من قال إن معضلة «الدجاجة أم البيضة» تقتصر على الدواجن؟ إذ يبدو أنها غافلت جنسنا البشري أيضًا، لنصبح رفقة الدجاج في الأحجية ذاتها. لم يستطع البشر هضم الشراب أول الأمر، حتى تطورت عندهم طفرات جينية مكنتهم من ذلك، وبهذا استطاع البشر لاحقًا تناول الحليب، وإلا لما طرأ تغيير على مستوى الحمض النووي لديهم، ترتب عليه تفعيل القدرة على هضم الحليب.
تقول سارا تيشكوف اختصاصية علم الوراثة في جامعة بنسلفانيا: «طالما وجدنا أنفسنا نطرح التساؤل: أيهما أتى أولًا؟ الطفرة في معضلتنا مع الحليب، أم الممارسة الثقافية؟».
اكتشف العلماء اليوم بعضًا من أقدم الأدلة المتعلقة بتناول البشر منتجات الألبان.
بدأت الشعوب تناول منتجات الألبان في السودان وكينيا الحديثة قبل نحو 6000 سنة على الأقل، أي قبل أن يتطور-عند البشر عمومًا- جين هضم الحليب ، ما يشير إلى أن البشر قد بدؤوا بتناول السوائل قبل أن تحوي أحماضهم النووية الجينات القادرة على هضمها هضمًا سليمًا.
يمكن جميع البشر هضم الحليب في سن الرضاعة، لكن القدرة على هضمه عند البالغين تطورت حديثًا إلى حد ما، منذ 6000 سنة على الأرجح، إذ سمحت لهم بضع طفرات بإنتاج إنزيم «اللاكتاز» القادر على تحطيم جزيئات اللاكتوز، سكر الحليب.
تحظى الجينات التي تُفعِّل ما يُسمى «استدامة إنزيم اللاكتاز» بانتشار واسعٍ في إفريقيا الحديثة، حيث تطورت أربع من طفرات «استدامة اللاكتاز» المعروفة، في حين يحظى سكان القارة الأوروبية بطفرة واحدة فقط.
ما إن تطورت طفرات اللاكتاز حتى انتشرت سريعًا، واتضح أن حاملي إحدى تلك الطفرات قد حظوا بأفضلية كبيرة للبقاء وتمرير جيناتهم. تقول تيشكوف: «تُعد الأفضلية التي حظي بها حاملو تلك الطفرات واحدةً من أقوى الإشارات التي سبق ملاحظتها في مجال الاصطفاء الطبيعي».
في سبيل استكشاف ماضينا مع تناول الحليب، وجه الباحثون أنظارهم نحو إفريقيا، حيث رعت المجتمعات قطعان الماعز والأغنام والأبقار المستأنسة منذ ما لا يقل عن 8000 عام.
فحص العلماء ثمانية هياكل عظمية مكتشفة في السودان وكينيا، وقد تراوحت أعمارها بين 2000 و8000 عام. حصل العلماء بدايةً على بقايا من القلح المتكلِّس فوق أسنانهم، ثم حاولوا العثور على أحد أنواع البروتينات التي يمكن العثور عليها في الحليب، والتي يُحتمل أن تكون حبيسة داخل تلك البقايا.
كتب الباحثون: «أظهرت نتائج الفحص تناول الأشخاص أصحاب تلك الهياكل في الماضي أحد منتجات الألبان قبل 6000 عام على الأقل، ما يعني أننا الآن أمام أقدم دليل مباشر معروف على استهلاك منتجات الألبان في إفريقيا، بل في العالم».
يشير البحث أيضًا إلى أن إنتاج الألبان في إفريقيا يعود إلى الوقت ذاته حين استهلت القارة الأوروبية إنتاج ألبانها، بل ربما سبقتها القارة السمراء إلى ذلك. يفند ذلك الخرافة القائلة بتفوق البيض، إذ تربط تلك الخرافة -على نحو اعتباطي- «استدامة اللاكتاز» وشرب الحليب بالأوروبيين البيض فقط!
بالعودة إلى نتائج دراسة صدرت عام 2020 تناولت بضع عينات حمضٍ نووي مأخوذة من هياكل عظمية تعود للأفارقة القدماء، يبدو أنه لم يكن قد تطور لديهم أي جين لهضم الحليب بعد. تقول مادلين بليسدل، المتخصصة في البروتينات القديمة لدى معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري، المؤلفة المشاركة في الدراسة: «يبدو أن تلك الجماعة قد شرعت بتناول الحليب قبل أن تتطور لديها طفرة استدامة اللاكتاز».
لا توجد تلك البروتينات في الحليب فقط، بل في الجبن والزبادي أيضًا، وجميعها شائع اليوم في إفريقيا. تلجأ بعض الثقافات إلى طريقة «التخمير» لتحطيم سكريات الحليب قبل تناولها، ما يجعل تناول منتجات الألبان أسهل للأشخاص الذين لم يتكيفوا مع طفرة «استدامة اللاكتاز»، بدلًا من تناول الحليب بشكله الخام.
تقول «فيونا مارشال» عالمة الآثار في جامعة واشنطن سانت لويس: «ربما ظهرت تلك الطفرات لاحقًا كي تساعد الناس على تحصيل كمية أوفر من العناصر الغذائية، إذ يُعد الحليب موردًا جديدًا للغذاء، وهكذا مُنح مالكو طفرة الحليب ميزةً تفوقوا بها على من لم يحظوا بها من أقرانهم». أظهرت أيضًا نتائج الدراسة أن من حظي بطفرة استدامة اللاكتاز عاش فترةً أطول، وأنجب أطفالًا أكثر.
ربما يرجع الضغط الاصطفائي لطفرة استدامة اللاكتاز إلى عوامل بيئية أيضًا، إذ يعد الحليب -في ظل الظروف القاسية- أسلوبًا مستدامًا لإدارة المواشي، فهو يمنح الرعاة غذاءهم دون حاجة إلى قتل أي منها.
ففي أثناء الجفاف مثلًا، يستطيع الراعي البالغ الذي يتحمل اللاكتوز، استخدام الأبقار والماعز بوصفها مُنقيات مياه متنقلة. تقول تيشكوف: «إن كنت تملك أبقارًا، فأنت تملك إذن مصدرًا مستدامًا للسوائل والبروتين والغذاء، ما دمت تحافظ عليها حيةً معافاة».
ترجمة: باسل الجردي
تدقيق: مازن النفوري
مراجعة: أكرم محيي الدين
المصدر: sciencemag
اقرأ أيضًا: