يُستخدم مصطلح عصور ما قبل التاريخ للدلالة على الحقبة الزمنية الطويلة التي سبقت اكتشاف الأبجدية الأولى أو الكتابة. يعتقد العلماء أن البشر تطوروا عبر ملايين السنوات للوصول إلى ما نحن عليه الآن، وأن النوع الأول من الإنسان -الجنس الذي ينتمي إليه البشر- ظهر منذ حوالي 2.5 مليون سنة، وأن خلفاءهم بدأوا في النهاية في صنع الأدوات الحجرية، وإتقان استخدام النار، والعيش في الكهوف والملاجئ البسيطة.
وحين نتحدث عن عصور ما قبل التاريخ، تتبادر إلى الأذهان صورة لمجموعات من البشر، يرتدون ملابس مصنوعة من جلود الحيوانات، يغلب عليهم طابع الوحشية والقسوة، يُصممون أدواتهم بغرض القتل، حياتهم قاسية ولا يهتمون إلا بقوت يومهم.
إلا أن دراسة جديدة تدحض تلك الادعاءات؛ فالإنسان القديم كان يتمتع بحس جمالي، وبرغبة عارمة في التباهي بقدراته في صناعة الأدوات الحجرية، وهو أمر لم يكن معروفًا قَط عن البشر في ذلك المكان.
فقد توصلت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين عاشوا في شبه الجزيرة العربية منذ حوالي 8000 عام ابتكروا أسلحة حجرية معقدة. لم تكن تلك الأسلحة مفيدة وظيفيًّا فقط، بل كانت مُصممة أيضًا “للتباهي” بمهاراتهم في صنع الأدوات.
قام باحثون من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بالتعاون مع علماء من جامعة ولاية أوهايو ومعهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري، والمركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، بمدينة الكويت، بالتنقيب وفحص نقاط المقذوفات -مقل رؤوس الحراب والأسهم- التي تمت صناعتها خلال العصر الحجري الحديث، في المنطقة التي تُعرف الآن باليمن وسلطنة عُمان.
ووجد الباحثون أن العرب اخترعوا بشكل مستقل طريقةً لإنشاء نقطة في المقذوف تُسمى الطرف المُدبب المُخدد، صممها لأول مرة بشر عاشوا في أمريكا الشمالية قبل 13000 سنة. فنحن أمام مجموعتين من أسلاف البشر
عاشتا بشكل منفصل ودون أي اتصال مباشر بينهما، ونجحتا -كل على حدة- في ابتكار أدوات معقدة تدل على مهارة فائقة.
لعقود مضت، ظن علماء الآثار أن تقنية النقطة المُخددة خاصة فقط بالثقافات الأمريكية في العصر البليستوسيني؛ إذ تم توثيق ذلك الاكتشاف من قِبل العلماء قبل ما يقرب من 100 عام.
ترى الباحثة في مجال الآثار بجامعة كينت الأمريكية، ميشيل بيبر -غير المشاركة في الدراسة- أن لتلك الدراسة قيمة هائلة. إذ تشير إلى أن “المنتج الإبداعي البشري يُمكن أن يتجاوز الحدود”، وأن البشر “يُفكرون بطريقة متشابهة إلى حدٍّ ما، حتى وإن كان بينهم مسافات شاسعة”.
تقنيات التخديد
التخديد طريقة لتصنيع الأداة الحجرية تستلزم إبداعًا من نوع خاص. إذ يُجري الصانع نحتًا في نقاط محددة تقع على المحور الطولي لقطعة الحجر.
في تلك الدراسة، المنشورة في دورية “بلوس وان“، أبلغ الباحثون عن أدوات حجرية متنوعة تم اكتشافها في موقع المنايزة الأثري اليمني، وموقع الدهارز العُماني. تكشف الأدوات المكتشَفة من الموقعين عن طريقة فريدة لسكان شبه الجزيرة العربية في صناعة الأدوات الحجرية.
فهؤلاء البشر استخدموا التخديد لنحت الحجر؛ ليبدو أكثر أناقةً، وأخف وزنًا، وأنحف.
