أحفورة لطائر يُشبه الغراب عثر عليها باحثون في مدغشقر تؤكد أن الطيور طورت مناقير عجيبة الشكل لا نعرف عنها الكثير
في المحيط الهندي، تقع جزيرة معزولة يُعرف عنها كونها “أنبوب اختبار للتطور في العزلة”، ويتم تصنيفها على أنها “طريق تطوري مسدود”. لكن، علينا أن نتذكر دائمًا أن أنابيب الاختبار والأكياس المسدودة لها فتحة في أحد طرفيها. مكَّنت تلك الفتحة كائنات حية من الدخول، والتطور في بيئة ملائمة، بيئة جادت بالكثير والكثير من الأحافير التي كشفت لنا عن ماضي الزمان، بيئة غنية الآن بالتنوع الحيوي، كما كانت في غابر الزمان غنيةً بالكائنات التي لا تزال تُدهش علماء الأرض.. بيئة جزيرة مدغشقر.
هناك، في تلك الجزيرة، اكتشف العلماء أحفورةً لطائر جديد عاش في العصر الطباشيري. تقدم تلك الأحفورة رؤى جديدةً ومهمةً حول تطور الوجه وشكل المنقار في أسلاف الطيور الحديثة.
الطائر الجديد، الذي أطلق عليه العلماء اسم “فلكاتاكلي Falcatakely” -وهو مزيج من الكلمة اللاتينية والملغاشية (اللغة الوطنية الرسمية في مدغشقر)، التي تعني الحجم الصغير وشكل المنقار الشبيه بالمنجل- هو طائر جديد كُليًّا على مستوى طيور العصر الطباشيري الوسيط؛ إذ إن وجهه وشكل منقاره يختلفان بصورة جوهرية عن مقابلهما لدى طيور ذلك العصر.
كان ذلك الطائر الذي يقارب حجمه حجم الغراب، يشق طريقه عبر الهواء مستخدمًا منقارًا كبيرًا يشبه الشفرة. منقارًا يقدم رؤى جديدةً مهمةً حول تطور الوجه وشكل المنقار في أسلاف الدهر الوسيط للطيور الحديثة. وفق ما أعلن فريق دولي في بحث منشور في دورية “نيتشر”.
أدت الطيور دورًا محوريًّا في تشكيل فهمنا للتطور البيولوجي. منذ فترة طويلة في منتصف القرن التاسع عشر، أثر تنوُّع شكل المنقار في طيور جزر “جالاباجوس” على ملحوظات تشارلز داروين. كانت تلك الملحوظات أساسًا في أطروحته حول التطور من خلال الانتقاء الطبيعي.
يضيف اكتشاف أحافير الطيور تطورًا جديدًا في فهم شكل وطبيعة الجماجم والمناقير لدى الطيور القديمة، وهو الأمر الذي ينعكس على فهم أصول الطيور الحديثة، كما يعطي معلومات تفيد بأن التطور يمكن أن يعمل من خلال مسارات تنموية مختلفة لتحقيق أشكال رأس متشابهة في حيوانات ذات صلة بعيدة جدًّا.
في تلك الدراسة، عثر الباحثون على جمجمة واحدة شبه محفوظة بالكامل في حطام موحل عمره 68 مليون سنة. ولأن الهياكل العظمية للطيور وجماجمها شديدة الندرة بسبب عظامها الهشة وصغر حجمها، فإن ذلك الاكتشاف يُعَدُّ ذا أهمية كبرى؛ إذ إن “فلكاتاكلي” هو الطائر الثاني من مجموعة طيور العصر الطباشيري الذي تم اكتشافه في مدغشقر على مدار تاريخها.
عثر العلماء على العينة الدقيقة مغروسة جزئيًّا في الصخور. وهي عبارة عن مجموعة معقدة من العظام خفيفة الوزن شكلت في الماضي جمجمة ذلك الطائر. وعلى الرغم من صغر حجمها، إذ يقدر طول الجمجمة بحوالي 8.5 سم فقط، إلا أن الحفظ الرائع يكشف عن العديد من التفاصيل المهمة. كمثال على ذلك، تشير سلسلة معقدة من الأخاديد على العظام التي تشكل جانب الوجه إلى أن الحيوان كان له غطاء كيراتيني واسع النطاق (منقار) في أثناء الحياة.
