تقود ظروف الحياة الحديثة تغيرات في تركيبنا الجيني. لن تبقى أجسامنا وأدمغتنا على ما هي عليه لدى أحفادنا.
يعتقد الناس عمومًا أن نوعنا تطور قليلًا منذ عصور ما قبل التاريخ. لكن دراسة حديثة تعتمد بيانات جينية من سكان حول العالم تقترح أن تطور البشر تسارع مع ظهور الزراعة والمدن.
إذا استمر تطورنا على هذا النحو، كيف سنبدو بعد ألف عام حال صمدنا أمام المفاجآت البيئية والاجتماعية المخبأة لنا؟ تتراوح التوقعات بين التفاؤل والتشاؤم.
إذا سألت عما سيبدو عليه مستقبل البشر ستسمع أحد جوابين. البعض سيلجأ إلى أفلام الخيال العلمي القديمة ويصوّر بشرًا يملكون أدمغةً كبيرة وجباه عالية وذكاءً أعلى. يقول آخرون إن تطور البشر جسديًا توقف، فالتقنيات الحديثة أوقفت قسوة عملية الانتقاء الطبيعي والتطور الآن هو تطور ثقافي بحت.
نظرية الأدمغة الكبيرة غير مدعومة علميًا. تظهر السجلات الأحفورية لحجوم جماجم البشر على مدى عدة ألوف سنة سابقة أن عصر التزايد السريع في حجم أدمغتنا قد انتهى. قبل بضع سنوات، كان العلماء سيدعمون نظرية توقف التطور الجسدي. لكن تقنيات دراسة الحمض النووي التي فحصت جينات من الماضي والحاضر أحدثت ثورة في دراسة التطور، وكان لها رأي مختلف.
لم يقم البشر (Homo sapiens) بخلط واسع لجيناتهم منذ تشكيل النوع فحسب، بل إن معدل تطور البشر قد ارتفع. كما هو الحال مع كائنات أخرى، خضعنا لأكبر كم من التغيرات في بنيتنا عند بداية ظهور نوعنا، لكننا تابعنا إظهار تغيرات محرضة جينيًا في وظائفنا الحيوية وسلوكنا. حتى وقت قريب في تاريخنا، كانت الأعراق البشرية في أجزاء مختلفة من العالم تتمايز عن بعضها أكثر مما تتقارب. وحتى الآن قد تسبب ظروف الحياة المعاصرة تغيرات في جينات مسؤولة عن سلوكيات معينة.
الماضي البعيد والقريب
تعود جذور عائلة البشر أو القردة العليا (Hominidae) إلى سبعة ملايين سنة على الأقل، متمثلةً بإنسان بدائي أُطلق عليه (Sahelanthropus tchadensis). ومنذ ذلك الوقت، امتلكت عائلتنا عددًا من الأنواع الجديدة المتنوعة غير المتفق على عددها، تسعة أنواع على حد علمنا، وغيرها تخفيه السجلات الأحفورية القليلة بطبيعتها. والسبب أن هياكل البشر نادرًا ما كانت تصل إلى الصخور الرسوبية قبل أن يُقتات عليها. يتغير هذا العدد بين عام وآخر بظهور اكتشافات وتحليلات جديدة للعظام القديمة.
تكشف السجلات الأحفورية أن أقدم فرد من نوعنا عاش قبل 195ألف سنة فيما يُسمى الآن إثيوبيا. وانتشر من هناك الإنسان العاقل إلى العالم.
نجح الإنسان الحديث قبل 10آلاف سنة في استعمار كل القارات عدا القارة القطبية الجنوبية، وقاد التحكم بهذه المواقع العديدة إلى ما ندعوه بالأعراق.
مجموعات تعيش في مناطق مختلفة أبقت على أدنى درجات الاتصال فيما بينها بما يكفي لتجنب التطور إلى أنواع منفصلة. مع تغطية كامل الكوكب، يُعتقد أن عصر التطور انتهى.