في هذا الإطار، تشير “بيبر” إلى أن الدراسة “مثيرة للخيال”. كما أنها تفتح الباب للمزيد من الأسئلة.. أهمها على الإطلاق كيف كان يفكر الإنسان القديم في تزيين أدواته؟ وما الدوافع التي أدت إلى تكبُّده المزيد من المشقة لصناعة أدوات يتباهى بها في ذلك العصر السحيق.
دراسات وتجارب مقارنة
لتوضيح أوجه التشابُه والتبايُن التكنولوجي لطرق التخديد في شبه الجزيرة العربية والأمريكتين، أجرى الباحثون مجموعةً من الدراسات والتجارب المقارنة، ولاحظوا أوجه تشابه في أساليب التصنيع بالنسبة للقطع ثنائية الوجه. في الحين الذي تظهر فيه مجموعة من الاختلافات التكنولوجية في طبيعة عملية التخديد، وأهدافها الوظيفية والاجتماعية والثقافية. ففي أمريكا الشمالية استخدم البشر تلك التقنية لتحسين وظيفة أدوات الصيد فقط، في حين استخدمها سكان الجزيرة العربية للتباهي والتفاخر.
ويقول الباحثون إن تقنيات التخديد العربية والأمريكية توفر مثالًا ممتازًا لتقارُب أساليب إنتاج الأدوات الحجرية المتخصصة للغاية.
كما توضح الدراسة أيضًا أن الابتكارات والاختراعات المماثلة تم تطويرها في ظل ظروف مختلفة، وأن أساليب الإنتاج المتقاربة والمهارة العالية يمكن أن يكون لها آثار أنثروبولوجية مختلفة؛ إذ يُمكن أن تضيف الكثير من المعلومات عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان القديم لدرجة استخدامه التقنيات ذاتها لأغراض مختلفة في منطقتين متباعدتين.
على حد قول الباحثين، جرى استخدام تقنية التخديد في أمريكا الشمالية لجعل رأس السهم أو رأس الحربة أكثر فاعليةً، أما في شبه الجزيرة فقد استخدمها البشر لإظهار مهاراتهم الفنية. فالتخديد استُخدم في تلك المنطقة لإظهار المهارة رغم أن تلك التقنية صعبة للغاية، وقد ينجم عنها كسر في نصل القطعة الحجرية، وبالتالي ضياع المجهود والوقت.
تقول الدكتورة في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة ولاية أوهايو، جوي مكورستون، والمؤلفة المشاركة في الدراسة: إن صانعي الأدوات العرب “كانوا يتباهون فيما بينهم بصنع أدوات بديعة لها غرض جمالي، بغض النظر عن الأغراض الوظيفية”.
وتشير “مكورستون” -في تصريحات خاصة لـ”للعلم”- إلى أن الدراسة التي عمل عليها الباحثون طيلة 16 عامًا “تكشف عن مجموعة من السياقات التاريخية للتباهي عند البشر الأوائل”.
مهارة خاصة للغاية
في البداية، قام الفريق البحثي بأعمال التنقيب التي استمرت من عام 2004 إلى عام 2008. فوجئ العلماء بالعثور عن أدوات مُخددة خارج أمريكا الشمالية. وكان ذلك اكتشافًا مهمًّا في حد ذاته.
في أسلوب التخديد، يقوم الصانع بإزالة “قشرة” من الحجر على طول المحور المركزي. يُشبه الأمر عمل رقائق البطاطس على سبيل المثال. يقوم الصانع بإزالة رقائق طويلة ومسطحة بسُمك مُعين للوصول إلى الشكل الأمثل للقطعة الحجرية بما يتناسب مع وظيفتها أو شكلها الجمالي.
لكن الحجر ليس كالبطاطس. فمعظم الأدوات المُخددة تُصنع من الحجارة القاسية كالصوان والعقيق الأبيض والكوارتز البلوري. وبالتالي، تكون عملية النحت غايةً في الخطورة؛ فقساوة الحجارة تجعلها قابلةً للكسر حين يقل سُمكها، وبالتالي تستلزم عملية التخديد مهارةً خاصة للغاية من أجل الوصول إلى الشكل النهائي.
تُعرف طريقة التخديد بشكل كبير في جميع أنحاء الأمريكتين. تمتد من القطب الشمالي إلى منطقة باتاغونيا (جنوب الأرجنتين). وقد استخدمها سكان العصر البليستوسيني المتأخر المعروف باسم العصر الحديث الأقرب.
