في دراسة لاكتشاف الطرق التي نقلت الحياة من كائنات وحيدة الخلية إلى كائنات متعددة الخلايا؛ وجد الباحثون أنَّ الخلايا المفردة قد تكون طوّرت ميّزات جعلتها تتصرف مع الخلايا الأخرى في سلوك جماعي، وهذا ما مهّد الطريق إلى الحياة متعددة الخلايا. يُمكِن لهذه الاكتشافات أنْ تُسَلِّط الضوء على مدى تعقيد تطوُّر الحياة خارج الأرض. وقد فصَّل العلماء نتائجهم في (Oct. 24 issue of the journal Science\2014).
ظهرت أوّل الكائنات وحيدة الخلية المعروفة على الأرض منذ 3.5 مليار سنة أي تقريبًا بعد مليار سنة من تشكُّل الأرض، بينما أخذت الأشكال الأكثر تعقيدًا وقتًا أطول لتتطوّر، فقد ظهر أوّل كائن حيواني متعدد الخلايا منذ 600 مليون سنة فقط.
يُعتَبَر تطوُّر الكائنات الحيّة البسيطة وحيدة الخلية إلى الكائنات الحيّة متعددة الخلايا نقطة محوريّة في تاريخ الأرض البيولوجي، فقد غيَّر وبشكل كبير وجذري بيئة الأرض فإنَ المُعضِلة الوحيدة فيما يَخُّص الحياة متعددة الخلايا هي سبب استمرارها وعدم عودتها للحياة وحيدة الخلايا.
يقول عالم البيولوجيا التطّورية والرياضية والمؤلف الرئيس للدراسة إريك ليبّي (Eric Libby) من معهد Santa Fe في نيو مكسيكو: ‹‹من الواضح أنَّ الحياة وحيدة الخلايا ناجحة؛ فالكائنات وحيدة الخلية أكثر بكثير من الكائنات متعددة الخلايا وقد كانت موجودة لـ2 مليار سنة إضافية››. ويضيف: ‹‹إذن ما الفائدة من الانتقال لكائنات متعددة الخلايا والاستمرار على هذا النحو؟››.
الإجابة على هذا السؤال هي غالبًا التعاون، فالخلايا تستفيد أكثر عندما تعمل معًا من أنْ تعمل كُلُّ منها على حِدَى. إذْ يذكُر إريك ليبّي إنَّ سيناريو التعاون دائمًا ما يحمل فرص مُتاحة للخلايا للتنصُّل من واجباتها كالغش مثلًا ، ويضيف : ‹‹خذوا مملكة النمل كمثال على ذلك، إذْ تضع الملكة وحدها البيوض بينما تقوم العاملات بإمضاء حياتها في خدمة المملكة، فما الذي يمنع العاملات من ترك المملكة وإنشاء مملكتها الخاصّة؟ بالطبع لأنَّها لا تستطيع أنْ تتكاثر ولكن إنْ حدثت طفرة تُمكِّنُها من ذلك فسيُشكِّل ذلكَ مشكلة حقيقية للمملكة. هذا النوع من المشاكل مُنتشر بشكل كبير في تطوّر الكائنات متعددة الخلايا فهي لم تكن سوى نتيجةٍ لطفرات منعت الخلايا من أن تكون وحيدة تمامًا››.
أظهرت التجارب أنَّ الميكروبات التي تفرز الجزيئات والمواد المفيدة لكامل المجموعة تنمو أسرع من تلك المجموعات التي لا تفعل ذلك، ولكن في نفس المجموعة فالأعضاء المُسْتَغلّون الذين لا ينفقون أي موارد أو طاقة على باقي المجموعة ينمون بشكل أسرع من الجميع وتهدّد هذه المشكلة جميع الكائنات متعددة الخلايا، وكمثال آخر على هذه المشكلة هي الخلايا السرطانية.
في الواقع من المحتمل أنَّ العديد من الكائنات متعددة الخلايا البدائية قد مرّوا بالحالتين وحيدة الخلية ومتعددة الخلايا، مما وفّر فرصًا لإنهاء حياة المجموعات.
على سبيل المثال: بكتيريا الزائفة المتألقة (Pseudomonas fluorescens) تعيش عادةً بشكل مستقل عن بعضها، إلّا أنَّ بعضها تطوّرت نتيجةً لطفرات مُعيّنة لتُشُكِّل مجموعات للحصول على الأُكسجين بشكل أفضل عن طريق إفرازها لمادة من الغراء تجعل باقي أفراد المجموعة من البكتيريا ملتصقة أو متقاربة من بعضها، بعد أن تتشكّل المجموعة تنمو وحيدات الخلية التي لا تنتج الغراء بشكل أسرع (مشكلة الأعضاء المُستغلّة) ولكن عدم إنتاجها للغراء يؤدي في النّهاية إلى دمار المجموعة.
