عمّم تشارلز داروين مفهوم البقاء للأصلح على أنه الآلية الكامنة وراء الاصطفاء الطبيعي الذي يتحكم بتطور الحياة. تُصطفى الكائنات الحية ذات المورثات الأكثر تكيفًا مع البيئة للبقاء ولنقل هذه المورثات إلى الجيل التالي. لهذا فإن عملية الاصطفاء الطبيعي تتكرر مجددًا عندما يواجه العالم انبثاق عدوى جديدة لم يشهدها مسبقًا.
من هو “الأصلح للبقاء” في سياق جائحة فيروس كورونا؟
هذا سؤال صعب. وفقًا لباحثين في علم المناعة في جامعة كارولينا الجنوبية، فإن شيئًا واحدًا واضح بالنسبة لنا: مع انعدام خيارات المعالجة الفعالة، فالنجاة من عدوى فيروس كورونا يعتمد تمامًا على الاستجابة المناعية للمريض.
كنا نعمل على كون الاستجابة المناعية سلاحًا ذا حدين، تساعد المضيف في الكفة الأولى على محاربة الأخماج، بينما تتسبب في ضرر كبير على المناعة الذاتية في الكفة الأخرى.
الاستجابة المناعية مشابهة للسيارة. لتصل إلى وجهتك، تحتاج إلى أن تكون كل من دواسة وقود (الطور 1) والمكابح (الطور 2) يعملان جيدًا. الفشل في أحدهما يسبب عواقب وخيمة.
تكمن الاستجابة المناعية الفعالة ضد العامل المعدي في التناغم الدقيق بين الطورين. عندما يهاجم العامل المعدي الجسم، يدخل الجسم في الطور 1 ما يحرض الالتهاب، وهي حالة تتجمع فيها خلايا مناعية شتى في مركز الخمج لتقضي على العامل الممرض.
يلي ذلك الطور 2، عندما تكبح خلايا مناعية -تعرف بالخلايا تي المنظمة- الالتهاب ليتعافى النسيج المصاب كليًا. قد يسبب خلل في الطور الأول نموًا خارجًا عن السيطرة للعامل المعدي، كالفيروس أو البكتيريا، أما الخلل في الطور الثاني فيحرض التهابًا جسيمًا وتلفًا نسيجيًا، والموت.
يصيب فيروس كورونا الخلايا عن طريق الارتباط بمستقبل يسمى الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 ACE2، ويتواجد في أنسجة متعددة في الجسم ومنها المسالك الرئوية والجهاز القلبي الوعائي. تحرض العدوى بدء الطور 1 من الاستجابة المناعية، إذ تضخ الخلايا بي المولدة للأجسام المضادة أجسامًا مضادةً مستعدلة ترتبط بالفيروس وتمنعه من الارتباط بالإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2. يثبط ذلك الفيروس من إصابة خلايا أخرى.
تنتج الخلايا المناعية خلال الطور 1 السايتوكينات، وهي مجموعة من البروتينات تحث خلايا مناعية أخرى وتحارب العدوى. وتشارك في القتال أيضًا خلايا تي القاتلة التي تتلف الخلايا المصابة بالفيروس لتمنع الفيروس من استنساخ نفسه.
إذا كان جهاز المناعة ضعيفًا ويعمل بتدنٍ في أثناء الطور 1، سيستنسخ الفيروس سريعًا. الأشخاص ضعاف المناعة هم من كبار السن، والذين أجروا عملية زراعة أعضاء، والمصابين بأمراض المناعة الذاتية، ومرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي والذين ولدوا بداء العوز المناعي. الكثير من هؤلاء لا ينتجون أجسامًا مضادة أو خلايا تي قاتلة بما فيه الكفاية لمجابهة الفيروس، ما يسمح للفيروس بالتضاعف بلا رادع والتسبب بخمج شديد.
الاستنساخ المتزايد لسارس-كوف-2 يحث على حدوث مضاعفات إضافية في الرئة وفي أعضاء أخرى.
يوجد عادة نطاق واسع من الكائنات الدقيقة، الضارة والحميدة على حد سواء، التي تعيش بتناغم في الرئتين. من المحتمل مع انتشار فيروس كورونا أن العدوى والالتهاب الذي يليها يخرب هذا التوازن، الأمر الذي يسمح للبكتيريا الضارة بالهيمنة، ويؤدي ذلك إلى تطور ذات الرئة، إذ تمتلئ الحويصلات الهوائية التي تعرف باسم الأسناخ الرئوية بسائل أو قيح، فتصعب عملية التنفس.
