
تُعدّ الحيوانات المنوية أكثر أنواع الخلايا تنوعًا وسرعة في التطور، ويعد السبب وراء هذا التطور الهائل الذي شهدته النطاف لغزًا حيّر علماء الأحياء لأكثر من قرن.
سعيًا لحل هذا الإشكال التطوري، كرس الباحثون في مركز التطور الإنجابي (سي آر إي) التابع لجامعة سيراكيوز عشرات السنين لدراسة الخصائص الحيوية لتكاثر ذباب الفاكهة. هذه الحشرات الصغيرة التي تبدو غير ملحوظة ظاهريًا تخفي سرًا إنجابيًا عظيمًا في داخلها: حيوانات منوية عملاقة.
تُظهر ذبابات الفاكهة تنوعًا في أطوال الحيوانات المنوية يفوق ما يُلاحظ في المملكة الحيوانية مجتمعة. فعلى سبيل المثال، تُلقّح ذكور أحد أنواع ذباب الفاكهة، دروسوفيلا بيفوركا، شريكاتها ببضع عشرات فقط من الحيوانات المنوية، يبلغ طول الواحد منها 5.8 سنتيمترات ضخمة (أي ما يعادل 20 ضعف طول جسم الأنثى تقريبًا)، وتكون ملتفة على شكل كرة من الخيوط.
كشفت تحقيقات أجراها باحثون في مركز التطور الإنجابي بجامعة سيراكيوز، بمن فيهم أستاذ علم الأحياء ويِدن، سكوت بيتنِك، وأستاذ علم الأحياء ستيف دوروس، والأستاذ المساعد في علم الأحياء ياسر أحمد برايمة، وطلابهم، أن الانتقاء الجنسي فضّل الحيوانات المنوية الأطول. وقد وضع تشارلز داروين الأسس النظرية لهذا المفهوم في عام 1871 في كتابه المؤثر «أصل الإنسان والانتقاء في العلاقة الجنسية».
بشكل أساسي، تطورت ذيول الحيوانات المنوية الطويلة لأنها تتمتع بقدرة أفضل مقارنة بالحيوانات المنوية القصيرة في المنافسة على تخصيب البويضات، ولأن الأجهزة التناسلية الأنثوية مصممة بطريقة تفضل تخصيب الحيوانات المنوية الأطول.
بمعنى آخر، تُشابه الأذيال الطويلة للحيوانات المنوية، على المستوى الخلوي، ما يُمثله ذيل الطاووس بعد التزاوج. في الواقع، أظهرت دراسة سابقة صادرة عن مركز أبحاث التطور في دورية نيتشر أن ذيول الحيوانات المنوية لذباب الفاكهة تُنافس ريش ذيل طائر التدرج، وقرون الأيل، وقرون خنفساء الروث، وجلد عنق السحالي المتدلي، وغيرها من العناصر التي تُعدُّ من أبرز مظاهر التزين أو الترهيب في عالم الكائنات الحية.
لطالما أعاق نقص المعلومات حول الأسس الجينية للصفات الجنسية القدرة على اختبار ما ترتكز عليه نظرية الانتقاء الجنسي، ووضع فرضيات جديدة حول تطور هذه الصفات.
لكن دراسة حديثة أجراها مركز التطور الانجابي، بالاشتراك مع باحثين من جامعات ستانفورد وكورنيل وفيرجينيا للتكنولوجيا وجامعة زيورخ، سلطت الضوء على الوراثة المتعلقة بطول الحيوانات المنوية لدى ذباب الفاكهة، وكذلك العضو التناسلي الأنثوي المسؤول عن هذا التطور.
قد تُسهم نتائج الدراسة المنشورة في دورية نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن، في تطور فهمنا لآليات اختيار الشريك الجنسي والزينة الجنسية عمومًا. وقد بدأ الفريق البحثي بدراسة طول النطاف وطول المُستقبل المنوي الأنثوي، الذي يعد التركيب التشريحي المسؤول عن عملية «انتقاء الحيوانات المنوية الانثوية» لدى الإناث، في 149 صنفًا من ذباب الفاكهة.
بعد إجراء تسلسل للجينوم بأكمله لكل من هذه الأنواع (كما نُشر في مجلة بّي إل أو إس بيولوجي)، وضع الباحثون تصورًا لتوزع الصفات الوراثية على شجرة التطور الخاصة بذباب الفاكهة، وذلك بغية إيضاح الكيفية التي تطورت بها هذه الصفات المتفاعلة بين الجنسين على مدار 65 مليون عامًا الماضية.
بعد ذلك، اعتمد الباحثون نهج «دراسة الارتباط على نطاق الجينوم» لتحديد الجينات المحتملة التي تؤثر على التباين في طول الحيوانات المنوية وطول الجهاز التناسلي الأنثوي في ذبابة الفاكهة النموذجية. وكانت النتائج مفاجئة للجميع إذ أظهرت نحو 19% فقط من الجينات المرتبطة بتباين طول الحيوانات المنوية تعبيرًا مرتفعًا في الخصى، وهي جينات معروفة بدورها في تنظيم عملية تكوين الحيوانات المنوية.
معظم الجينات المحددة التي تتحكم بطول الحيوانات المنوية ترتبط بشكل أساسي بتطور الجهاز العصبي المركزي ووظائفه، بالإضافة إلى دورها في حاستي البصر والشم. كما تبين أن التباين الجيني في طول الحيوانات المنوية يرتبط بخصوبة الإناث طوال فترة حياتهن، وبمقاومتهن للجوع، وكذلك بقدرتهن على العثور على الغذاء.
بعبارة أخرى، من خلال تطور الأجهزة التناسلية الأنثوية بطريقة تمنح الذكور ذوي الحيوانات المنوية الأطول ميزة في المنافسة على تخصيب البيوض، أتاح الانتقاء الجنسي للإناث وسيلة لانتقاء «الجينات الجيدة» التي تعزز البقاء والتكاثر بشكل مقارن، لنقلها إلى الأجيال القادمة.
أخيرًا، استُخدمت خوارزمية مُعقّدة (واستغرقت ما يُقارب 15 مليون ساعة حاسوبية على شبكة أورانج غريد الحاسوبية التابعة لجامعة سيراكيوز) لتحديد الجينات التي يرتبط فيها مُعدّل تطور تسلسل النيوكليوتيدات ارتباطًا وثيقًا بتطور طول الحيوانات المنوية والمستقبِل المنوي عبر شجرة الأنواع. أكّد هذا الإجراء وجود علاقة جينية مُشتركة بين طول الحيوانات المنوية ونمو الجهاز العصبي وأدائه.
يحمل هذا النهج الشامل آفاقًا واعدة للغاية، ليس فقط في توسيع فهم الباحثين للوراثة التطورية المتعلقة بالحيوانات المنوية، ولكن أيضًا في الكشف عن جوانب أساسية من التنوع الحيوي.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org