تبين أن الأمر ليس كذلك. في دراسة نُشرت في 2007 حلل هنري هاربيندينغ من جامعة يوتا وجون هوكس من جامعة ويسكنسن-ماديسون وزملاؤهما الخريطة الجينية العالمية للجينوم البشري.
ركزوا في دراستهم على واسمات جينية عند 270 شخصًا من 4 مجموعات عرقية: هان الصينية، واليابانية، والإفريقية الغربية، والأوروبية الشمالية. وجدوا أن على الأقل 7% من الجينوم البشري خضع للتطور حتى وقت قريب، نحو 5000 سنة.
تضمنت التغيرات تكيفات مع بيئات معينة، طبيعية أو مصنّعة بشريًا. مثلًا: يستطيع القليل من الناس في إفريقيا والصين هضم الحليب الطازج في مرحلة البلوغ، في حين أن أغلب سكان السويد والدنمارك قادرون على هضمه. ظهرت هذه القدرة غالبًا مرتبطةً مع التكيّف على رعاية الماشية.
يُقدّر فريق هاربيندينغ وهوكس أن البشر تطوروا في 10 آلاف سنة الأخيرة أسرع بمئة ضعف من أي فترة منذ انفصال أول بشري عن أسلاف القردة الحديثة.
أرجع الفريق هذا التسارع في معدل التطور إلى البيئات المختلفة التي انتقل إليها البشر وتغير ظروف الحياة المُحدثة بالزراعة والتمدن.
لم تكن الزراعة بحد ذاتها أو تغير المحيط من البراري إلى الحقول هي السبب الوحيد، بل اجتماع غياب النظافة والحمية الجديدة وظهور الأمراض، من البشر الآخرين أو الماشية. الجدير بالذكر أن بعض الباحثين تحفّظوا على هذه التقديرات. النقطة الأساسية الثابتة هي أن البشر متطورون ممتازون.
الاصطفاء الصناعي:
تغيرت ظروف حياة نوعنا مرة أخرى في القرون الأخيرة. تجاوزنا الانعزال الجغرافي للمجموعات المختلفة بتسهيل وسائل النقل وهدم الحواجز الاجتماعية التي كانت تفصل الأعراق عن بعضها. لم يسبق أن شمل الحوض الجيني البشري مثل هذا الخليط الواسع مما كان مجموعات منعزلة تمامًا من النوع نفسه.
في الوقت ذاته، تغلبت تقنياتنا الحديثة وأدويتنا على الاصطفاء الطبيعي في جنسنا. في معظم بقاع الأرض، لم يعد حديثو الولادة يموتون بأعداد كبيرة. يعيش الآن الناس المولودون بعيوب وراثية قاتلة في السابق وينجبون أطفالًا. ولا يؤثر المفترسون الطبيعيون في الاستمرارية.
يعتقد ستيف جونز من جامعة لندن الملكية أن تطور البشر توقف. في حوار الجمعية الملكية في إدنبره سنة 2002 بعنوان «هل توقف التطور؟» قال جونز: «توقفت الأمور عن التحسن أو التدهور لجنسنا.
إذا أردت معرفة كيف تبدو المدينة الفاضلة، نحن فيها». يقترح جونز أن كل شخص تقريبًا يملك الفرصة للوصول إلى سن الإنجاب، على الأقل في العالم المتقدم، الفقير والغني يملك فرصة متساوية في الحصول على أطفال.
تعطي المناعة الموروثة للأمراض -ضد فيروس نقص المناعة المكتسبة مثلًا- أفضلية للاستمرار، لكن الموروث الثقافي هو العامل المحدد لموت الشخص أو حياته، لا الجينات. باختصار، التطور الآن فكري وليس جيني.
