تحليل جينومي ضخم يطرح أفكارًا كاشفة ومحيِّرة بشأن الآليات الكامنة وراء حالات مرضية مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب
نعرف منذ زمن طويل أن بعض الحالات الدماغية -مثل الفصام واضطراب طيف التوحّد- لها مكوِّن موروث، لكن تحديد كيفية مساهمة المتغيّرات الجينية في حدوث المرض مَثّل تحديًا جسيمًا، والآن تُلقي بعض النتائج الأوَّلية لأشمل تحليل جينومي أُجري على الدماغ البشري الضوءَ على جذور هذه الاضطرابات.
من بين اكتشافات هذا التحليل، عناصر مدفونة في “المادة المظلمة” للجينوم، يبدو أنها تُنظِّم التعبير الجيني. وقد كشف الباحثون قبلًا شبكاتٍ من الجينات والعناصر المدفونة التي لم تكن معروفة مسبقًا، وربما تسهم في فُرص تطور تلك الاضطرابات.
يقول مارك جيرشتاين، عالم الفيزياء الحيوية الجزيئية في جامعة ييل، بمدينة نيو هيفن، ولاية كونيتيكت: “إننا لا نزعم بأي شكل من الأشكال اكتشاف الآلية الكامنة وراء هذه الأمراض، أو كيفية ابتكار عقاقير معالجة، لكننا نُحدِّد الجينات والمسارات إلى جانب أنواع الخلايا المرتبطة بها”، وقد شارك مارك في عدد من دراسات المشروع التي نُشرت مجموعة منها في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر بدورية Science.
وعلى عكس الاضطرابات الناجمة عن طفرات في جين واحد -مثل التليف الكيسي أو بعض أنواع ضمور العضلات- تشمل الاضطرابات العصبية النفسية، بما فيما الفصام، مئات من الجينات التي تتفاعل مع عوامل بيئية، ويسهم كلُّ جين بقدر ضئيل فحسب في الاحتمال الكلي لحدوث المرض.
لقد حدَّد العلماء، على مدار العقد الماضي، متغيِّرات جينية متعددة ترتبط بتلك الاضطرابات، لكن في حالات كثيرة لا يتَّضح كيف تُغيِّر تغيرات التسلسل وظائف الجينات، إذا كان ذلك يحدث من الأساس. “عادة، عندما نجري دراسة جينية، قد نجد 50 متغيرًا جينيًا مرتبطًا، تتجمع كلها في منطقة واحدة من الجينوم، وقد يكون واحدٌ منها فقط هو الذي يؤثر مباشرة على احتمال حدوث المرض”، حسب مايكل أودونوفان، عالم الجينات النفسية في جامعة كارديف بالمملكة المتحدة.
ومما يزيد الأمر تعقيدًا، أن بعض هذه المتغيرات تقع في مناطق الحمض النووي التي لا تحدد التسلسل الجيني للبروتينات، وهي مناطق افترض العلماء، حتى السنوات القليلة الماضية، أنها تُمثِّل أراضي بُورًا، لكن اتضح أنه مدفون بداخلها شفرات لعناصر تُنظّم التعبير الجيني، مثل عوامل النسخ والرنا الميكروية، التي يمكن أيضًا أن تؤثر بقوة على احتمال إصابة الشخص بالمرض.
وراء الجينات
يهدف اتحاد “سايك إنكود كونسورتيوم” PsychENCODE Consortium، الذي أسسته معاهد الصحة الوطنية الأمريكية عام 2015، إلى ربط هذه الارتباطات الجينية بالتغيرات الفعلية التي تحدث في وظائف الجينات، بأخذ عينات من أنسجة الدماغ من آلاف الجثث، ودراستها باستخدام تقنيات تسلسل جينومي متعددة. يُعلِّق جيرشتاين على ذلك قائلًا: “نعرف أن الأمراض ]العصبية النفسية الشائعة[ قابلة بشدة للانتقال بالوراثة، لكننا لم نتوصَّل بعد إلى تصور جيِّد عن آلية هذا الانتقال، هدفنا هو استخدام علم الجينوم الوظيفي لمحاولة التعرف على ما يحدث”.
جمعتْ إحدى هذه الدراسات أنواعًا متعددة من بيانات التسلسل من أنسجة دماغية مُستخلَصة من 1866 جثة، وأيضًا من أنواع منفردة من الخلايا الدماغية، وكشفت الدراسات السابقة وجود تباين واسع النطاق في التعبير الجيني بين الأدمغة، ولكن عند مقارنة بيانات التسلسل الخاصة بأنواع محددة من الخلايا ببيانات التسلسل الخاصة بأدمغة كاملة، اتضح للفريق أن نحو 90% من هذا التباين يرتبط بالحصة النسبية لأنواع الخلايا المختلفة في أدمغة الأفراد، وهو أمر يختلف -على ما يبدو- حسب العمر، وفي حالات الإصابة بأمراض مثل التوحد. “كان بإمكاننا كذلك معرفة المتغيرات الجينية الأساسية التي ترتبط بالزيادات في هذه الأنواع من الخلايا”، وفقًا لجيرشتاين.
استخدم الباحثون هذه البيانات أيضًا لرسم علاقات بين جينات محدّدة ومتغيرات حمض نووي غير المُشفّرة، كانت ترتبط من قبل بالمرض العصبي النفسي، ما يُقْصِر البحث على تلك المتغيرات التي تؤثر فعليًا على طريقة عمل الجينات والتي يبدو أنها تُسهم بشكل مباشر في حالات مثل الفصام. ويضيف جيرشتاين: “بعض هذه الجينات وأنواع الخلايا معروف جيدًا، لكن أيضًا هناك أنواع جديدة نكتشفها ويمكن تتبعها”.