أما الاكتشاف الجديد فيقول إن مجموعات السكان الذين عاشوا في مناطق بشبه الجزيرة العربية خلال عصر الهولوسين المبكر تمكنوا من استخدام أسلوب التخديد لتصميم أدوات حجرية مصقولة بغرض التباهي في الأساس.
والهدف من تلك الدراسة هو الكشف عن الفروق بين تقنيات سكان شبه الجزيرة العربية وسكان الأمريكتين. عبر تسليط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين الأسلوبين العربي والأمريكي.
لعقود طويلة، تساءل العلماء عن سبب استخدام سكان عصور ما قبل التاريخ لأسلوب التخديد في صناعة الأدوات. استنتج العلماء أن الغرض الرئيسي من عملية التخديد هو تنحيف نصل الآلة الحجرية كي يلائم ثقب المقبض.
فالنصل المشحوذ يلزمه مقبض قوي. كما أنه يجب أن يكون متناسبًا مع عرض المقبض. لذا، يعمل الصانع على “تقشير” النصل كي يصل إلى العرض المطلوب. كما أن التخديد يُساعد أيضًا على جعل النصل أكثر حدة، ما يجعله قادرًا على الاختراق بصورة أسهل، وأقوى.
تلك هي المهمة الوظيفية لعملية التخديد. لكن سكان المنطقة العربية لم يكتفوا بما اكتفى به مَن عاش في قارة أمريكا الشمالية!
فقد تلاعبوا بالنصال، وخاطروا بكسر أو إتلاف قطعة من الحجر استهلك الصانع الكثير من الوقت لشحذها؛ فقط بغرض التباهي.
فالقطع المكتشفة أكثر هشاشةً وأقل قوةً من حيث الوظيفة، ما يعني أنها لا تؤدي فائدة من الناحية الفعلية.
إلا أن بعض الباحثين يُجادلون بأن عملية التخديد المبالَغ فيها تُقلل من وزن النصل، وبالتالي تساعده على الطيران. بينما يقول آخرون بأن التخديد المبالغ فيه يجعل من استخراج رأس السهم من جسد الفريسة أمرًا أسهل بكثير.
كما قال البعض الآخر إن سكان شبه الجزيرة العربية القدامى ربما استخدموا طريقة التخديد لترقيق الأسهم كي تجعل الفرائس تنزف بصورة أكبر، واقترح آخرون أن تلك الرؤوس ربما طُليت بالسم لتساعد على قتل الفرائس، مما يساعد على اصطياد الحيوانات الأكثر ضخامة، كالماموث، والبيسون، والدب، وثور المسك.
إلا أن تلك الدراسة كشفت عن تفسير آخر غير نفعي محتمل. فاليوم، يتباهى الصناع بعمليات شبيهة، ربما لنجاحهم في مهمات عالية الخطورة.. وبالتالي، ربما يكون البشر الأوائل قد استخدموا تلك الطريقة كعرض مهاري يتجاوز الدور التقني والمهاري، ويمتد ليشمل إثبات الذات والتباهي بما صُنع.
اكتشاف أول قطعة مُخددة
اكتشفت أول قطعة مُخددة في شبه الجزيرة العربية أوائل الستينيات. في محافظة المُهرة اليمنية على الحدود مع منطقة ظفار العمانية. لم يستخدم الباحثون لفظ “التخديد”، لكنهم قدموا أمثلة في الرسوم التوضيحية.
وفي عام 2004، وجد الباحثون في تلك الدراسة 5063 قطعة في منطقة المنايزة اليمنية في طبقة رسوبية تقع على عمق 2.20 متر ومساحتها لا تزيد على 15 مترًا مربعًا. كما وجدوا نحو 2462 قطعة سطحية على مساحة 157 مترًا مربعًا.
لاحظ الباحثون أن بعض القطع مصنوعة من الزجاج البركاني -حجر السج- وهو نوع من الأحجار غير الموجودة في تلك المنطقة. وبالبحث، وجد الباحثون أن مصدر تلك الأحجار الأقرب يقع على بُعد 400 إلى 500 كيلومتر من موقع المنايزة.