إذن كيف استمرّت الحياة عديدة الخلايا بوجود هذه المشاكل؟
لحل هذا اللغز يقترح العلماء ما يُسَمُّونه آليات الزيادة أو التصعيد التدريجي (Ratcheting Mechanisms)، فالـ (Ratchets)هي عبارة عن أجهزة تسمح بالحركة باتجاه واحد فقط، وبالقياس على ذلك فالآليات التي يقترحها العلماء هنا هي علاقات نفعية متبادلة تزداد تدريجيًا، إذْ تكون مُفيدة للمجموعات وضارّة للخلايا المفردة مانعةً بذلك العودة إلى الحياة وحيدة الخلية.
بشكل عام كلما زادت العلاقات التي تربط المجموعة ببعضها، ابتعدت عن العودة للحياة وحيدة الخلية، على سبيل المثال: تتقاسم مجموعة من الخلايا العمل فيُنتِج بعضها مواد حيوية مُهمّة في حين البعض الآخر يُنتِج مواد أخرى مختلفة ضروريّة أيضًا، وهذا يجعل العمل مع المجموعة أفضل من العمل بشكل مُتفرِّق، وقد دعمت التجارب الحديثة على البكتيريا هذه الفكرة.
بهذه الآلية يُمكِن أيضًا تفسير التعايش (symbiosis) بين الأحياء الدقيقة القديمة والتي قادت المتعايشين (symbionts) للعيش داخل الخلايا، كمثال على ذلك: الخدمات الذي تُقدِّمها المتقدّرات أو الميتوكوندريا والصّانعات الخضراء للخلايا المُضيفة لهما من قدرة على استخدام الأُكسجين وضوء الشّمس، فتقول النظريات أنَّ الميتوكوندريا والصّانعات الخضراء هي من الأحياء الدقيقة القديمة جدًا والتي عاشت مع الكائنات الخلوية البدائية بعلاقة تعايش داخلي (Endosymbiosis) مما أسهم في تطوّر الخلايا حقيقيات النوى إلّا أنَّها لا تُعتَبَر كائنات مُستقلّة الآن.
مثال آخر هو علاقة نوع من البارميسيوم-كائن وحيد الخلية-مع الطحالب؛ فهذا النوع من البارميسيوم قادر على أن يشكل منزلًا آمنًا للطحالب داخل السيتوبلازما خاصّته، وبالمقابل يستفيد من عملية التركيب الضوئي الذي تقوم به الطحالب، وعندما قام العلماء تجريبيًا باستخلاص الطحالب من داخله أصبح ضعيفًا وبالمقابل أيضًا فقدت الطحالب الجينات التي تُمكّنها من الحياة خارج مُضيفها.
قد تقود هذه الآليات أيضًا لنتائج غير منطقيّة ظاهريًا وكمثال على ذلك؛ الموت الخلوي المُبَرمج-انتحار تقوم به الخلية لأسباب مُعيّنة-والذي يبدوا سيئًا للتجمُّعات الخلوية إلّا أنَّ التجارُب أظهرت أنَّ زيادة مُعدّلاته لها فوائد كبيرة، ففي التجمُّعات الكبيرة تُشكِّل الخلايا المُنتَحِرة صِلات وصل ضعيفة مما يسمح لمجموعات صغيرة من الخلايا بأن تنفصل وتبدأ من جديد لِتُشكِّل تجمُّعات أخرى وتجد أماكن وأغذية مُختلفة. يقول ليبّي: ‹‹هذه الفائدة لا تعمل إلّا في التجمُّعات الخلوية، هذا يعني أنَّ أي خلية تترك المجموعة سوف تتضرّر، هذا العمل يُظهِر أنَّ حياة الخلية ضمن مجموعة يُمكِن أن يؤدّي إلى تغيُّرات جذريّة عن حياتها بمُفرَدِها، كزيادة مُعدّلات الموت الخلوي المُبَرمَج مثلًا، فهو كارثي للكائنات وحيدة الخلية بينما هو مُفيد للتجمُّعات››
وفيما يَخُص معنى هذه الموجودات في البحث عن حياة خارج الأرض، يقول ليبّي: ‹‹ يقترح هذا البحث أنَّ سلوك الكائنات غير الأرضية قد يبدو غريبًا حتى يُدرِك الشّخص أنَّها قد تكون جزءًا من مجموعة، فسلوك الكائنات ضمن المجموعات قد يبدو غريب أو غير منطقي بدون اعتبار مُناسِب لِكونَها تعيش في مجموعات››، ويضيف: ‹‹هذا في الأساس تذكير بأنَّ قطعة واحدة من البازل هي لغز حتّى ننظر إلى كيفية تماشيها مع الإطار الأكبر››.
يُخَطّط الآن ليبّي وزملاؤه لتحديد آليات أخرى في هذا الشّأن ويقول: ‹‹نحن نعمل الآن على بعض التجارب لحساب مدى الاستقرار الذي توفّره بعض الآليات الممكنة الأخرى››.
المصادر: sciencemag, evolution.berkeley