تستطيع السجلات الحفرية أن تُخبِرَنا بالكثير حول ماضينا التطوري، من قبيل: كيف كان مظهر أسلافنا؟ كيف كانوا يمشون؟ وماذا كانوا يأكلون؟ ولكن ما لا تكشف عنه العظام هو سبب تطوُّر البشر على النحو الحالي، أي لماذا انتهى المطاف بنا، دون الأنواع الأخرى المعروفة، إلى الانفراد بعمليات معقدة مثل التفكير والعواطف والسلوك؟
يستخدم فريقٌ من الباحثين حاليًّا تقنيةً جديدة لصياغةِ فرضيةٍ تتعلق بأصول قدراتنا الإدراكية الثريَّة. وقد أنجزَ أعضاء الفريق عملهم برصد المواد الكيميائية التي تفرزها أدمغتنا. هذه المركبات الكيميائية، المعروفة بالناقلات العصبية، هي الجزيئات الناقلة للإشارات والمسؤولة عن الوظائف الأساسية. ويكشف البحث عن أن أدمغتنا، مقارنةً بأدمغة الرئيسيات العليا الأخرى، تمتلك توليفةً فريدةً من الناقلات العصبية التي يُحتمَل أن تكون قد أنتَجت قدراتنا الإدراكية المرتفعة.
بدأ مؤلفو الدراسة الجديدة -وهي بحثٌ أجري في مراكز عدَّة، وقادَهُ اثنان من علماء الأنثروبولوجيا بجامعة كِنت الحكومية، هما سي أوين لافجُوي، وماري آن راجانتِي، ونُشِر في دورية “بي إن إيه إس.” في 22 يناير- بقياس مستويات الناقلات العصبية في عيناتٍ من أدمغة البشر والشمبانزي والغوريلا والسعدان (البابون) والقِرَدة، والتي مات أصحابها جميعًا لأسباب طبيعية. وقد قاسوا تحديدًا مستويات الناقلات العصبية في الجسم المُخَطَّط (striatum)، وهو منطقة دماغية لها صلة بالسلوكيات والتفاعلات الاجتماعية. وبالمقارنة مع الأنواع الأخرى التي اختُبِرت، وُجِد أن لدى البشر نشاطًا مرتفعًا بشكل ملحوظ لمادة الدوبامين الموجودة بمنطقة الجسم المخطط. يساعد الدوبامين، ضمن وظائف أخرى له، على توجيه النشاط المرتبط بالمكافأة، والسلوكيات الاجتماعية. ويُسهم وجود الدوبامين في الجسم المخطط تحديدًا في القدرات والسلوكيات البشرية المتفردة، مثل التكوين المعقد للمجموعات الاجتماعية، وأيضًا الكلام واللغة بشكل جزئي.
وُجِد أيضًا أن لدى البشر والغوريلا والشمبانزي مستوياتٍ مرتفعةً من السيروتونين، بالمقارنة مع الرئيسيات الأخرى. ومعروف أن ارتفاع مستويات السيروتونين في الجسم المخطط يعزِّز التحكم الإدراكي والاجتماعي، ويقلل أيضًا من العدوانية، بينما يرتبط انخفاض مستويات السيروتونين بقصور تطور المهارات الاجتماعية.
يوجد ضمن الخليط أيضًا الناقلُ العصبيُّ أسِيتَيل كولِين، الذي يرتبط ارتفاع مستوياته بازدياد العدوانية. وقد وجد لافجوي وزملاؤه أن مستويات الأسيتيل كولين في الغوريلا والشمبانزي أعلى كثيرًا من مستوياتها في البشر. تقول راجانتي: “إن ارتفاع مستوى السيروتونين في الجسم المخطط، والذي يشترك فيه البشر مع القِرَدة العليا، يُحتمَل أن يضيف إلى المرونة الإدراكية المطلوبة للتفاعلات الاجتماعية المعقدة. أما انخفاض مستوى الأسيتيل كولين في البشر فهو يتوافق مع انخفاض عدوانيتنا بالمقارنة مع معظم القردة العليا الأخرى. إنها حقًّا منظومة متناغمة”.
تعتقد راجانتي ولافجوي أن توليفة المواد الكيميائية العصبية بالدماغ البشري شُكِّلَتْ عبر الانتخاب الطبيعي، بفضل ما توفره من فوائد مختلفة خاصة بالبقاء والتكاثر. ويقترح العالِمان أن بصمتنا الكيميائية الدائبة التطور قد سمحت لنا بالتفوق في المنافسة مع القردة العليا والأنواع البشرية المبكرة الأخرى، في إشارة منهما إلى الأنواع العديدة من أشباه البشر التي نشأت بعد انفصالنا عن الشمبانزي قبل ستة ملايين سنة.
يخمن الفريق أن ارتفاع مستويات الدوبامين في الجسم المخطط لدى البشر ربما يكون هو ما أدى إلى سلوكيات اجتماعية أرقى، وربما أدى إلى الزواج الأحادي، وهما الأمران اللذان ربما يكونان قد حَسَّنا فرصَ بقاء نسلنا وأفادا أسلافَنا. ويشعر أعضاء الفريق أيضًا أنه بتعزيز السلوكيات الاجتماعية، فإن نوع الشخصية المرتبط بـ”جسم مخطط يسوده الدوبامين”، كما يسمونه، ربما يكون هو ما أفضى إلى انتخابِ الأدمغة ذات الحجم الأكبر واللغة أيضًا.
يعتقد كليفورد جُولِي -عالِم الأنثروبولوجيا بجامعة نيويورك، والذي لم يكن ضمن فريق الدراسة- أن افتراض مؤلفي البحث يتمتع بالمصداقية، ويقول: “إن الاقتراح القائل بأن الاختلافات [في توليفة المواد الكيميائية العصبية] ترتبط باختلافاتٍ محددة بين القردة العليا والبشر من حيث الطباع والسلوك، يظل فرضًا، رغم كونه مؤسَّسًا على دعائم قوية. ومن الوارد بالتأكيد أن تكون إعادة تنظيم الجسم المخطَّط، التي وصفها البحث، قد أدت دورًا مهمًّا في تطور السلوك البشري المتميز، وخصوصًا ذلك المستوى المذهل من تعاطف الإنسان مع غيره من البشر، الذي يبدو صفةً غريزيةً في النوع”.
تشير البحوث السابقة إلى أن قدرتنا على التعاون وإبداء التعاطف -واللذَيْن يُعتقد أنهما مُهِمّان لنجاح البشر- اعتمدت جزئيًّا على كِبَر حجم الدماغ بالنسبة لحجم الجسم في أسلافنا من أشباه البشر، وأن آليات الانتخاب غير المُرَحِّبة بالعدوانية داخل العشائر البشرية المبكرة قد سمحت لنا بأن نزدهر. وتلك تُسمى “فرضية الاستئناس الذاتي”. وفي تخطيطها لتلك الدراسة الجديدة، أرادت راجانتي أن تختبر ما إذا كان الدماغ كبير الحجم ضروريًّا أم غير ضروري لتمكيننا من تحقيق الاستئناس الذاتي. ولكن نظرًا لدور الجسم المخطط في تيسير التفاعلات الاجتماعية، قررت هي وزملاؤها أن الجسم المخطط ربما يكون هو المنطقة الدماغية الأَولى منطقيًّا بالاختبار.
بناء على الاكتشافات الجديدة تعتقد راجانتي أن ما ظهر أولًا هو بصمتنا الكيميائية، وهي التي سمحت بعد ذلك لأدمغتنا بأن تكبر في الحجم، وتقول: “تُوفِّر اكتشافاتُنا آليةً توضح كيف انتهت سلالتنا إلى امتلاك أدمغة كبيرة الحجم [في المقام الأول]”. ومثلما تشير راجانتي، فإن هناك دليلًا تشريحيًّا يدعم هذا الترتيب الزمني.
تبيِّن السجلات الحفرية أن سلالتنا البشرية ظهرت قبل أن تبدأ أدمغتنا في التضخم. وفي الوقت الذي بدأت فيه جماجمنا في التمدد، فإن أنيابنا -“أسناننا المخلبية”- كانت قد بدأت بالفعل في الانكماش كثيرًا من حيث الحجم. تقول راجانتي إن أنيابنا الأصغر يمكن أن يُنظَر إليها على أنها “أسنانٌ اجتماعية”. إن قِصَرَ تلك الإشارات القاتلة البارزة، والتي طالما استُخدِمت من جانب الذكور المتشاحنة في تنافسها على جذب انتباه الإناث، قد عزَّزَ النزعة المدنية بين أشباه البشر الأوائل. وتقول راجانتي: “يدل اختزال حجم الأنياب على نقص العدوانية، وهو ما يمكن أن يتوافق مع التركيبة الكيميائية العصبية التي نراها في البشر المعاصرين. ومن المهم أن ذلك يمكن أن يكون قد حدث من دون أي تضخم للدماغ”.
لمتابعة الدراسة، يخطط لافجوي وراجانتي لاختبار فكرتهما عن طريق فحص القردة العليا الميتة التي سبق رصْدُ سلوكها وتسجيله على مدار حياتها. إذا كانت فكرتهما صحيحة، فإن الرئيسيات التي يكون الذكور فيها أكثر ميلًا للزواج بأنثى واحدة، يجب أن تتمتع بمستويات أعلى من الدوبامين، بينما يجب أن يكون لدى الأفراد الأكثر عدوانيةً والأكثر استحواذًا بين أبناء عمومتنا التطوريين، مستوياتٌ مرتفعةٌ من الأسيتيل كولين.
تقول راجانتي: “إن تحديد السلالة [من خلال السجل الحفري] هو أمرٌ مثير للاهتمام لدى بعض الناس، لكنه لا يخبرنا إلا بالقليل جدًّا عن السبب الذي يجعل البشر أذكياء واجتماعيين بشكل استثنائي. ويمكن أن تخبرنا كيمياء الدماغ بما يفوق ذلك كثيرًا جدًّا”.
اقرأ أيضًا: الإنسان الأول هاجر إلى السعودية قبل 85 ألف سنة
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.