وبفحص القطع، وجد الباحثون أن صانعها أجرى 21 عملية تخديد فردية على الأقل في كل قطعة. وهي عمليات شاقة وغاية في الصعوبة، خاصةً مع نوع الحجارة المستخدم، الذي يتميز بصلادة كبيرة.
وبمقارنة تلك الأدوات بأدوات أخرى تم اكتشافها في المرحلة الزمنية نفسها، لكن في جنوب المملكة العربية السعودية ووسطها وشمالها، لم يجد الباحثون صلات بينها، لا على مستوى التصميم ولا على مستوى الوظيفة. فالتخديد لم يفعله إلا سكان تلك المنطقة وسكان الموقع العماني.
وهذا يعني أنه على عكس أمريكا الشمالية التي انتشر فيها التخديد على المستوى الجغرافي، لم تُعرف تلك العملية سوى في المنطقتين: اليمنية والعمانية.
بالنسبة للمرحلة الأولى، استخدم الصُّناع بعض المواد الخام من البيئات القريبة، ومنها النتوءات، وصخور الأنهار الثانوية، والوادي. ويقول الباحثون إن الإنسان الصانع في ذلك المكان كان يفضل حجر اليشب في الصناعة؛ نظرًا لجودته العالية، وسهولة تخديده، مقارنةً بالأحجار الأخرى.
وفي المرحلة الثانية، يُجري الصانع عملية التخديد على طول المحور الطولي من طرف واحد للقطعة الحجرية ثنائية الوجه. يستخدم الصانع حجرًا أشد صلادةً يُحدث تآكلًا بمعدل كبير للقطعة المراد تشكيلها؛ حتى يحصل على حجر مسطح ومنتظم وحاد، ما يتيح الميزة الوظيفية للحجر.
بعد ذلك، يعمل الصانع على كشط قطعة الحجر مرةً أخرى من الجهة الأخرى؛ للحصول على المظهر المثالي، بحيث تكون مدببةً عند الطرف، ومسلوبةً بشكل مخروطي بديع يصل إلى القاعدة.
وعثر الباحثون في خور الدهاريز -وهي إحدى البحيرات الرئيسية في منطقة ظفار جنوبي عُمان- على أدوات صُنعت بالشكل نفسه.
الحاجة إلى مزيد من العمل الميداني
لفحص الأدوات، أجرى الباحثون سلسلةً من العمليات بين عامي 2013 و2018 عبر شخص واحد؛ من أجل ضمان التناسق. اختار الباحثون فردًا يتمتع بمهارات عالية وخبرة تزيد على 20 عامًا في الأدوات من العصر الحجري.
وتوصل الباحثون إلى أن النظرة العامة لتقنيات التخديد الأمريكية والعربية تثبت أن سكان الجزيرة العربية طوروا بشكل مستقل تمامًا تقنيات التخديد بعد ظهورها في أمريكا الشمالية بعدة آلاف من السنين.
ويقول الباحثون إنه من الصعب التأكُّد من تفسير وظيفة تقنية النقطة المخددة وأهدافها في شبه الجزيرة العربية، على الرغم من أن هذا لا يزال يمثل تحديًا بحثيًّا مثيرًا للتفكير.
ولا يزال أصل طريقة التخديد وتوسعها واختفاؤها في شبه الجزيرة العربية بحاجة إلى التوثيق بالتفصيل عبر مزيد من العمل الميداني الأثري.
وتقول الورقة العلمية إنه بالنظر إلى ما نعرفه في الوقت الحالي، فإن الأشكال المخددة مقيدة جغرافيًّا في الأجزاء الجنوبية الوسطى والجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، ولم تنتشر قَط من هناك إلى باقي أجزاء الجزيرة العربية، مما يوفر تباينًا كبيرًا مع الأمريكتين، حيث كانت تلك التقنية منتشرة جغرافيًّا، وحدثت على مدى زمني أطول.
كما تشدد نتائج الدراسة على أن طريقة التخديد كانت عالية الدقة ومتطورة، جرى استخدامها في منطقة محدودة من جنوب الجزيرة العربية، بشكل لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم الحجري الحديث.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: بقايا حفرية لصيادة ماهرة تثبت خطأ فرضية «الرجل الصياد»