لعشر مرات على الأقل؛ طوّرت الخنافس الجوالة Rove beetles القدرة على غزو أوكار النمل العسكري والسرقة منها، بشكل مستقلّ.
لا ترحب مستعمرة النمل العسكري بالغرباء. هذا النمل معروف بشراسته، ليس هذا وحسب، بل إنه متخصص بتنسيق الهجمات الجماعية. ولكن في حجور جميع الـ 340 نوعا المعروفة من النمل العسكري، سارقةً بهدوء التغذية من مضيفيها غير الراغبين فيها، تعيش خنافس صغيرة. وقد فقدت هذه الطفيليات التي بحجم البراغيث خصائصها “الخنفسائيّة” ويبدو شكلها ورائحتها وتصرفاتها أشبه بالنمل، لدرجة أنه بإمكانها سرقة الطعام والتغذي بالنمل الصغير، مُفلتةً من العقاب.
قد تعتقد أن تكيّف هذه الخنافس المعروفة بالجوالة يعود إلى إنجاز غير محتمل من إنجازات التطوّر، ولن يتكرر ألبتة، لكنك مخطئ، حسب ما تشير دراسة جديدة. فمن خلال التحليل الجنائي لأربعين نوعا من الخنافس من تجمعات النمل العسكري في جميع أنحاء العالم؛ أظهر كل من جوزيف باركر Joseph Parker، عالم الحشرات بجامعة كولومبيا Columbia University ومونيتوشي ماروياما Munetoshi Maruyama من متحف جامعة كيوشو Kyushu University Museum في فوكوكا باليابان، أن الخنافس لم تتكيف مرة واحدة كما كان يعتقد بعض المحقّقين، بل عشر مرات على الأقل. يقول دانيال كرونر Daniel Kronauer، عالم الأحياء التطوري في جامعة روكفلر The Rockefeller University في مدينة نيويورك “ن الخنافس تقدّم معًا أمثلة مذهلة لتطورٍ موازٍ في الأزمنة السحيقة.”
وهناك أمثلة أخرى للتطور الموازي – طوّرت أسماكا بحرية صغيرة تسمّى أسماك أبي شوكة التغيّرات نفسها مرارًا وتكرارًا بعد أن أصبحت مُحاصرة في بحيرات مياه عذبة بشكل متكرر، كما طوّرت سحالي Anole تعديلات مماثلة عبر جزر الكاريبي التي قامت بغزوها. لكن تلك الأنواع كان لها سَلَف مشترك حديث، ومن المرجح استغلالها لآليات عمل وراثية متشابهة جدا أثناء تطورها بشكل متواز. وفي المقابل، فإن أنواع الخنافس الجوالة كانت قد تشعّبت بالفعل خلال عشرات ملايين السنين قبل أن تتعايش مع النمل العسكري وتنسجم معه بشكل مستقلّ. ويقول تيري أورد Terry Ord، عالم الأحياء التطوري في جامعة نيو ساوث ويلز University of New South Wales في سيدني، بأستراليا: “ إنه مثال حيّ على التقارب المورفولوجي Morphological convergence، ومن المرجّح أن يصبح كلاسيكيا”.
تفوق الخنافس الجوالة عدد أي مجموعة أخرى من الحيوانات متعددة الخلايا، إذ إن لها 61 ألف نوع معروف، لكنّ معظمها يعيش مُختبِئا تحت أوراق الأشجار في المناطق الاستوائية وفي الأماكن الأخرى الغامضة. لكن عدة جماعات قد تبنّت أسلوب حياة – وإن كان أكثر خطورة – إلا إنه يَعِد بمكافئات أغنى، كالنمل الطفيلي وأوكار النمل الأبيض. “وتشبه مستعمرة الحشرات الاجتماعية ولاية مانهاتن؛ مصدر ممتلئ جدًا بالطاقة مع الكثير من التخصصات المختلفة… إذا استطعت الدخول فإن المردود سيكون مرتفعا للغاية.” كما يوضّح كرونر.
