يعود تاريخها إلى 518 مليون عام، وتحتفظ ببعض أنسجتها الرخوة مثل العضلات والأفواه والعيون. الاكتشاف يلقي الضوء على التنوع الحيوي الذي ساد تلك المنطقة في العصر الكمبري.
في القرن التاسع عشر، تصاعدت حدة الصراع بين عالِم الجيولوجيا الشهير “ريتشارد مكونيل” وعالِم الفلك الكندي البارز “أوتو كلوتز”، بعد أن زعم كلاهما اكتشاف أول أحفورة في منطقة “جبل ستيفن” المتاخمة للموقع الأحفوري الأشهر “بورجيس شيل” الواقع بمقاطعة كولومبيا البريطانية.
ورغم مرور نحو 133 عامًا على اكتشاف تلك المنطقة، لم يُحسم الجدل الدائر إلى الآن حول شخصية المكتشف الأول، الذي مهد للاكتشاف الأعظم خلال القرن العشرين، المتمثل في أحافير بالمئات لكائنات من العصر الكامبري، اكتشفها عالِم الحفريات الأمريكي “تشارلز والكون”.
اكتشف “والكون” تلك الحفريات عام 1909 في أثناء جولة تفقدية اعتيادية غيَّرت حياته، وكتبت اسمه بحروف من نور في تاريخ العلماء والجيولوجيين؛ فقد كشف عن رواسب تحمل حفريات مكشوفة لمجموعة كبيرة من الكائنات الرخوة، احتفظت بجمال استثنائي، وعاشت قبل 508 ملايين سنة، في حِقبة تفتحت فيها الحياة، وانفجرت وتنوعت على سطح “الكوكب الأزرق”.
حين وقع نظر “والكون” على تلك الأحافير، أدرك أنه بصدد كشف كبير، إلا أن المناخ لم يكن في صالحه؛ فالمنطقة كانت على أبواب الشتاء، ما اضطره إلى العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد عام، رجع مع زوجته وأبنائه إلى المكان، وبنى مخيمًا، واستقر طيلة 17 عامًا في الموقع، ليستخرج كنوزًا أحفوريةً لا تُقدر بثمن.
وطيلة قرن من الزمان، استحق “والكون” وموقع “بورجيس شيل” أن يكونا في صدارة اهتمام الباحثين عن دراسة الحياة في العصر الكامبري، إلا أن موقعًا آخر كُشف عنه مؤخرًا قد يزيح “بورجيس شيل” من تلك الصدارة إلى الأبد، بعد أن نجح فريق من العلماء في الكشف عن أحافير مُذهلة، تعود إلى كائنات رخوة، عاشت قبل 518 مليون عام في المكان الذي يُعرف حاليًّا باسم “جمهورية الصين الشعبية”.
ووفق دراسة نشرتها دورية “ساينس”، عثر فريق من جامعتي “نورثويست” و”جوانزو” الصينيتين على كنوز جديدة من الأحافير بمنطقة “جوانجشانج” الصينية، وهي أحافير تعود إلى كائنات بحرية عاشت في العصر الكامبري، ويرجع عمرها إلى 518 مليون عام.
درس الباحثون 4351 أحفورةً تضم 101 من أنواع الحيوانات، من ضمنها قناديل البحر والمفصليات والطحالب وغيرها من حيوانات لم يسبق وصفها. كما أن بعض الأنسجة الرخوة لأجسام تلك الأحفوريات -بما في ذلك العضلات والأعضاء والأعين والأفواه- لا تزال موجودة.
الأسلاف الأوائل
كان الانفجار الكامبري إيذانًا بظهور معظم الأسلاف الأوائل لجميع الحيوانات، ويعتقد العلماء أنه حدث منذ حوالي 560 مليون سنة تقريبًا. وقبل ذلك العصر، كانت مستويات الأكسجين في الهواء الجوي منخفضة، لدرجة لا تتيح العيش إلا للكائنات وحيدة الخلية، التي كانت تمتص ثاني أكسيد الكربون وتُخرج الأكسجين ضمن عملياتها الحيوية.
وحين ارتفعت مستويات الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض، حفز ذلك الارتفاع الكائنات وحيدة الخلية على الانقسام، وكان ذلك في بدايات العصر الكامبري، الذي شهد ظهور الأسلاف الأوائل لجميع الحيوانات؛ ففي ذلك العصر، “انفجرت” الكائنات وحيدة الخلية وتنوعت. وخلاله، ازدهرت الحياة في كل ركن من أركان كوكب الأرض.
كشفت الدراسة الأخيرة عن مجموعة جديدة من الحفريات الغريبة، تكشف عن فجر الحياة الحيوانية الذي انبثق إبان الانفجار الكامبري، وقد تلقي بالضوء على العديد من الألغاز المتعلقة بشجرة عائلة الحيوانات.
وقد بدأ الكثير مما يعرفه العلماء عن العصر الكامبري مع اكتشاف موقع “بورجيس شيل”، الذي لا يحتوي فقط على أعضاء معظم المجموعات الحيوانية الرئيسية التي تُعد سلفًا لحيوانات الحاضر فحسب، بل يحتوي أيضًا على كائنات ذات صفات تشريحية غريبة لا تُشبه أي كائن حي معروف حاليًّا، وهو الأمر الذي دفع في اتجاه إجراء مزيد من الأبحاث حول كيفية ارتباط تلك الكائنات الغريبة بحيوانات الحاضر.
