شرح الصورة: هذه القطعة العظمية تحمل الدليل الأكثر مباشرة حتى الآن للتزاوج بين الأنواع القديمة.
ربما كانت المرأة مجرد مراهقة عندما توفيت قبل أكثر من خمسين ألف سنة، وهي أصغر من أن تترك الكثير من الإشارات عن عالمها. ولكن قطعة من عظامها، اكتُشفت في كهف في وادي دينيسوفا بروسيا Russia’s Denisova في عام 2012، قد تجعلها مشهورة. إذ تكفي كمية الحمض النووي DNA القديم في القطعة التي يبلغ طولها 2 سنتيمتر للكشف عن سلالتها المذهلة: كانت هي النسل المباشر لنوعين مختلفين من البشر القدماء – لا أحد منهم من نوعنا. ويشير تحليل جينوم المرأة، الذي نُشر في عدد هذا الأسبوع من مجلة نيتشر Natute، إلى أنّ والدتها كانت نياندرتال Neanderthal ووالدها دينيسوفان Denisovan، وهي مجموعة غامضة من البشر القدماء اكتُشفت في الكهف السيبيري نفسه في عام 2011. وهذا هو أكثر الأدلّة المباشرة حتى الآن على أنّ مختلف أنواع البشر القدماء يتزاوجون ببعضهم البعض ويُرزقون بذرية.
واستناداً إلى الجينومات القديمة الأخرى، تَوصَّل الباحثون إلى أنّ الدينيسوفان وإنسان النياندرتال والإنسان الحديث قد تزاوجوا في العصر الجليدي بأوروبا وآسيا. وتوجد جينات كل من الأنواع البشرية القديمة في كثير من الأفراد اليوم. وقد أظهرت الأحافير الأخرى الموجودة في كهف سيبيريا أنّ جميع الأنواع الثلاثة قد عاشت هناك في أوقات مختلفة. ولكن الاكتشاف الجديد “مثير” على حد سواء، كما يقول يوهانس كراوس Johannes Krause، الذي يدرس الحمض النووي القديم في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري Max Planck Institute for the Science of Human History في ينا بألمانيا. “الآن لدينا ثمرة حب مجموعتين مختلفتين من الهومينين (أشباه البشر) Hominin، عُثر عليها حيث وُجدت أعضاء من كلتا المجموعتين. فقد حدثت أمور كثيرة في كهف واحد عبر الزمن.”
وتقول فيفيان سلون Viviane Slon، عالمة الوراثيات القديمة من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيغ بألمانيا، والتي قامت بتحليل الحمض النووي القديم، عندما رأت النتائج، إنّ ردة فعلها الأول كان عدم التصديق. وفقط بعد تكرار التجربة عدة مرات، اقتنعت هي وزملاؤها في لايبزيغ – سفانتي بابو Svante Pääbo، وفابريزيو مافيسوني Fabrizio Mafessoni، و بنجامين فيرنوت Benjamin Vernot. ويقول بابو: “إن وجود ذرية مباشرة للإنسان القديم الذي عُثر عليه بين أول جينومات أحفورية قليلة استردت من الكهف يشير إلى أنه عندما اجتمعت هذه المجموعات، اختلطت في الواقع بحرية تامة ببعضها البعض.”
وتشير خصائص القطعة العظمية إلى أنها لشخص يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا على الأقل. وبعد طحن العينات الصغيرة واستخراج الحمض النووي وسَلْسلتها، وجدت سلون وزملاؤها أنها لأنثى، وأنّ جينومها يتطابق مع جينات دينيسوفان ونياندرتال بمقياس مماثل تقريبا. وإضافة إلى ذلك، فقد كانت نسبة الجينات التي احتوت فيها أزواج كروموسوماتها على اختلافات متفاوتة ـ ما يسمى بالألائل متباينة الازدواج Heterozygous Alleles ـ قريبة بنسبة 50% عبر جميع الكروموسومات؛ مما يشير إلى أنّ الكروموسومات الأمومية والأبوية جاءت مباشرة من مجموعات مختلفة. وحمضها النووي الميتوكوندري، الذي يورّث من الأم، كان نياندرتاليًا بشكلٍ موحد، لذلك خلص الباحثون إلى أنها كانت هجينًا أوليًا لرجل دينيسوفاني وامرأة نياندرتالية. والدليل “مباشر جدًا، وكأننا شهدنا الحدث بأنفسنا”.، كما يقول بابو.
وتشير نظرة فاحصة للجينوم إلى أنّ والدها كان لديه أيضًا بعض سلالة النياندراتال، وربما يعود إلى عدة مئات من الأجيال. وجينات إنسان نياندرتال أقرب إلى جين إنسان نياندرتال الموجود في كرواتيا من تلك التي عُثر عليها في الكهف السيبيري. وهذا يشير إلى أنّ مجموعات متميزة من إنسان نياندرتال كانت تهاجر ذهابًا وإيابًا بين أوروبا الغربية وسيبيريا عدة مرات.
وعلى طول الطريق، على ما يبدو، نشروا جيناتهم بحرية ونقلوها إلى الغرباء. وهذا يسلط الضوء على السؤال، كما يقول كراوس، لماذا لا يزال الدينيسوفان والنياندرتال يُشكلان مع ذلك مجموعات متميزة وراثيا. ويُضيف قائلا: “لماذا لا يجتمعون معاً كتعداد سكاني واحد إذا كانوا يجتمعون من وقت إلى آخر؟”، ربما كان للحواجز الجغرافية دور، كما يقول، لكن الباحثين يحتاجون إلى المزيد من الأحافير التي تحتفظ بالحمض النووي القديم ومن مواقع متعددة لفهم الإرث الحقيقي لهذه الاقترانات في عصور ما قبل التاريخ.
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: الطيور تعتمد على “ميكانيكا الكم” في هجراتها الملحمية