وليس من السهل دراسة الطفيليّات. فقد أنفق باركر و ماروياما قرابة العقد في تتبّع مسارات النمل العسكري لجمع عينات جديدة، وقد أعاق هذه العملية عدوانية النمل وندرة الخنافس التي يبلغ عددها نحو 1 فقط لكل 1000 نملة. ففي النهاية حصل الثنائي على ما يكفي لسَلْسَلَة للحمض النووي DNA من خمس جينات للخنافس، والجمع بينها وبين بيانات من دراسات أخرى، وبناء شجرة عائلة. وقد أظهر التحليل المذكور في الورقة التي نُشرت في مجلة بيورفيكس bioRxiv بتاريخ 30 سبتمبر أن جميع الخنافس المرتبطة بالنمل قد اشتركت مع أقاربها الذين على قيد الحياة في سلف مشترك قبل 105 مليون سنة. وقد تعايشت الخنافس وانسجمت مع النمل منذ ذلك الحين لأكثر من 12 مرة.
تشير الدراسة إلى أن الخنافس كانت متهيّئة بطريقة واحدة على الأقل لتطوير نظام حياتها غير الاعتيادي. أظهرت أعمال سابقة أن السَّلَف المشترك للأنساب الطفيلية قد طوّر غدة على طرف المعدة، ترشّ مكونات ضارّة تسمّى “ كينونات” Quinones على أيّ مهاجمين. يقول باركر: “إنه تكيّف مُسبق يسمح لها بالخضوع لبعض التعديلات المُفرطة.” ومنذ ذلك الحين، طوّرت بعض الخنافس الطفيليّة غُددًا ووظائف جديدة. ترشُّ إحدى المجموعات الآن فيرومونات إنذارٍ للنمل، مما يُسبّب تفرّق المهاجمين المحتَملين. في حين يفرز البعض الآخر ما هو على الأرجح المواد الكيميائية نفسها التي يستخدمها النمل للتعرّف على زملائه في المُستعمرة. بمساعدة المزايا الأخرى التي تتضمّن خصرًا أضيق وأقدامًا أطول وقرونَ استشعارٍ بمفاصل كوع تشبه النمل وحتى طريقة المشي التي تشبهه؛ يخدع المتطفّلين مضيفيهم بمهارة ويحصلون منهم على التغذية والحماية والتنقل.
ويعتقد تارو إلدردج Taro Eldredge، وهو طالب دراسات عليا في جامعة كنساس University of Kansas في لورنس، أن هذه القصة تنطبق على أنواع كثيرة من الخنفساء الجوالة التي أقامت مع النمل الأبيض. ولم يحلّل الباحثون الحمض النووي DNA لاكتشاف التاريخ التطوّري لهذه الخنافس، وذلك لقلة العينات المجموعة. لكن إلدردج و ماروياما وتايسوك كانو Taisuke Kanao من جامعة كيوتو في اليابان قد اقترحوا سيناريو لكيفية انتقال الخنافس للعيش مع النمل الأبيض. وتشترك مجموعات النمل الأبيض مع مجموعة أخرى من الخنافس الجوالة بميزة غريبة، وهي العيش والاصطياد على الشواطئ. ولحماية رؤوسها أثناء شقهم الطريق عبر حبيبات الرمل؛ فإن لدى هذه الخنافس نوعا من القناع تشكّل من توسيع منطقة الصدر. وتمتلك الخنافس الطفيليّة درعًا مماثلة، وفي الورقة المنشورة على الموقع bioRxiv بتاريخ 27 أكتوبر، اقترح الباحثون أن الدرع كانت أساسية في تمكينها من الصمود أمام الهجوم، أثناء تعديها على أوكار النمل الأبيض.
في البداية، ربما تكون الخنافس قد انتشرت على مداخل التل لأكل أعضاء المستعمرة المجروحين، لكن البعض قد بدأ تدريجيًّا بالمراوغة والدخول، فوجدوا الجائزة الكبرى. يقول إلدردج وزملاؤه إنه، ومع الوقت، طوّرت بعض الأنواع خصائص فيزيائية وطرقا أخرى لخداع مضيفيهم والعيش بينهم؛ مثل جسد يشبه جسد النمل الأبيض مع بطن منتفخة ورائحة جسد وسلوك مشابه. لا يعرف إلدردج ما إذا كان هذا التقليد الرائع قد تطور مرارا وتكرارا كما حدث مع النمل، لكنه يعتقد أن التطور قد عرض براعته أكثر من مرة، كما هو الحال مع طفيليات النمل. يصوغ كرونر قصة الخنافس الجوالة قائلا: “تشعر بقوة التطور – الانتقاء الطبيعي – وهو يحدِّق في عينيك.”
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: تعديل الكهرباء البيولوجية ربما تجدِّد الأطراف المفقودة