وقد شهدت العقود الماضية قفزة كبيرة في اكشاف مواقع أحفورية جديدة من تلك النوعية التي تم العثور عليها في موقع “بورجيس شيل”. غير أن ما يجعل اكتشاف الحفريات الصينية أمرًا مذهلًا هو تنوع الأحافير ووجود عدد كبير من الأنواع غير المعروفة سلفًا، والتي لم يُكشف عنها قط في المواقع السابقة.
أحافير نادرة
تقول “شروق الأشقر” -الباحثة المتخصصة بمركز الحفريات الفقارية بالمنصورة، وغير المشاركة في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن الموقع الموجود في جنوب الصين يتمتع بتنوع كبير لكائنات محفوظة بشكل استثنائي، بما في ذلك الأنسجة اللينة، التي لا تُرى عادةً في السجل الأحفوري”.
وتضيف “الأشقر” أن “الأجزاء التي تُحفظ في الحفرية تكون غالبًا عظام الحيوانات، إلا أن ذلك الموقع يحتفظ بأحافير للأجزاء اللينة، وهو أمرٌ نادرٌ للغاية في عالم الحفريات؛ إذ تشتمل الأحافير على أجزاء من عيون هذه الكائنات، وجلودها، وأمعائها، وزوائدها، وتفاصيل أدق من الشعرة البشرية”.
فقبل 518 مليون عام، كانت تلك الكائنات تعيش في مياه ضحلة، بعضها كان يسبح بالقرب من القاع، في حين كان بعضها الآخر يعيش في القاع نفسه، ومن جَرَّاء حركة تيارات مائية مُحملة بالروافد، دُفنت تلك الكائنات دفنًا سريعًا حافظ على الأجزاء الرخوة.
وتشير “الأشقر” إلى أن الحفظ الاستثنائي لذلك الموقع وما يجعله مميزًا بحق هو كونه بعيدًا عن مناطق النشاط البركاني، وعن عوامل التعرية، ما أسهَمَ في حفظ الحفريات المدفونة بصورة جيدة للغاية.
لم يعثر العلماء فحسب على كائنات في عمر واحد، بل وجدوا مجموعةً من الأحافير لكائن واحد في أعمار مختلفة. تقول “الأشقر” إن العلماء حصلوا على “يرقات وكائنات صغيرة وكائنات بالغة”، وهو أمر يُعطي معلومات بالغة الأهمية عن مراحل نمو الكائنات المتحجرة.
وتصف “الأشقر” ذلك الاكتشاف بـ”أعظم الاكتشافات خلال قرن من الزمان”؛ إذ يُعطي صورة “بانورامية” عن الحياة في ذلك العصر، كما أن الموقع أقدم بـ10 ملايين سنة كاملة عن أقدم موقع يحوي كائنات من العصر الكامبري.
ومن المفارقات العجيبة، أن ذلك الموقع يبعد مسافة 600 ميل فقط عن موقع آخر في الصين يحوي كائنات من العصر الكامبري، إلا أن التشابه بين الكائنات في الموقع المكتشف حديثًا والموقع القديم لا يزيد عن 8%، “وهذا أمر يلقي بالضوء على التنوع الحيوي الذي ساد تلك المنطقة في العصر الكامبري، كما سيعطينا معلومات بالغة الأهمية عن تأثر تطور تلك الكائنات بالعوامل الجوية والجغرافية المختلفة”، على حد قول “الأشقر”.
حلقات جديدة
وتملأ تلك الأحافير فجوات من المعرفة المفقودة المتعلقة بتطور الكائنات في العصر الكامبري، كما ستضيف حلقات معرفية جديدة حول عدد من المخلوقات التي تعيش اليوم، كقناديل البحر وشقائق النعمان والهلام والإسفنج.
من جهته، يقول “زيانج لنج زانج” -المؤلف الأول للدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن اكتشاف مثل هذه الكائنات في تلك المنطقة كان مفاجئًا للغاية؛ إذ لم يكن متوقعًا وجود تلك الحيوانات اللافقارية التي يبلغ طولها نحو 1 مليمتر في المياه الضحلة على الإطلاق. وبالتالي، فإن وجودها ضمن حفريات ذلك الموقع سيغير من الفهم السائد لعقود طويلة”.
عمل الباحثون على تلك الدراسة طيلة 12 عامًا كاملة، عملوا خلالها على التنقيب في الموقع، وفهرسة الأنواع، وتصويرها، وإجراء مجموعة من التحاليل الكيميائية.
يقول “زانج”: أنجزنا كثيرًا من العمل، وهناك “الكثير من العمل الذى يجب إنجازه خلال السنوات القادمة، إذ إنه من المتوقع أن يجود الموقع بعدد آخر من الكائنات غير المعروفة سلفًا”.
بدوره، يقول “روبرت جاينس” -عالِم الأحياء القديمة في “بومونا كوليدج”، والباحث المشارك في الدراسة- لـ”للعلم”: “إن الاختلافات الموجودة في حفريات الموقع تمثل تسلسلاً تطوريًّا مهمًّا وتغذي فهمنا عن التطور، إذ إن التجمعات الأحفورية الموجودة في ذلك الموقع لا تنتج فقط عن التطور البيولوجي، بل أيضًا عن الاختلافات في الظروف البيئية، كعمق المياه والعناصر الغذائية والطاقة والضوء، وهي أمور تتحكم في كيفية هيكلة النظم الإيكولوجية”.
ويضيف “جاينس” أن “ذلك الاكتشاف يُعَد نافذة جديدة على نوع مختلف من النظم البيئية في العصر الكامبري المبكر، الذي يؤكد أن الموقع المكتشف لا يُقدر بثمن بالنسبة لعلم الأحياء القديمة، إذ يساعد على فك شيفرة التطور التي طالما كانت عصية على الحل”، على حد وصفه.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.