر العشرية الأولى وراءها من جديد في الأسبوع التالي. إلا أن نصف الأسبوع المتبقي من السنة، والمكون من خمسة أيام، يمنع هذا التتابع من الحدوث. وقد استنتج نوجبارو وباركر أن المصريين القدماء سجلوا حركة مجموعة جديدة تمامًا من العشريات للتعامل مع ذلك الأمر. فأدت الحركة القطرية لتلك العشريات الجديدة مجتمعة باتجاه العشريات قمة الجدول إلى تكوين شكل مثلث في الجانب الأيسر من الجدول.
في التمثيل التخطيطي للجداول، يرمز الباحثون لعشريات المثلث بشكل مختلف عن العشريات الأخرى؛ إذ يستخدمون الحروف بدلًا من الأرقام. لكن الرسومات الموجودة على التوابيت لا تشير إلى أن المصريين اعتبروا عشريات المثلث أكثر أو أقل أهمية من العشريات الست والثلاثين الأخرى.
بالرغم من ذلك، فقد ميزت الرسومات الفلكية الأخرى الموجودة على أسقف المعابد والمقابر (والتي يُحتمل عودة تاريخ تصميمها إلى نفس عصر جداول التوابيت) بينهما، مما فتح باب النقاش بين علماء المصريات حول أيٍّ منهما سبق الآخر– فكرة عبور 36 ديكان/ عشرية “كاملة” للسماء بصورة منتظمة من الشرق إلى الغرب؟ أم الرصد الفعلي لنجوم حقيقية عديدة في أثناء رحلاتها السنوية الأكثر تعقيدًا؟
على أي حال، يؤكد وجود المثلث أن الجداول هي نتيجة لأرصاد فلكية حقيقية. أما المستوى العالي من التعقيد الذي تقدمه العشريات الإضافية، فتنفي احتمالية أن تكون الجداول مجرد نموذج مثالي مبسط للكون.
تعقيدات
بالرغم من أناقة شرح نوجبارو وباركر للجداول، إلا أن تصورهم عجز عن الإجابة على عدد من الأسئلة الكبرى. إحدى هذه المشكلات، والتي اعترف بها نوجبارو وباركر بنفسيهما في ستينيات القرن العشرين، قد أثيرت عندما لوحظ أن الجداول النجمية المعروفة لم تكن كلها متشابهة.
فبالنسبة للعين غير المدربة، تبدو جميع الجداول متطابقة من حيث الشكل، فجميعها ذات نسق من الأعمدة المرتبة التي تملؤها أسماء العشريات نفسها. غير أن الفحص الأكثر عمقًا يكشف أنها تقع في مجموعتين رئيستين، بحيث تتنقل العشريات بين عدة أعمدة. وقد أرجع نوجبارو وباركر هذا الاختلاف إلى عدم وجود نظام السنة الكبيسة في التقويم المدني. وإذا كان واضعو هذه الجداول القديمة قد رسموا جدولين تفصل بينهما أربعون سنة، متجاهلين ربع اليوم الإضافي في كل سنة، فإن فارق أرباع الأربعين يومًا يعني أن موقع النجوم في الجدول الأحدث قد تغير بمقدار 10 أيام، أي أسبوع، أي بمقدار الانتقال خلية واحدة لكل عشرية. وقد افترض نوجبارو وباركر أنه في حال العثور على المزيد من الجداول النجمية أو الوثائق المتعلقة بهذا الشأن، فسوف تظهر نماذج تربط المجموعات المعروفة آنذاك بعضها ببعض.
ولكن العمل الذي أنجزته سايمونز يثير الشكوك حول صحة هذه النظرية. لقد قامت بالدراسة المباشرة أو فحص صور كافة الجداول النجمية المعروفة، بما في ذلك التي اكتُشفت بعد ستينيات القرن العشرين. ويقع كل جدول في واحدة من المجموعتين اللتين يعترف بهما علماء المصريات حاليًّا، دون أن يظهر في أيٍّ منهما شكل بديل للعشريات. كما تختلف الفواصل بين الأزواج المتطابقة من العشريات؛ حيث يدفع تتابع السنوات الكبيسة جميع العشريات معًا، وذلك مع الحفاظ على المسافات التي تفصل بينها.