وجهة نظر أخرى ترى أن التطور الجيني لا يزال مستمرًا، لكنه بالاتجاه المعاكس. قد تسبب بعض جوانب الحياة المعاصرة تغيرات تطورية لا تزيد قدرتنا على الاستمرار، بل قد تجعلنا أقل قدرةً على ذلك.
لاحظ عدد كبير من طلاب الجامعات طريقة قد تحدث بها مثل هذه التغيرات، يؤجل الطلاب إنجاب الأطفال، في حين بدا زملاؤهم الذين لم يحققوا درجات تخولهم إكمال تعليمهم بإنجاب الأطفال فور إنهائهم المدرسة الثانوية. إذا أنجب الأهل الأقل ذكاءً أطفالًا أكثر، فالذكاء هذه الأيام سيكون عبئًا تطوريًا وسينخفض معدل الذكاء العام.
لهذه النظرية تاريخ طويل من الجدل حولها. إحدى النظريات المضادة تقول إن الذكاء البشري يشمل عدة قدرات مشفرة على عدد كبير من الجينات، لذلك تحظى بمعدل توريث منخفض، أي المعدل الذي يعبر عن مدى توريث الصفة إلى الجيل التالي.
الاصطفاء الطبيعي يعمل على الصفات المتوارثة فقط. يختلف الباحثون حول كم أن الذكاء هو صفة موروثة، لكنهم لم يجدوا علامات تدل على انخفاض معدل الذكاء فعلًا.
التطور الموجّه:
وجّهنا تطور العديد من الحيوانات والنباتات، فلم لا نوجه تطورنا نحن؟ لماذا ننتظر الاصطفاء الطبيعي ليقوم بالمهمة في حين نستطيع إنجازها بسرعة وبطرق مفيدة لنا؟ في مجال سلوك البشر مثلًا، يبحث علماء الوراثة عن المكونات الجينية المسؤولة، ليس فقط عن المشكلات والاضطرابات، بل عن الفطرة والنواحي المختلفة للميول الجنسية والسلوك التنافسي، التي قد يكون العديد منها على الأقل قابلًا للتوريث. مع الوقت، قد يصبح المسح الجيني شائعًا وسيُعطى الناس أدويةً تبعًا للنتائج.
الخطوة التالية هي تغيير الجينات فعليًا. قد يحدث ذلك بطريقتين: إما بتغيير جينات عضو معين (العلاج الجيني) أو بتغيير كامل جينوم الفرد (التعديل الجيني). ما زال الباحثون يعانون في سبيل تحقيق العلاج الجيني لعلاج الأمراض.
لكن إن نجحوا في تغيير كامل الجينوم فسيساعد ذلك الشخص المعني إضافةً إلى أطفاله. أكبر التحديات في مواجهة الهندسة الوراثية للإنسان سيكون تعقيد الجينوم.
تؤدي المورثات عادةً أكثر من وظيفة، وبالمقابل، تُشفّر الوظائف عادةً على عدة مورثات. بسبب هذه الخاصية قد يؤدي العبث بمورثة واحدة إلى عواقب غير مرغوبة.
كيف سيؤثر تغيير جيناتنا إذا أصبح واقعًا في مستقبل تطور البشر؟ أثر كبير غالبًا. لنفرض أن الأهل عدّلوا أبناءهم غير المولودين بعد لتحسين ذكائهم ومظهرهم ومعدل عمرهم. إذا أصبح الأبناء أذكى وأطول عمرًا -بمعدل ذكاء قدره 150 وعمر يصل إلى 150 عامًا- فسيحظون بأطفال أكثر وسيجمعون ثروةً أكبر من باقي البشر.
سوف ينجذبون اجتماعيًا إلى أناس مثلهم. بهذا النوع من الفصل الجغرافي والاجتماعي المُحدث، قد تبتعد جيناتهم وتشكّل في النهاية أنواعًا جديدة. أي أننا سنستطيع خلق نوعٍ جديد من البشر. سيعود قرار كهذا إلى أحفادنا.
