كانت السيدة اليونانية حزينة حين مَثَلت أمام “زيوس”، كبير آلهة الأوليمب (نسبة إلى جبل أوليمبوس أو الأوليمب، الذي يُعَدُّ أعلى جبل في اليونان؛ حيث يبلغ 2,919 مترًا أو 9,570 قدمًا) لتشتكي من زوجها الذي هجرها منذ سنين.
ورغم الطباع الحادة التي تُميز مشاعر ذلك الإله، إلا أن قلبه رق لحال السيدة الضعيفة، وقرر أن يُهديها شيئًا مميزًا لا مثيل له ليحد من أحزانها ويُسبغ على روحها السلام، فشكل بيديه “فلورا Flora” آلهة الزهور، وأمرها بنشر السعادة في الأرض أينما حلت، والاستبدال ببؤس الشتاء وصقيعه مرحَ الربيع واعتداله، ونسخ نفسها في كل مكان.
تلك كانت الأسطورة اليونانية التي تُفسر انتشار الزهور حول العالم، لكنها لم تكن الأسطورة الوحيدة؛ فالأقدمون قالوا إن زهرة “الزنبق” هي دموع حواء حين غادرت الجنة، و”الزعفران” كانت روحًا لشابٍّ نبيل أحب بصدق، فكرمته الآلهة وجعلته زهرةً أبدية لا تذبل ولا تموت، وإن زهور النجمة هي دموع “أستيريا”، ربة السماء التي حزنت حين نظرت للأرض ولم تجد فيها نجومًا كالتي في السماء، وإن زهرة إكليل الجبل كانت في الأصل سيدةً ثارت ضد الظلم فتحولت إلى وردة لتُذكر الرجال بقوة الخير.
ثم جاء العالِم الإنجليزي تشارلز داروين، ليضع حدًّا لتلك الأساطير، ويصوغ نظريته المعروفة باسم “النشوء والارتقاء”، متسائلاً عن السبب الذي جعل الزهور تنتشر بتلك الكثافة في أرجاء كوكب الأرض، وحينما عجز عن حل المسألة، أطلق عليها “الغموض البغيض”.
حجم المادة الوراثية
وبعد نحو 135 سنة من وفاة داروين، يبدو أن العلماء توصلوا لفك طلاسم “الغموض البغيض”؛ إذ نشر باحثون من جامعة سان فرانسيسكو دراسةً في مجلة “بلوس بيولوجي PLOS Biology” العلمية، قالوا فيها إن حجم المادة الوراثية أدى دورًا فعالًا في انتشار الزهور حول العالم.
ووفق الدراسة الجديدة، فإن حجم المادة الوراثية للزهور يتناقص، مقارنةً بحجم المادة الوراثية في بقية الأنواع الحية، ما عزَّز عملية نقلها، وأدى إلى انتشارها في جميع أنحاء الأرض.
قبل ملايين السنين، سيطرت النباتات من شعبة الصنوبريات –وهي جنس من الأشجار الضخمة الخضراء حقيقية الأوراق- على سطح كوكبنا الأزرق، وكذلك السرخسيات -من حقيقيات الأوراق، هي نباتات غير مزهرة تشتمل على أوراق طويلة خضراء ومفصصة، تنمو في المناطق الرطبة- وفجأة، تحول ذلك الاخضرار إلى ألوان، بعد أن هيمنت الزهور متنوعة الأشكال والأحجام على النظام البيئي للأرض، فكيف حدثت تلك الهيمنة؟
لطالما اعتبر العلماء التنوُّع السريع والهيمنة المُطلقة للنباتات المزهرة على النظم الإيكولوجية الأرضية سرًّا غامضًا رغم أنه ظهر في العصر الطباشيري –العصر الذي بدأ منذ أكثر من 135 مليون عام وانتهى بانقراض الديناصورات قبل 65 مليون سنة- واستمر إلى الآن.
أظهرت الدراسة أن هناك مَن أرجع ذلك التنوع إلى انتشار الحيوانات العاشبة التي نقلت الملقحات لمسافاتٍ بعيدة، فيما اعتقد آخرون أن الانتشار يرجع لزيادة عملية التمثيل الضوئي للزهور، ما أدى لتكاثرها السريع، وانتشارها على نطاق واسع.
وكشفت موضحةً أن نجاح الزهور في غزو الكوكب يختلف سببه اختلافًا كليًّا عن المعتقدات السابقة، إذ إن تلك العملية تتعلق بطفرة وراثية في النباتات المزهرة، جعلت حجم جيناتها أقل.