يشير المخطط الذي طرحه نوجبارو وباركر إلى عدم تأكدهما من أن الجداول تمثل بالفعل تتابع صعود النجوم في الأفق. وقد كشفت تحليلات سايمونز عن بعض البدائل المحتملة التي تبدو جميعها ممكنة. واستمدت سايمونز أدلتها من التناقضات بين نوعي الجداول، والتي تتعدى مسألة إزاحة العشريات في الأعمدة؛ فترتيب ظهور بعض العشريات -على سبيل المثال- يختلف كذلك؛ إذ توفرت لسايمونز بعض الأدوات التي لم تكن متاحة لكل من نوجبارو وباركر.
كان لدى سيمونز إمكانية استخدام البرمجيات القوية للقباب الفلكية، والتي بإمكانها العودة آلاف السنين لعرض شكل السماء ليلًا فوق مصر القديمة. عندما ننظر اليوم إلى السماء ليلًا، سنجد أن محور دوران الأرض يشير تقريبًا نحو النجم القطبي بولاريس. لكنه في الحقيقة يتذبذب ببطء شديد في حركة دوامية في دورة تستغرق 25800 سنة تقريبًا. لذلك، وبالرغم من عدم تغير السلوك العام للسماء (فلا تزال الشمس تشرق من الشرق وتغرب في الغرب)، وعدم تغير مواقع النجوم بنسبة بعضها إلى بعض، إلا أن هذا التذبذب يعني أن كل شيء في السماء يقع في مكان مختلف مقارنة بما كان عليه قبل 4000 سنة.
يمكن لهذا العرض الدقيق والمتحرك للسماء القديمة أن يقدم تفسيرات من الصعب تخيلها بأي وسيلة أخرى. وعلى الرغم من قدرة الباحثين على وصف مواقع النجوم القديمة باستخدام المعادلات الرياضية، لكن المعادلات طويلة ومعقدة. في حين يقوم أي نموذج حاسوبي بالعملية الحسابية تلقائيًّا بضغطة زر.
ساعدت برمجيات القباب الفلكية في توضيح أن التناقضات بين مجموعتي الجداول يمكن تفسيرها بكل سهولة إذا رُصدت النجوم بطريقتين مختلفتين. وتُظهر المحاكاة الحاسوبية أن جميع النجوم التي تظهر في الوقت نفسه على امتداد الأفق الشرقي –كما تظهر في أي مكان في مصر– سوف تغرب في أوقات مختلفة في الاتجاه الغربي من الأفق؛ نتيجة لميل الأرض بالنسبة للكرة السماوية. وهذه الخاصية التي تتميز بها الحركة النجمية سوف تعمل على تشويه ترتيب العشريات أو حتى خلطها بشكل ما إذا كان الجدول يتتبع غروب العشريات؛ فالحركة التي تظهر في النوعين المختلفين من الجداول النجمية تتسق مع احتمالية تمثيل إحداها لشروق النجوم والأخرى لغروبها.
ويمكن استخدام برمجيات القباب الفلكية أيضًا لمراجعة الاحتمالات الأخرى واستبعاد الاحتمالات التي لا تصلح منها. قد يكون التفسير الآخر للاختلافات بين مجموعتي الجداول متمثلًا في أن رصد النجوم كان يتم من موقعين مختلفين في مصر. لكن المقارنة بين المحاكاة الحاسوبية للقباب الفلكية عند دوائر عرض مختلفة، وبين الجداول الحقيقية، تشير بشدة إلى عدم حدوث ذلك. إذ يتعين أن يكون الرصد قد تم في أقصى شمال الساحل المصري وأقصى جنوب مصر، لكي يكون الفارق بين دائرتي العرض اللتين تم الرصد عندهما كافيًا لمضاهاة الفروق بين الجداول التي عثر عليها.
ولكن للمحاكاة قدرتها المحدودة. فتصور الشروق والغروب يُعَد ممكنًا، ولكن هناك متغيرات أخرى تُعَد ممكنة أيضًا، مثل تخيل أن ’’الأفق‘‘ المستخدم لم يكن الأفق الحقيقي، بل حافة حائط أو نقطة فوق شجرة معينة. فنماذج المحاكاة -مع كل قوتها الحاسوبية- لا يمكنها سوى التعامل مع البيانات المتاحة، ولذلك فهي مناسبة في الوقت الحاضر لاستبعاد احتمالات محددة بدلًا من محاولة ’’إثبات‘‘ ما حدث بالفعل.