يحرض ذلك التهابات إضافية في الرئتين، الأمر الذي ينتج عنه متلازمة الضائقة التنفسية الحادة التي تشاهد عند ثلث مرضى كوفيد-19. إن الجهاز المناعي غير القادر على التحكم بالعدوى الفيروسية والعوامل الممرضة المستجدة في الرئة يطلق استجابةً التهابيةً أشد عن طريق تحرير المزيد من السايتوكينات، وهي حالة تعرف «بعاصفة السايتوكينات».
من المحتمل في هذه المرحلة أن يفشل الطور 2 من الاستجابة المناعية في كبح الالتهاب والسيطرة على عاصفة السايتوكينات. عاصفة السايتوكينات هذه قد تثير نيرانًا صديقة: مواد كيميائية مدمرة وأكّالة تسعى لإتلاف خلايا مصابة محررة من قبل خلايا الجسم المناعية ما يؤدي إلى ضرر فادح للرئتين وأعضاء أخرى.
ولأن الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 منتشر في الجسم، تستطيع الخلايا تي القاتلة من الطور 1 تدمير الخلايا المصابة بالفيروس في عدد من الأعضاء مسببة تلفًا واسع الانتشار. وبهذا فإن المرضى الذين ينتجون كميات فائضة من السايتوكينات والخلايا تي قد يكون مصيرهم الموت بسبب الإصابة التي لا تطال الرئتين فحسب، بل أعضاء أخرى كالقلب والكليتين.
يثير السيناريو السابق أسئلة عديدة حول الوقاية وسبل علاج كوفيد-19. نظرًا إلى أن أغلبية الناس يشفون من عدوى فيروس كورونا، فبإمكاننا التكهن بنجاح لقاح يعتمد على تحريض الأجسام المضادة المستعدلة والخلايا تي لمنع الفيروس من دخول الخلايا والاستنساخ فيها. السر وراء نجاح اللقاح هو ألا يثير التهابًا مفرطًا.
ونجد إضافة إلى ذلك أن المرضى الذين يتحولون إلى حالات أشد مثل متلازمة الضائقة التنفسية الحادة وعاصفة السايتوكينات، التي غالبًا ما تكون مميتةً، تستلزمهم فوريًا أدوية مستجدة مضادة للالتهاب. تستطيع هذه الأدوية كبح عاصفة السايتوكينات على نطاق واسع دون التسبب بكبح مفرط للاستجابة المناعية، وتتيح بذلك للمرضى القضاء على فيروس كورونا دون التسبب بضرر للرئة والأنسجة الأخرى.
قد لا توجد إلا فرصة ضئيلة نستطيع فيها استخدام العوامل المثبطة للمناعة بفعالية. لا يجب استخدام هذه العوامل في المرحلة المبكرة من العدوى عندما يكون المريض بحاجة الجهاز المناعي ليحارب العدوى، ولكن لا يمكن تأخيرها فترة طويلة بعد تطور حالة متلازمة الضائقة التنفسية الحادة، عندما يكون الالتهاب خارجًا عن السيطرة. نستطيع تحديد هذه الفرصة للمعالجة المضادة للالتهاب بمراقبة مستويات الأجسام المضادة والسايتوكينات في المرضى.
في سياق كوفيد-19، فالأفراد «الأصلح» هم أولئك القادرون على تنظيم الطور 1 والطور 2 للاستجابة المناعية طبيعيًا. هذا يعني استجابةً مناعيةً قويةً في الطور 1 للقضاء على العدوى الأولية لفيروس كورونا وتثبيط انتشارها في الرئتين. يتبع هذا بالاستجابة المثلى للطور 2 لمنع الالتهاب المفرط من الحدوث على شكل عاصفة السايتوكينات.
على اللقاحات والعلاجات المضادة للالتهاب السيطرة بحذر على هذا التناغم الدقيق لكي تنجح.
ليس من الهيّن معرفة من هم الأفراد الأصلح في حالة فيروس كورونا. ليس بالضرورة أن يكون الأصغر، أو الأقوى، أو الأشخاص الأكثر لياقة رياضية. الأصلح بالنسبة لفيروس كورونا هم أصحاب الاستجابة المناعية المثلى الذين يستطيعون القضاء على العدوى بسرعة دون التسبب بالتهاب مفرط قد يكون مميتًا.
المصدر: theconversation
اقرأ أيضًا: