مصنع السم القاتل: كيف غيّر أسد النمل تركيبة سمّيته تكيّفًا مع حياة الصحراء؟
في دراسة حديثة، أظهر باحثون من معهد ماكس بلانك لعلم البيئة الكيميائية ومن جامعة جييسن كيف أدى تطوّر أسود النمل مع بيئتها الخاصة إلى تغير في تركيب سمّها. نُشرت الدراسة في مجلة كوميونيكيشنز بيولوجي.
قارن العلماء بين نظامي السم في حشرة أسد النمل وحشرة أسد المنّ وثيقة الصلة، وكشفوا أن أسد النمل يمتلك نظامًا أكثر تعقيدًا لإنتاج السم، إذ يُفرز سمًا أكثر تعقيدًا بكثير مقارنة بأسد المنّ، ويُنتجه في ثلاث غدد سم مختلفة. وما يثير الاهتمام هو مصدر السم، إذ يأتي بالكامل من جسم أسد النمل نفسه، وليس من بكتيريا تعيش معه.
تنتج أسود النمل سمومًا فريدة من نوعها تميّزها عن غيرها من الكائنات. وبفضل هذه السموم القوية، تستطيع أسود النمل، التي تتربص بفرائسها في فخاخ الحُفر الرملية، شلّ حركة فرائس أكبر حجمًا. وبالتالي، يلعب السم دورًا بيئيًا حيويًا في تمكين أسود النمل من التكيف مع بيئاتها القاحلة.
تُعد يرقات الحشرات من رتبة عرقيات الأجنحة كائنات مفترسة تستخدم السم لشل حركة فرائسها من المفصليات وهضمها. ومن أبرز فصائل هذا الرتبة، حشرتي أسد المن، وأسد النمل. ويشيع استخدام يرقات فصيلة أسود المن في البيوت البلاستيكية، كمُكافِحة بيولوجية للمنّ، إذ أطلق عليها اسمها نسبة لتغذيتها عليه.
تقتصر مواطن أسود النمل على البيئات الجافة الرملية، حيث تُنشئ هذه الحشرة فخاخًا مخروطية الشكل في الرمال وتنتظر فيها لافتراس الحشرات. ونظرًا لشح مصادر الغذاء في هذه البيئات القاحلة، تضطّر أسود النمل لافتراس أي حشرة تمسك بها دون انتقائية.
نظرًا لندرة الموارد الغذائية، تضطّر هذه الحشرات المفترسة للتغلب على فرائسها بسرعة وقوة، حتى تلك الكبيرة والمدافعة. ولتحقيق ذلك، تتطلب هذه الحشرات تطوير سموم قوية قادرة على شل حركة فرائسها بفعالية ومنعها من الهرب.
يُنتج الجهاز السام في هذا الكائن الحي سمًا معقدًا عبر ثلاث غدد سامة متخصصة
تمثل هدف الفريق البحثي، الذي يقوده هايكو فوغل من معهد ماكس بلانك لعلم البيئة الكيميائية، وأندرياس فيلتشينسكاس من جامعة جييسن، باستكشاف سم أسد النمل بشكل أعمق.
ركز الباحثون على التحقيق في أصل السم في هذه الحشرة، وتحديدًا دور البكتيريا المتعايشة في إنتاجه. وهدفوا إلى تحديد الأعضاء المنتجة للسم وتوضيح تركيبته. علاوة على ذلك، قارن الباحثون نظام السم وسميته بنظام السم لدى يرقات حشرة أسد المن وثيقة الصلة.
«تمكنا من تحديد ما مجموعه 256 بروتينًا سامًا في أسد النمل. تعقيد آلية التسميم الكلية في هذه الحشرة مذهل، إذ توجد ثلاث غدد متخصصة تقوم بحقن سموم وإنزيمات هضمية مختلفة في الفريسة عبر الكماشات».
تؤكد الباحثة الرئيسية مايك فيشر: «كشفت تحليلاتنا أن سم أسد النمل يتميز بتركيبة أكثر تعقيدًا وفاعلية مقارنة بسم أسد المن، والذي تمكنا فيه من تحديد 137 بروتينًا فقط من الغدد السامة. ومن خلال التحليلات الجينية، استطعنا أيضًا اكتشاف سموم فريدة من نوعها في أسد النمل».
استعان فريق البحث بمجموعة واسعة من تقنيات البيولوجيا الجزيئية والنسجية وتكنولوجيا إعادة البناء ثلاثي الأبعاد لدراسة التعبير الجيني وتنوع البروتينات وبنية الغدد السامة.
استخدم الباحثون أسلوبًا متطورًا يسمّى HCR-RNA-FISH، لتصوير وقياس توزيع وكمية جزيئات الحمض النووي الريبي (آر إن إيه) في الخلايا الفردية، تجمع هذه التقنية بين تهجين سلسلة التفاعل (إتش سي آر)، والتهجين الموضعي المتألق (إف آي إس إتش)، وقد أظهرت نتائجهم ثلاثًا من الغدد السامة الصغيرة لأسد النمل تساهم في إفراز السم وتنتج أنواعًا بروتينية سامة.
أسود النمل تنجو دون مساعدة البكتيريا المتعايشة معها
أظهر التحليل الذي أجري بالاعتماد على تقنية التهجين الموضعي المتألق لتصوير البكتيريا داخل أنسجة حشرة أسد النمل، افتقار هذه الحشرة بشكل واضح لأي شركاء بكتيرية متعايشة معها، وقد أثارت هذه النتيجة دهشة فريق البحث.
بحسب مارتن كالتنبوث، رئيس قسم تكافل الحشرات في معهد ماكس بلانك لعلم البيئة الكيميائية: «من المدهش كيف يخلو أسد النمل تمامًا من البكتيريا. هذا الأمر غير اعتيادي، بالنظر إلى أن معظم الكائنات الحية، وخاصة الحيوانات تستضيف أعدادًا كبيرة من الكائنات الدقيقة لا سيما في جهازها الهضمي ويلعب بعضها دورًا حيويًا في بقائها».
ويضيف:«من ناحية أخرى، كنا نتوقع وجود بكتيريا في النظام المنتج السم، إذ كنا نعتقد سابقًا أن بعض بروتينات السم في سم أسد النمل تُنتج بواسطة البكتيريا».
الجهاز السام الفريد لأسود النمل تطورٌ ساعدها على التكيف مع بيئتها
تحظى الحشرات شبكية الأجنحة بأهميّة خاصة في مجال المكافحة البيولوجية، لا سيما في البيوت البلاستيكية. مع ذلك، لم يحظ الدور التطوري لتكوين السم لدى الأنواع المختلفة من الحشرات من فصيلة عرقيات الأجنحة بالاهتمام الكافي.
«تشير نتائجنا إلى أن التنوع في البيئات التي تعيش فيها الحشرات، واختلاف فرائسها، يؤثران تأثيرًا كبيرًا على تركيبة وفعالية السم لدى الحشرات شبكية الأجنحة. وقد تكون الديناميكيات الناتجة عن هذه العوامل محركًا رئيسيًا لتطور العلاقات بين المفترس والفريسة».
يؤكد فوجل، رئيس مجموعة أبحاث «التكيف والمناعة» في قسم تعايش الحشرات: «يُنتج أسد النمل مزيجًا سامًا معقدًا يتيح له شل حركة أكبر الحشرات حتى الدفاعية منها، وحتى في البيئات القاحلة المفتقرة للفرائس. علاوة على ذلك، تطورت لدى هذه الحشرة هياكل فموية فريدة تمكنها من حقن السم أو الإنزيمات الهضمية في فريستها عبر نظامين مستقلين».
يواصل الباحث فيلتشينسكاس، من جامعة جيسن ورئيس قسم الموارد الحيوية في معهد فراونهوفر لعلم الأحياء الجزيئي والبيئة التطبيقي (آي إم إي)، تتبع فعالية وتعقيد سم أسد النمل.
يقول: «تمكنّا من إثبات فعالية سم أسد النمل العالية عند اختباره على الحشرات. إلا أننا نجهل المكونات المسؤولة عن هذه السمية. ولذلك، يمثّل تحديد تركيبة السم ودراسة آلية عمله، بالمقارنة مع سموم الحشرات الأخرى هدفًا بحثيًا واعدًا. وتكتسب السموم الفريدة الموجودة في أسد النمل حصرًا أهمية خاصة في هذا السياق».
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org