طريق التهجين:
أحد الخيارات الأقل توقعًا من تلاعبنا بالجينات هو تلاعبنا بالآلات، أو تلاعبها بنا. هل يكون تطورنا الأخير هو اندماجنا مع الآلات؟ توقع كتّاب عدة أننا سنربط أجسادنا بروبوتات أو أننا سنرفع عقولنا على الحواسيب.
نحن في الواقع معتمدون على الآلات. مع أننا نصنعها لكي نلبي حاجاتنا، فإننا نغير طريقة عيشنا وتصرفاتنا كي نلبي حاجاتها. بتطور الآلات وازدياد تعقيدها وترابطها سنضطر إلى التكيف معها.
عبّر جورج ديسون عن هذه الرؤية للمرة الأولى في كتابه «داروين بين الآلات» سنة 1998: «كل ما يفعله البشر لتسهيل التحكم بالشبكات الحاسوبية يسهل في الوقت ذاته -وإن كان لأسباب مختلفة- تحكم الشبكات الحاسوبية بالبشر.
التطور الدارويني قد يكون إحدى المفارقات حيث تعجز الحياة عن مجاراة العمليات غير الداروينية التي خلقتها، وتصبح ضحيةً لنجاحها».
تهدد تقنياتنا الحديثة الطرق القديمة التي يعمل بها التطور. لنتأمل وجهتي النظر في مقال للفيلسوف التطوري نيك بوستروم من جامعة أوكسفورد سنة 2004. كتب في الجانب المتفائل: «الصورة الكبيرة تشير إلى اتجاه متسارع نحو ازدياد مستوى التعقيد والمعرفة والوعي والتنظيم الموجه بالأهداف، الاتجاه الذي قد نسميه «التقدم».
وجهة النظر مفرطة التفاؤل تدّعي أن تاريخنا الناجح ينبغي أن يجعلنا واثقين من أن التطور -الحيوي أو الفكري أو التقني- سيستمر باتجاه الأهداف المرغوبة».
الجانب المظلم معروف جيدًا. يرى بوستروم أن رفع عقلنا على الحواسيب سينهي نوعنا. قد يجزئ الذكاء الصناعي المتقدم الأجزاء المختلفة للوعي البشري ويعيد تجميعها في شيء غير بشري على الإطلاق، ما سينهي وجودنا. يتوقع بوستروم تسلسل الأحداث كالتالي: «سيرفع بعض الأفراد وعيهم ويصنعون عدة نسخ من أنفسهم.
في الوقت ذاته ستتطور تقنيات علم الأعصاب والذكاء الصناعي حتى يمكن فصل أجزاء وعي الفرد وربطها بأجزاء من عقول أفراد آخرين، ستستطيع الأجزاء الملائمة للمعايير الشائعة التواصل والتعاون مع أجزاء أخرى، ما سيكون أكثر انتاجيةً من الناحية الاقتصادية، وسيدفع نحو تعميم هذه المعايير. قد لا يعود لبنية العقل البشري مكان وقتها».
باختصار: مستقبل الإنسانية قد يسلك واحدًا من عدة طرق، بافتراض أننا لن ننقرض:
الثبات: سنبقى على ما نحن عليه الآن، مع تعديلات بسيطة عند اندماج الأعراق.
نشوء نوع جديد: تطور نوع جديد من البشر، على هذا الكوكب أو على كوكب آخر.
الاندماج مع الآلة: اندماج الآلة مع العقل البشري، سيُنتج ذكاءً جمعيًا قد يحتفظ بالخواص التي نعدها إنسانيةً أو يفقدها.
ترجمة: حيان شامية
تدقيق: مازن النفوري
مراجعة: أكرم محيي الدين
المصدر: scientific american
اقرأ أيضًا:
هل يمكننا تتبع أصل الإنسان المعاصر إلى أي نقطة مفردة من الزمان أو المكان؟