أُجريت التجارب على عينة ضمت نحو 400 من السراخس والنباتات عاريات البذور وكاسيات البذور، بهدف دراسة تأثير حجم الجينوم على نمو الزهور، إذ وُجد أنه يؤثر تأثيرًا مباشرًا على حجم الخلية، كما أن الاختلاف في حجم الجينوم له عواقب عديدة على هيكل وتنظيم الخلايا والأنسجة الموجودة في الأوراق، والتي تؤثر بشكل مباشر على معدلات فقدان المياه (عمليات النتح) والتمثيل الضوئي.
وتشير نتائج الدراسة إلى أن تقليص حجم الجينومات سمح للزهور بزيادة امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ما زاد من معدلات نموها السريع مقارنةً بالنباتات البرية الأخرى.
قدرة الأوراق
قام الباحثون بمسح عدد كبير من الدراسات، ووجدوا أنه على مدى ثلاثين سنة مضت، أظهرت الأبحاث أن النباتات المزهرة لديها معدلات لا مثيل لها من التمثيل الضوئي، وقد أتاحت لها تلك المعدلات النمو بشكل أسرع، بفضل النجاح الأيضي لأوراقها، التي تُسهل معدلات نقل المياه وامتصاص ثاني أكسيد الكربون، فكيف استطاعت الزهور تحسين قدرة أوراقها؟
يؤدي إنزيم “روبيسكو” دور البطولة في حياة النباتات، فهو مسؤول بشكل كامل عن عملية التمثيل الضوئي، وهي تلك العملية التي تُحول فيها النباتات غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء الجوي إلى جزيئات عالية الطاقة تستخدمها كمغذيات.
تمتص النباتات ثاني أكسيد الكربون عن طريق أسطح أوراقها، وتبدأ العملية بامتصاص السطح لبخار الماء الموجود في الهواء، إذ يعمل الماء على تحرير الإنزيم، وتجف الورقة عن طريق ضوء الشمس، ثم تبدأ دورة امتصاص ثاني أكسيد الكربون، تمهيدًا لبدء العملية المعروفة بالبناء الضوئي، التي يتحول فيها بخار الماء وثاني أكسيد الكربون إلى طاقة وأكسجين.
وتشير البيانات النظرية والتجريبية التي عرضتها الدراسة إلى أن هناك عددًا من القيود البيوفيزيائية التي تضع تلك العملية على المحك، فكلما زاد حجم الجينوم، يزيد حجم النواة، وحجم الخلية، ما يجعل تلك العملية صعبة بالتبعية؛ إذ إن كثافة امتصاص الطاقة عملية عكسية بالنسبة للحجم، فكلما زاد الحجم قل امتصاص الطاقة، وبالتالي يقل النمو، ويقل الانتشار، والعكس صحيح.
يقول كيفين سيمونز -الباحث الرئيسي ومنفذ الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن الفريق البحثي وضع فرضية تقول إن حجم الجينوم الصغير للزهور أسهَمَ في انتشارها على نطاق واسع، وتَبيَّن أن تلك الفرضية صحيحة”.
وأشار سيمونز إلى أن تقليص الحجم الفيزيائي للمادة الوراثية أسهَمَ في جعل الزهور قادرة على بناء وحدات خلوية أصغر، ما ساعد على زيادة كفاءة عملية التمثيل الضوئي وجودتها، مما أدى إلى إكساب النباتات القدرة “على غزو محيطنا الحيوي”.
ويضيف أن “انتشار النباتات المزهرة أسهَمَ في تأجيج التنوع الحيواني الذى نراه اليوم”، مشددًا على أن أهمية البحث تكمن في الكشف عن آلية استخدمتها الزهور للانتشار.
من جهته، يقول مختار ممدوح حسين -مدير وحدة الهندسة الوراثية بجامعة أسيوط- لـ”للعلم”: “إن حجم المادة الوراثية يؤثر على كفاءة العمليات الحيوية، مؤكدًا أن المنهجية التي اتبعتها الدراسة سليمة”.
لكن “مختار” يعترض، في الوقت ذاته، بأن “الدراسة لم تجب عن سؤال آخر، مؤداه: كيف انتشرت النباتات ذات الجينات الكبيرة، حتى وإن كان نطاق الانتشار أقل؟”، متوقعًا أن يجيب العلم عن ذلك السؤال في المستقبل القريب، على حد وصفه.
اقرأ أيضًا: الإنسان الأول هاجر إلى السعودية قبل 85 ألف سنة
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.