وتنطبق نفس القدرات المحدودة لبرمجيات القباب الفلكية عند محاولة استخدامها للتعرف على النجوم التي تناظر أسماء العشريات القديمة في سمائنا. وقد أكدت المحاكاة الحاسوبية حتى الآن أن نجم الشعرى اليمانية “سيريوس” (ترجمة صوتية لـ”سيبيدت” بالهيروغليفية، وتنطق وتكتب “سوبديت”) كان أحد تلك العشريات، وهو أكثر نجوم السماء لمعانًا آنذاك وحتى يومنا هذا، وهو جرم سماوي مهم في علم الفلك المصري. ولقد قدم البعض تعريفات معقولة لنجوم أخرى تم رصدها، إلا أن درجة الثقة والتأكد تختلف من عشرية إلى أخرى.
ويعتقد معظم الباحثين أن ديكان خاو Khau يشير إلى نجوم الثريا، وهي فرضية تدعمها البرمجيات أيضًا. ومن المرجح أن يكون تشيميز إن خينتيت Tjemes en Khentet نجمًا أحمر، لأن كلمة “تشيميز” تعني ’’أحمر‘‘. ويشير البرنامج الحاسوبي إلى أن هذا التعبير، بالإضافة إلى موقع الديكان بالنسبة لسيريوس/سوبديت، ينطبق على قلب العقرب “أنتاريس Antares”. مع ذلك، وعلى الرغم من تلك الاستنتاجات الواضحة إلى حد ما، يمكن لأي مؤرخ لمصر القديمة أن يجادل لصالح هذا النجم أو ذاك، وألا يتفق مع آراء الآخرين؛ لأن كل باحث لديه أفكار مختلفة حول المعايير التي وضعها المصريون لاختيار أحد النجوم كعشرية: في أي اتجاه من السماء تحديدًا علينا البحث عن نجم يشرق؟ باتجاه الشرق؟ أم خمس درجات من الشرق؟ أم عشر درجات؟ هل كان من الممكن اختيار نجم لامع ومألوف، حتى وإن لم يكن في الموقع الصحيح تمامًا، وتفضيله على نجم آخر أقل سطوعًا، ولكنه يشرق أو يغرب في الموقع الصحيح تمامًا بما يتناسب وأغراض وضع الجداول بالضبط؟
وفي النهاية، إذا تأكدنا من عدد أكبر من النجوم التي استُخدمت، فسوف يمكننا استنتاج أسلوب المشاهدة والرصد، وإذا علمنا أسلوب الرصد، فسوف يمكننا تخمين النجوم، أما عدم معرفتنا بأي منهما، فهو ما سوف يضطرنا لوضع الافتراضات.
ربما كان السؤال الأكثر جوهرية من بين التساؤلات التي يثيرها وجود نوعين من الجداول هو الغرض منهما. وكما ذكرنا، فقد ظن نوجبارو وباركر أن الجداول تمثل ساعات. ويعني هذا المصطلح ضمنًا وجود نظام يشبه النظام الحديث المتبع حاليًّا لضبط الوقت، بحيث تُعتبر الجداول أدوات تركز على تحديد الوقت بشكل دقيق. مع ذلك، لا يتسق هذا التصور مع طريقة تعامل المصريين مع مسألة مرور الوقت بصفة عامة.
فعلى الرغم من أننا في القرن الحادي والعشرين نعتبر الوقت مجرد مرور نظري منظم للساعات والدقائق والثواني، إلا أن قدماء المصريين لم ينظروا إلى الوقت على هذا النحو. بدلًا من هذا، حددت الأحداث -مثل الحركة السماوية للشمس أو النجوم- الوقت ليلًا ونهارًا، فعلى سبيل المثال، كانت فترة منتصف الليل أو الفجر تُعرف بالوقت الذي يمكن خلاله رؤية نجوم محددة، أو الذي تكون فيه الشمس في منطقة معينة من السماء، بدلًا من لحظة واحدة محددة بدقة.
