طوّر الباحثون هذه الدراسة على مدار عقدين من الزمان، ويسعون إلى توسيع نطاق تحليلاتهم لقدرات السمع ليشمل أنواعًا بشرية أحفورية إضافية تمكنهم من معرفة أصل الكلام واللغة إلى أبعد من ذلك في السجل الحفري
لقد عُرف الكثير عن سلوك النياندرتال ومهاراتهم المتعددة، إلا أننا لم نعرف الكثير عن قدراتهم السمعية وما إذا كانوا يجيدون شكلًا ما من أشكال اللغة.
لعقود طويلة أثيرت العديد من الأسئلة حول طبيعة عملية التواصل البشري، ومتى ظهر الكلام للمرة الأولى باعتباره شكلًا من أشكال تواصل البشر، وعمّا إذا كان هناك شكلٌ ما من أشكال اللغة المنطوقة لدى أيٍّ من أنواع الجنس البشري الأخرى، وبخاصة لدى إنسان النياندرتال، أقرب الأجناس البشرية إلى الإنسان العاقل.
في هذا السياق، جاءت نتائج دراسة حديثة نُشرت مؤخرًا في دورية نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشن، لتكشف لنا عن تشابه النياندرتال مع الإنسان العاقل في القدرة السمعية والكلامية، تقول مرسيدس كوندي، عالمة الأنثروبولوجي والأحياء القديمة بجامعة ألكالا في إسبانيا، والمؤلفة الرئيسية للدراسة، في حديثها لـ”للعلم”: “أظهرت نتائج الدراسة تشابه القدرة السمعية للنياندرتال مع الإنسان العاقل، بالإضافة إلى تمكنهم من نطق الكلام الشفوي مثلنا”.
محاكاة الأذن
اعتمدت الدراسة التي أجراها فريق دولي متعدد التخصصات من إسبانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، على فحص عينات حفرية للنياندرتال من كرواتيا وإسرائيل (فلسطين المحتلة) وفرنسا، وعينات أخرى لحفريات أسلاف النياندرتال من الموقع الشهير أتابويركا في إسبانيا، ثم قام الباحثون بعمل تصوير مقطعي عالي الدقة لإنشاء نماذج افتراضية ثلاثية الأبعاد لهياكل الأذن في كلٍّ من الإنسان العاقل والنياندرتال وكذلك أسلاف النياندرتال.
أُدخلت البيانات التي تم جمعها من النماذج ثلاثية الأبعاد إلى برنامج جرى تطويره في مجال الهندسة الحيوية السمعية؛ لتقدير قدرات السمع حتى 5 كيلوهرتز، والتي تشمل معظم نطاق تردد أصوات الكلام البشري الحديث، وبالمقارنة مع حفريات أتابويركا، أظهر النياندرتال قدراتٍ سمعيةً مشابهةً لقدرات الإنسان الحديث.
يقول رولف قُوام، أستاذ الأنثروبولوجي المساعد بجامعة بنجامتون بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحد مؤلفي الدراسة، في حديثه لـ”للعلم”: “أظهر بحثنا أن النياندرتال له القدرات السمعية والصوتية نفسها الموجودة لدى الإنسان الحديث، وعلى وجه التحديد، تُظهر الأنماط السمعية في كلٍّ من النياندرتال والإنسان المعاصر حساسيةً عالية للترددات بين حوالي 3-5 كيلوهرتز، مقارنةً بالشمبانزي”.
ويضيف “قُوام”: “قدرة النياندرتال على سماع هذه الترددات من النتائج الأكثر إثارةً للدراسة؛ إذ يرتبط ذلك النطاق الترددي حصريًّا بالحروف الساكنة في اللغة البشرية”، متابعًا كلامه: “يفصل استخدام الحروف الساكنة بين اللغة البشرية وأنماط الاتصال الأخرى في جميع الرئيسيات تقريبًا، ونعتقد أن آذاننا مضبوطة لسماع هذه الترددات جيدًا بشكل خاص”.
تقول وسام الشواف، مدرس السمعيات بكلية الطب بجامعة المنصورة وغير مشاركة في البحث، في حديثها لـ”للعلم”: “إن أهم نطاق تردد للكلام البشري ما بين 0.5 و5 كيلوهرتز، ومعنى أن النياندرتال لديه حساسية عالية للنطاق الترددي من 3 إلى 5 كيلوهرتز، فهو قادر على نطق الأحرف الساكنة التي تخص هذا المدى، وهي (k, f, s, th) ، وفقًا لمخطط السمع (The speech banana chart)”، ويغطي هذا المخطط السمعي مستوى الترددات أو درجة الصوت اللازمة لفهم الكلام، وسُمي كذلك لأنه يأخذ كل الموزة على الرسم البياني الخاص بحساسية السمع.
محادثات النياندرتال والإنسان العاقل
عاصر الإنسان العاقل النياندرتال وشاركه الزمان والمكان، كما شاركه جيناته، ومن المنطقي أن تواصلًا ما كان قد حدث بينهما في الماضي، يقول قُوام: “إذا التقى فرد من النياندرتال مع الإنسان العاقل، فمن المحتمل أن يتواصلا بطريقة ما، ولكنهما على الأرجح لن يتحدثا اللغة ذاتها” .
يوافقه الرأي أنطوني بالزيو، عالِم الباليوأنثروبولوجي بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في فرنسا، غير مشارك في البحث، ويقول في حديثه لـ”للعلم”: “من المعلوم أننا نتشارك جينيًّا مع النياندرتال، لذا يمكننا القول بأنه تم التواصل بيننا بصورة أو بأخرى”.
ويضيف: “إن نتائج الدراسة مذهلة، فقدرة النياندرتال على سماع النوع نفسه من الترددات الخاصة بنا تعني أنهم كانوا قادرين على إنتاج وسماع الأصوات نفسها منا”، متابعًا كلامه بأن “الدراسة لم توضح كيف تمكن النياندرتال من تجميع الأصوات معًا، وهل كانوا يستخدمون الطريقة ذاتها التي نستخدمها للتحدث، أو كانوا قادرين على إصدار أصوات وكلمات وجمل مثل أصواتنا، لكنهم بالتأكيد لم يكونوا يتحدثون مثلنا ولم تكن لديهم اللغة ذاتها، لذا لا ينبغي مقارنتها بلغتنا؛ فمن المستحيل علميًّا عمل هذه المقارنة”.
وفي هذا الصدد، تقول “مرسيدس”: “اكتسب النياندرتال والإنسان العاقل هذه القدرات بشكل مستقل تمامًا في عمليات تطورية موازية، فما نعرفه على وجه اليقين الآن هو أن النياندرتال يمكنه استخدام الأصوات ذاتها للتواصل مثل الإنسان العاقل، وعلى الرغم من ذلك فلم يتمكنوا من فهم ما يقوله الآخر”.
يقول إيان تاترسال، عالم الباليوأنثروبولوجي بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك، غير مشارك في الدراسة، في تصريحاته لـ”للعلم”: “لا شك أن نتائج الدراسة مثيرة للاهتمام، لكنها ليست كافيةً للجزم بأن للنياندرتال القدرة على إنتاج الكلام؛ إذ إن إمكانية سماع الأصوات لا تعني حتمية القدرة على الحديث، فعلى الرغم من أن المؤلفين يجادلون بوجود صلة، إلا أنها ليست حاسمة بأن النياندرتال قد تحدّث بالشكل الذي نعرفه”.
النياندرتال يضاهينا ذكاءً
لطالما اعتقدنا لعقود أننا أكثر ذكاءً من النياندرتال، وربما زادنا غرورنا البشري يقينًا بأن التفسير الأكثر منطقيةً وراء انقراضهم هو ذكاؤنا اللامحدود وتفوقنا العقلي عليهم، لكن مع الاكتشافات الحديثة لم تعد هذه النظرية هي الأكثر مناسَبةً وراء اختفائهم، بل توزيعهم الجغرافي هو السبب الأكثر حتميةً وفق ما نشر من دراسات مؤخرًا، وهنا فإن للحديث عن ذكائهم منحى آخر؛ فقد تغيرت الصورة النمطية للنياندرتال كمجموعة من أنصاف القردة المتوحشين محدودي الذكاء، تقول “مرسيدس”: “لقد أظهرت لنا الدراسة جانبًا جديدًا من حياة النياندرتال، ومع دمج نتائج دراستنا مع الاكتشافات العديدة التي جرت في العشرين عامًا الماضية، مثل رعاية مرضاهم ودفنهم موتاهم، وتزيين أنفسهم وممارسة الفن الجداري، يساعد في رسم صورة عن جوانب إنسانية للغاية في سلوكهم”.
من جانبه، يرى “بالزيو” أن “مقارنة فرد من النياندرتال بحقيقة أنني أستخدم الكمبيوتر والإنترنت على سبيل المثال لا معنى له”، موضحًا: “أنا غير قادر على بناء جهاز كمبيوتر أو اختراع الإنترنت بشكل فردي، هذه الأشياء هي نتاج ابتكارنا الرئيسي: التسجيل وتبادل المعلومات”.
ويتابع: “كان النياندرتال ذكيًّا للغاية، وكنا نتشارك معه المستوى نفسه من القدرات المعرفية منذ أكثر من 50000 سنة؛ فالآثار التي تركوها تنم عن قدرتهم على فعل أشياء معقدة فكريًّا، لذا فأنا متأكد من أن النياندرتال كانوا مثلنا”.
ويرى الباحثون في بيانهم الصحفي أن التغير في القدرات السمعية لدى النياندرتال، مقارنةً بأسلافهم من أتابويركا، يوازي الأدلة الأثرية للأنماط السلوكية المعقدة، بما في ذلك التطوير في شكل الأدوات الحجرية، وتدجين النار والممارسات الرمزية المحتملة، وعلى هذا المنوال، تقدم الدراسة أدلةً قويةً لصالح التطور المشترك للسلوكيات المعقدة لدى النياندرتال وزيادة الكفاءة في الاتصال الصوتي طوال مسار التطور البشري.
طوّر الباحثون هذه الدراسة على مدار عقدين من الزمان، ويرون أن هذه النتائج مرضية حتى الآن، على الرغم من توجههم المستقبلي لتوسيع نطاق تحليلاتهم لقدرات السمع ليشمل أنواعًا بشريةً أحفوريةً إضافيةً تمكِّنهم من معرفة أصل الكلام واللغة إلى أبعد من ذلك في السجل الحفري.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: دراسة موسَّعة عن الدماغ تكشف شبكات جينية “مدفونة” ترتبط بالمرض النفسي