الإنسان البدائي ترك بصمة جينية مميزة في حمضنا النووي.. وجيناته شهدت اختلافًا في التوزيع وفق النطاق الجغرافي
كشفت دراسة علمية نُشرت في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن Nature Ecology & Evolution” أن تزاوجًا حدث بين إنسان النياندرتال وسَلَف الإنسان الحديث، خلال فترات زمنية متعددة في التاريخ.
وأشارت الدراسة -التي اعتمدت على فحص واسع النطاق لشظايا من الحمض النووي لإنسان النياندرتال- إلى أن التزاوج حدث مع إنسان حديث عاش في شرق آسيا وأوروبا.
حين خرج الإنسان الحديث من أفريقيا، تقابل مع إنسان النياندرتال في غرب أوراسيا –وهي كتلة أرضية امتدت بين ما يُعرف الآن بإسبانيا في الغرب وحتى روسيا في الشرق- نجم عن ذلك اللقاء تزاوُجٌ ترك بصمة جينية من إنسان النياندرتال في الحمض النووي للإنسان الحديث.
كان العلماء يعتقدون في السابق أن عمليات التزاوج بين إنسان النياندرتال والإنسان الحديث حدثت خلال فترة واحدة فقط من الزمان، إلا أن الدراسة الجديدة وجدت أن ذلك التزاوج حدث على فترات زمنية متعددة ومتباعدة، وترك بصمات جينية مميزة في الإنسان الحديث، تختلف وفق النطاق الجغرافي التي حدثت فيه عملية التزاوج.
ترك إنسان النياندرتال بصمة جينية في معظم البشر الحاليين، إذ إن معظم أسلافنا –باستثناء الأفارقة في جنوب الصحراء الكبرى- تزاوجوا مع النياندرتال في فترة من الفترات، وتبلغ نسبة الحمض النووي العائد من أصلنا البدائي حوالي 2%، ولطالما اعتقد العلماء أن ذلك التزاوج حدث في منطقةٍ ما من الشرق الأوسط.
إلا أن مقارنة الحمض النووي للبشر المعاصرين القاطنين بمنطقة شرق آسيا أظهرت زيادةً ملحوظةً في الحمض النووي العائد لإنسان النياندرتال، ما يعني أن توزيع جينومات النياندرتال شهد اختلافًا كبيرًا وفق النطاق الجغرافي للتزاوج الذي حدث قبل آلاف السنين.
ويقول الباحث في معهد الجينوم والطب التطوري بجامعة تيمبل الأمريكية “فرناندو فيلاني”، وهو المؤلف الأول للدراسة: “إن زيادة نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال في سُكان شرق آسيا تعني أن الاختلاط الثانوي في تلك المنطقة “كان أكثر اتساعًا مما كنا نظن سابقًا”.
وحسبما يقول “فرناندو” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”، فإن التزاوج حدث على فترات طويلة ومتباعدة في الزمن، وداخل النطاق الجغرافي لآسيا، وهي النتيجة التي تُعارض بعض الدراسات السابقة التي تقول إن عملية التزاوج بين إنسان النياندرتال وسلف الإنسان الحديث حدث خلال مدة قصيرة وفي منطقة جغرافية واحدة فقط.
قام الباحثون ببناء نموذج رياضي حاسوبي لشرح كيفية وجود حمض نووي يرجع لإنسان النياندرتال في جينوم البشر المعاصرين، وفحص العلماء نحو 1000 عينة من الأحماض النووية لكلٍّ من النياندرتال والإنسان الحديث، وعبر استخدام تقنيات الذكاء الصناعي والتعلُّم الآلي، استنتج الباحثون وجود عدة حلقات من التزاوج بين الإنسان البدائي وسكان شرق أوروبا وآسيا.
وعمل الباحثون على مقارنة ذلك الاستنتاج بنمط الحمض النووي لعينات مختلفة من الأحماض النووية لمجموعة مُختارة من السكان موزَّعة على طول كوكب الأرض وعرضه، ليجدوا أن ذلك التنبؤ صحيح تمامًا، وأن التزاوج حدث بالفعل في فترات زمنية مختلفة.
يحاول العلماء منذ عقود فهم طبيعة التفاعل بين جنسنا وإنسان النياندرتال، ويقول “فرناندو” إن كلا النوعين كان على اتصالٍ ما منذ ما يقرب من 10 آلاف سنة، على عكس الاعتقاد السائد الذي يقول إن التزاوج حدث في وقت أبكر بكثير –من نحو 40 ألف سنة- مشيرًا إلى أن الدراسة تؤكد “وجود اختلاط بين إنسان النياندرتال والإنسان الحديث في وقت أحدث”، مشيرًا إلى أنه لا يزال مجهولًا إلى الآن السبب الذي أدى إلى انخفاض أعداد النياندرتال وأدى إلى انقراضه في نهاية الأمر، “ربما يكون الأمر بسبب عدم رغبة الإنسان الحديث في التزاوج مرةً أخرى مع إنسان النياندرتال بعد انتعاش أعداده.. وربما كان بسبب عدم قدرة النياندرتال على التأقلم مع الظروف البيئية المختلفة”.
ويقول الباحث في معهد الجينوم والطب التطوري بجامعة تيمبل الأمريكية “جوشوا شرايبر”، وهو المؤلف المشارك بتلك الدراسة: إن تلك الورقة تؤكد “أن التاريخ البشري عبارة عن شبكة معقدة من الأحداث”، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن الاستنتاجات الجديدة تؤكد أن التزاوج بين البشر الحاليين والنياندرتال “أمر أكثر تعقيدًا بكثير مما كنا نعتقد في البداية”.
عمل الباحثون على تلك الورقة مدةَ عامين تقريبًا، وستشمل الخطوة التالية –وفق جوشوا- محاولات لفهم ما إذا كان إنسان النياندرتال قد تزاوج مع أنواع أخرى أكثر قدمًا كالهومو إريكتوس، قائلًا: “سنعمل على إعادة النظر في جينومات النياندرتال، وسنقارنها بجينومات إنسان دينيسوفان والهومو إريكتوس لتقييم أوجه التشابه إن وجدت”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.