الدماغ المتنامي
بحث جيرشتاين وزملاؤه كذلك كيف أنَّ كلًا من التعبير الجيني، والتعديلات الكيميائية أو “اللاجينية” التي تحدث للجينات وتستطيع تغيير تعبيرها، والعناصر المنظمة في شتّى مناطق الدماغ تختلف خلال نمو الدماغ؛ باستخدام عيّنات من أنسجة وخلايا فردية مأخوذة من 60 دماغًا.
ووجدوا أن أكبر اختلاف في التعبير الجيني يحدث في أثناء نمو الجنين والمراهقة، وهما -كما يعرف عنهما- فترتان حاسمتان في نمو الدماغ.
في أثناء هاتين الفترتين، يبدو أن الجينات التي كانت ترتبط في السابق باحتمال الإصابة بأمراض عصبية نفسية، تُشكِّل شبكات في مناطق محددة من الدماغ. وقد يطرح هذا الاكتشاف أفكارًا جديدة بشأن وقت
دراسة هذه الآليات المرضية، ومكانها، ونمذجتها، حسب نيناد سيستان، عالم الأعصاب في جامعة ييل، الذي قاد مختبره هذه الدراسة.
وفي ورقة بحثية منفصلة، ركَّز أعضاء آخرون في اتّحاد “سايك إنكود كونسورتيوم” على الدور المحتمل الذي قد يضطلع به اكتساب كميات كبيرة من تسلسلات الحمض النووي المعروفة بالاختلافات في عدد النسخ أو فقدانها في المرض العصبي النفسي. وأشارت الدراسات السابقة إلى أن الاختلافات النادرة في عدد النسخ يمكن أن تُؤثر بقوّة على احتمال الإصابة بالفصام، رغم أن آلية حدوث ذلك غير واضحة.
يقول تشونيو ليو، المتخصّص في الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة أبستيت الطبية التابعة لجامعة ولاية نيويورك في مدينة سيراكيوز، والذي قاد هذه الدراسة: ” في الماضي، طالما ركَّزنا على الاختلافات في عدد النسخ التي تؤثر على جينات تشفير البروتين، لكننا لم نركّز على فهم الاختلافات في عدد النسخ داخل مناطق تحتوي على أنواع من الحمض النووي الريبي (رنا) الطويل غير المشفر”.
ورغم أن هذه الجزيئات لا تعكس أي إمكانية لتشفير البروتين، فإن بعضها لا يزال قادرًا على تنظيم التعبير الجيني، وقد يُسهم في زيادة احتمال الإصابة بمرض الفصام.
حلَّل ليو وزملاؤه أنسجة الدماغ من 259 جثة، وركَّزوا على أنواع الرنا الطويلة غير المشفرة في عشر مناطق حذفت فيها اختلافات في عدد النسخ، كانت ترتبط قبل ذلك بزيادة احتمال الإصابة بالفصام، وذلك سعيًّا للتأكد مما إذا كان التعبير الخاص بأي منها مرتبطًا بتعبير الجينات المشفرة للبروتين، ما قد يشير إلى وجود علاقة.
قادهم هذا البحث إلى أنواع عديدة من الرنا غير المشفرة التي يشكّون في أنها قد تساعد على تنظيم التعبير الجيني، أحد هذه الأنواع يُسمَّى DGCR5؛ وكشف المزيد من التجارب في الخلايا السلفية العصبية أنه يضطلع بدور المركز للعديد من الجينات المرتبطة بمرض الفصام، ما قد يفسِّر ارتباط غيابه بزيادة احتمال الإصابة بالمرض.
وفي دراسة مرتبطة بالموضوع ذاته، حلَّل ليو وزملاؤه أنسجة الدماغ الخاصة بأفراد يعانون من الفصام أو اضطراب ثنائي القطب، ومن حالات ضابطة غير مصابة، باحثين عن رنا ميكروية ترتبط تعبيراتها بتعبيرات الجينات المشفرة للبروتين، فقادهم ذلك إلى التوصل إلى شبكة من الرنا الميكروية وعوامل النسخ والجينات، التي تعمل جميعًا فيما يبدو للتأثير على احتمال الإصابة بالفصام. وبالتركيز على هذه الشبكات، بدلًا من التركيز فحسب على تأثير جينات فردية، يأمل ليو في تعميق فهم الأسباب الجذرية للأمراض المعقدة مثل الفصام. ورغم ذلك، يؤكد ليو أن هذا البحث مجرد بداية لرحلة طويلة تهدف إلى فهم كيف يؤثر الاختلاف في هذه المناطق على التعبير الجيني، وكيف يسهم التعبير الجيني بدوره في زيادة احتمال الإصابة بالمرض.
يتفق أودونوفان مع هذا الطرح، فيقول: “هذه البحوث المنشورة مهمَّة، لكنها لا تقدم إجابة حاسمة توضّح الطريقة التي تسهم بها التغيرات الجينية في أمراض الدماغ”، مضيفًا: “إنها خطوات أساسية معقولة، لكنها تبقى مجرد خطوات؛ رغم أننا نأمل في أن مزيدًا من البحوث من هذا النوع سيساعدنا على الربط بين علم الوراثة والآلية البيولوجية لهذه الاضطرابات”.
يُعاد نشر هذا المقال بموجب تصريح، وقد نشر أول مرة في 13 من ديسمبر 2018.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.