يقول أستاذ علم التشريح وعلم الأعصاب في جامعة أوهايو، “باتريك أوكونور”، وهو المؤلف الرئيسي للدراسة: “عندما بدأ الوجه في الظهور من الصخرة، عرفنا أنه شيء خاص جدًّا، إن لم يكن فريدًا تمامًا”. فطيور العصر الطباشيري الوسيط ذات الوجوه العالية والطويلة غير معروفة مطلقًا، وتوفر أحافيرها فرصةً عظيمةً لإعادة النظر في الأفكار حول تطور الطيور.
ينتمي “فلكاتاكلي” إلى مجموعة منقرضة من الطيور تُسمى بالطيور النقيضة Enantiornithes. كان لمعظمها أسنانٌ ومخالبُ على كل جناح، لكن بخلاف ذلك، بدت مثل الطيور الحديثة. عثر العلماء على نحو 80 نوعًا منها، معظمها عاش فيما يُعرف الآن بقارة آسيا. وانقرضت تلك الطيور في الحقبة الواقعة بين العصر الطباشيري والعصر الباليوجيني (منذ حوالي 66 مليون سنة).
غير أن “فلكاتاكلي” يختلف عن تلك المجموعة بشكل جوهري؛ فمنقاره كان حادًّا مثل الشفرة، كما أن جمجمته يختلف شكلها عن شكل جماجم بني جنسه.
ولأن عظام “فلكاتاكلي” المتحجرة في الصخور كانت هشةً للغاية، لم يتمكن الفريق من إزالتها من الصخر لدراستها. لذا، استخدم العلماء في تلك الدراسة التصوير المقطعي عالي الدقة، والنمذجة الرقمية الشاملة لتشريح العظام الفردية. بعد ذلك قاموا بعمل نموذج مكبر من الطائر باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لإعادة بناء الجمجمة ومقارنتها بالأنواع الأخرى.
ومع تقدم البحث أصبح من الواضح أن العظام المكونة للوجه في “فلكاتاكلي” كانت منظمةً ومرتبةً بشكل مغاير لتلك الموجودة في أي ديناصور، طائرًا أو غير طائر، على الرغم من وجود أوجه تشابه -بشكل ظاهري- مع عدد من مجموعات الطيور الحديثة التي تعيش اليوم في عالمنا، والتي تُعد أحفاد الديناصورات.
تقوم جميع الطيور التي تعيش في عالمنا المعاصر ببناء الهيكل العظمي لمناقيرها بطريقة محددة للغاية. تتكون في الغالب من عظمة واحدة متضخمة تسمى بريماكسيلا، وهي عظمة تقع على جانبي خط المنتصف بين الأنف والفم، وتشكل الجزء الأمامي من كل نصف من عظم الفك العلوي.
على النقيض من ذلك، فإن معظم الطيور من عصر الديناصورات، مثل الأركيوبتركس، لديها منقار غير متخصص نسبيًّا، يتكون من بريماكسيلا صغيرة وفك علوي كبير. والمثير للدهشة أن الباحثين وجدوا هذا الترتيب البدائي المماثل للعظام في “فلكاتاكلي”، ولكن مع شكل وجه عام يذكِّرنا ببعض الطيور الحديثة. وهو أمرٌ لا يشبه أي شيء معروف عن طيور حقبة العصر الطباشيري.
يقول “أوكونور”: إن الهيكل العظمي الأساسي للوجه “يقلب ما نعرفه عن التشريح التطوري للطيور رأسًا على عقب”؛ فمن الواضح أن هناك طرقًا تنمويةً مختلفةً لتنظيم الهيكل العظمي للوجه، تؤدي إلى شكل نهائي متشابه مع ما نعرفه اليوم من شكل منقار الطيور.
فعلى الرغم من أن طيور العصر الطباشيري الوسيط تُظهر تنوعًا كبيرًا في الحجم وتكيفات الطيران وتنظيم الريش، إلا أنها تُظهر أنماطًا محفوظة ومعروفة نسبيًّا لشكل المنقار وتطوره. فالمناقير ظهرت أساسًا كوسيلة تكيفية مرتبطة بسلوكيات التغذية التي عادةً ما تتأثر بالعوامل البيئية المختلفة.
لكن ذلك الطير الجديد يمثل شذوذًا فيما يعرفه العلماء عن شكل المنقار في ذلك العصر؛ إذ كشفت التحليلات المختلفة أن منقار “فلكاتاكلي” أقرب إلى مناقير الطيور الحديثة من مناقير الطيور التي عاشت معه في العصر نفسه.
فسُمك الفك العلوي يبلغ أقل من 1 مم، وهو سُمك لم يُرصد من قبل في طيور الحقبة نفسها، كما يفتقر “فلكاتاكلي” إلى حفرة الفك السفلي، وهي انخفاض في العظم السفلي يتمفصل مع لقمة الفك السفلي، كما أن الجزء الأوسط من أنفه عريضٌ ومدبب، ما يشير إلى وجود منقار متخصص أطول بكثير ويختلف في هيئته التشريحية مع المناقير البدائية لطيور الحقبة نفسها.
قارن الباحثون شكل وجه “فلكاتاكلي” ومنقاره مع 349 من الطيور التي تعيش حاليًّا في عالمنا المعاصر، ليجدوا أن نمو منقاره يُشبه إلى حدٍّ ما نمو مناقير الطيور الحديثة، “ما يجعلنا نضع ذلك الطائر في موقع مميز من سلسلة تطور الطيور”، وفق قول “أوكونور” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”.
يقول “أوكونور”: إنه على الرغم من ارتباط الطائر البعيد جدًّا بالطيور الحديثة -زمنيًّا على الأقل- وبكونه يتمتع بهيكل للوجه يشبه إلى حدٍّ كبير الديناصورات غير الطائرة مثل فيلوسيرابتور، فإن الشكل العام للمنقار يشبه بشكل مدهش عددًا من الطيور، “على سبيل المثال طيور الطوقان وأبو قير”، وهي طيور لم تشاهَد على الكوكب حتى وقت متأخر من الزمن.
الجزء الأكثر إثارةً للاهتمام في الاكتشاف الجديد يتعلق بالشكل العام للجزء العلوي من الوجه. “فالطائر يشبه عددًا من الطيور الحديثة ذات الجلد والمنقار، وكذلك الهيكل العظمي الأساسي للوجه يختلف تمامًا عن طيور عصره”، يقول “أوكونور”.
يخبرنا هذا الاكتشاف أن طيور العصر الطباشيري الوسيط شهدت تنوعًا أكثر مما كان يُعتقد سابقًا. يقول “أوكونور”: “إن هناك العديد من الأسئلة حول تطور الطيور الحديثة وتنوعها، تتطلب الإجابة عنها الكثير من العمل والاستكشاف المستمر في صخور العصر الطباشيري، ولا سيما في مصر والقارة القطبية الجنوبية”.
يعمل الفريق العلمي الذي اكتشف تلك الأحفورة في مدغشقر منذ أوائل التسعينيات، لكنه بدأ العمل على تلك الدراسة في عام 2017، أما الأحفورة فقد عُثِرَ عليها في الأصل خلال مسح ميداني في عام 2010، ولحسن الحظ لم يكتشَف سوى بضع شظايا صغيرة من العينة الدقيقة في كتلة من الحجر الرملي الموحل.
مع اكتشافٍ مثل هذا، يأمل الباحثون أن يتم تشجيع الآخرين على استكشاف الحفريات من الأماكن والأزمنة الممثلة تمثيلًا ناقصًا، مثل طبقات العصر الطباشيري المتأخرة في معظم قارة إفريقيا؛ فـ”هناك الكثير والكثير من الاكتشافات التي تنتظر مَن يعثر عليها”، وفق قول “أوكونور”.
يقول الباحث في علوم الأرض بجامعة كامبريدج “دانيال فيلد”، والذي لم يشارك في تلك الدراسة: إن الحفرية “تؤثر على فهمنا للتطور، من خلال إظهار أن الطيور الأحفورية المبكرة جدًّا أشهرت مجموعةً متنوعةً من الأشكال أكثر مما اعتقدنا سابقًا”، مؤكدًا -في تصريحات خاصة لـ”للعلم”- أن إعادة تجميع عظام الطيور المتحفرة في الصخور رقميًّا، والتي استخدمها الباحثون في تلك الدراسة، “أمرٌ جعلنا نرى الطائر من كل زواياه الممكنة بشكل أفضل”، ما جعلنا نتخيل أنه ربما “طار حرفيًّا فوق رؤوس الديناصورات العملاقة وأعشاشها، وشاركها بيئتها العنيفة”.
لا تُشبه الكائنات في بعض الأماكن أيّ كائنات أخرى عاشت على سطح الأرض في أيّ زمان، “هذا هو بالضبط ما نراه مع الكائنات الحية في أواخر العصر الطباشيري في مدغشقر”، على حد قول “أوكونور”، الذي يرى أن طبقات أرض تلك الجزيرة لا يزال لديها الكثير والكثير من الحفريات التي ستحكي عن كائنات سادت الأرض والسماء في سالف الأزمان.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: أول وصف تفصيلي لفتحة المَجمَع لدى الديناصورات غير الطيرية