ويتعارض هذا الطرح مع التصور القائل بأن الجداول الفلكية قد وُضعت كطريقة لحساب الوقت بدقة، مما يجعل مصطلح ’’الجداول النجمية‘‘ أكثر مناسبةً من مصطلح ’’الساعات النجمية‘‘.
علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن رؤية النجوم على الإطلاق حتى تصبح السماء مظلمة على نحوٍ كافٍ. وبصورة عامة، فإن ’’الساعات‘‘ التي تخبرنا بها الساعة النجمية ستكون أقصر من 60 دقيقة، وربما تكون غير منتظمة. ويشير النموذج الحالي لسايمونز حاليًّا إلى أن هذه الجداول أشبه بتقاويم أو خرائط تسجل حالة السماء بمرور الوقت، أكثر من كونها ساعات عملية.
بالطبع، لا يزال السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا وُجدت الجداول النجمية داخل التوابيت في المقام الأول؟ وماذا كانت حاجة الموتى إلى معرفة الوقت؟ هل كانوا بحاجة إلى معرفة حركة السماء؟
ترتبط الإجابة المحتملة على هذا التساؤل ارتباطًا وثيقًا بمعتقدات المصريين عن الحياة بعد الموت. فقد كانت المعابد والمقابر وحتى التوابيت عوالم مصغرة لعالمنا، تمثل أسقفها أو الأوجه الداخلية لغطاء توابيتها السماء. إضافة إلى ذلك، تحوي بعض أقدم الكتابات الدينية -نصوص الأهرام- مفهومًا يُعرَف بميلاد الأرواح من جديد في صورة نجوم، كما كان يُعتقد أن الفرعون يصبح بعد موته جزءًا من نجوم الدائرة القطبية، التي يعني قربها من القطب السماوي الشمالي أنها لا تشرق ولا تغرب أبدًا؛ فهي نجوم خالدة. قد يكون هذا التفكير قد امتد لاحقًا ليشمل أفرادًا آخرين من طبقة النبلاء –مثل طبقة النبلاء المحليين حول أسيوط– جعلهم يودون أن يشرقوا في صورة نجوم أقل شأنًا، تنخفض مساراتها تحت الأفق في أوقات مختلفة من العام. وفي تلك الحالة، قد يحتاج الموتى إلى جداول نجمية لإرشادهم في أثناء صعودهم للالتحاق بالعشريات.
رقمنة الماضي
من أجل المزيد من تسهيل عملية البحث عن وظائف الجداول النجمية، أنشأت سايمونز قاعدة بيانات على شبكة الإنترنت، تحتوي حاليًّا على المعلومات التي عُثر عليها في جميع النماذج الموجودة التى تتعلق بهذا الأمر. يتيح هذا التحويل البرمجي للباحثين قاعدة معرفية مشتركة لإجراء المزيد من الدراسات، وتفادي الحاجة إلى نقل التوابيت الهشة والإضرار بها.
ولا يزال هناك بعض الأمل في العثور على جداول إضافية؛ إذ يتم الكشف عن عينات جديدة بين الحين والآخر في أثناء عمليات التنقيب في مصر. ولكن لسوء الحظ، فإن الآثار الموجودة ليست آمنة بالضرورة. فبعد عدة أسابيع من زيارة سايمونز وكوكروفت، واكتشافهما الأجزاء الجديدة، تعرض متحف ملوي للنهب من جراء النزاعات الأهلية في عام 2013، وعلى الرغم من استعادة عدد من القطع المنهوبة، يبقى مصير الجداول النجمية حاليًّا غير معروف.
غير أن سايمونز وكوكروفت قد تمكنتا عند عودتهما إلى مصر العام الجاري من استكمال مسحهما للجداول النجمية في المتاحف المصرية الأخرى، وهما عازمتان على مواصلة أعمالهما في توثيق التراث الفلكي لمصر القديمة وتحليله، فكل قطعة جديدة تمنحنا المزيد من المعلومات، وتدفع بإمكانية تحقيق قفزة كبيرة في فهم أعمال علماء الفلك القدامى. وهذا سبب إضافي للحفاظ على ما لدينا، والاستمرار في البحث عن المزيد.
اقرأ أيضًا: طيور حمراء تُجري تحويلات كيميائية للألوان
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.