في أعماق البحيرات البعيدة في القارة القطبية الجنوبيّة، حيث لا تستطيع معظم الكائنات الحية العيش، اكتشف العلماء مجتمعات من الكائنات الدقيقة النابضة بالحياة. يدرس الباحثون الهياكل التي تبنيها هذه المجتمعات الحيويّة لفهم كيف تستطيع أشكال الحياة التكيف مع الظروف القاسية، ما قد يقدم أدلة قيمة حول آليات تطور الحياة على كوكب الأرض.
تُعد بحيرة أونترزي أكبر بحيرة مياه عذبة داخل شرق القارة القطبية الجنوبية.
نظرًا لأنها مغطاة بصورة دائمة بطبقة جليدية سمكها عدة أمتار ولقلة تعرضها لأشعة الشمس لمعظم فترات السنة، تخلو البحيرة من الكائنات الحية الكبيرة مثل النباتات والحيوانات. إلا أن أعماقها تضم نظامًا بيئيًا غنيًا يساعد العلماء في فهم بدايات تطور الحياة على كوكبنا.
تظهر في قاع البحيرة تكوينات فريدة من نوعها ناجمة عن تجمعات ضخمة من الكائنات الدقيقة، تأخذ هذه التكوينات أشكالًا متنوعة تبدأ من الأشكال المدببة الصغيرة وصولًا إلى الأشكال المخروطية الأكبر حجمًا. ومع غرابة هذه الظاهرة، ظلت الأسباب الكامنة وراء ظهورها بشكلين مختلفين محل جدل لدى العلماء، لكنّ الدراسة الجديدة التي نشرت في مجلة الميكروبيولوجيا البيئية قدمت تفسيرات جديدة لهذه الظاهرة المعقدة.
تقول الدكتورة آن جونغبلوت، الباحثة في مجال الميكروبات بالمتحف والمؤلفة الرئيسية للدراسة: «بفضل وجود هذين التكوينين المختلفين في بحيرة أونترسي، يتسنى لنا دراسة كيفية تشكل هذه الهياكل الميكروبية».
وتضيف: «إذا كانت الميكروبات في هذه الهياكل متشابهة، فهذا قد يشير إلى أن القوى البيئية هي العامل الأساسي في تشكيلها. ولكن إذا كانت تتألف من تركيبة أنواع مختلفة، فقد يعني ذلك أن كيفية نمو هذه الأنواع لها تأثير أكبر على شكل هذه الهياكل».
«نظرًا لنمو هذين التكوينين جنبًا إلى جنب في نفس الظروف البيئية، فإننا نرجح لعب أنواع الميكروبات دورًا أكبر في التأثير على شكل هذين التكوينين. لذا، سعينا في هذا البحث لدراسة الكائنات الحية الدقيقة المكونة لهذين التكوينين بشكل أعمق».
ما هي المكونات الأساسية لهذه الهياكل المعقدة؟
تغطي بحيرة أونترسي طبقةٌ جليدية دائمة، مع ذلك، تتمكن كمية ضئيلة من الضوء من اختراق أعماق البحيرة، الأمر الذي يتيح للحياة الضوئية بالبقاء.
تُظهِر الطبقة العليا من هذه الهياكل الدقيقة ألوانًا زاهية لاحتوائها على كائنات ضوئية تنتج أصباغ تساعدها على امتصاص أدنى كمية من الضوء تصل إلى قاع البحيرة. أما الطبقة السفلى فتشبه الطين الفارغ، لكنها تعج بأنواع مختلفة من الكائنات الحية التي لا تعتمد على الضوء في نموها.
حلل الباحثون عدة عينات مجهرية، لا يتجاوز وزن الواحدة منها جرامًا واحدًا بهدف استكشاف التنوع البيولوجي لهذه الهياكل المختلفة. ومن ثم عملوا على استخلاص الحمض النووي واستخدامه لتجميع الجينومات الخاصة بالأنواع المتعددة لتحديد مكوناتها.
كشفت نتائج العيّنات وجود مجموعة متنوعة من الكائنات وحيدة الخلية، مثل العتائق والطلائعيات المعقدة كالفطريات المجهرية والهدبيات والأميبا. أما الطبقات الخارجية فتكونت بشكل أساسي من البكتيريا الزرقاء، إحدى أنواع البكتيريا الضوئية التي تتواجد بشكل طبيعي في معظم النظم البيئية للمياه العذبة حول العالم.
أظهرت النتائج هيمنة نوعين مختلفين من البكتيريا الزرقاء على نوعين من الهياكل الميكروبية. حيث احتوت الهياكل المخروطية على أعداد أكبر من البكتيريا الزرقاء السميكة من جنس ميكروكوليوس، بينما احتوت الهياكل المدببة على أعداد أكبر من البكتيريا الزرقاء الرقيقة من نوع إيلينيللاسييا.
وتقول آن: «استنادًا إلى بحثنا، نعتقد أن للبكتيريا الزرقاء دور هام في تشكيل هذه الهياكل، ما يشير إلى وجود آلية نمو معينة تؤدي إلى هذه الأشكال المتباينة».
وأضافت: «لكننا لا نزال غير متأكدين من الأسباب التي تتسبب بنمو أنواع معينة من البكتيريا في مناطق محددة من البحيرة، وكيف تتفاعل هذه الكائنات الحية الدقيقة مع بعضها البعض، وهذا هو محور اهتمامنا في أبحاثنا المستقبلية».
كيف تكشف لنا هذه الهياكل الميكروبية المزيد عن بدايات الحياة على كوكب الأرض؟
تشهد بحيرة أونتيرزي نموًا مستمرًا للهياكل الميكروبية كل عام، حيث تتراكم طبقات من الميكروبات والرواسب لتشكل هياكل ضخمة على مر مئات بل آلاف السنين.
تتشكل هذه الهياكل الميكروبية الناعمة بطريقة مشابهة لتشكل الاستروماتوليتس، وهي من أقدم الأحافير المعروفة على كوكبنا، والتي ظهرت منذ مليارات السنين.
على الرغم من وجود الاستروماتوليتس في العصر الحالي، إلا أن وجودها يرتبط بالعصر الأركي الذي امتد من 4 إلى 2.5 مليار سنة مضت. خلال هذه الفترة، لم تكن هناك نباتات أو حيوانات أو كائنات حية معقدة أخرى كما نراها اليوم.
كانت الحياة محصورة على الكائنات وحيدة الخلية. ويُعتقد أن العديد من الاستروماتوليتس في العصر الأركي كانت تتكون من بكتيريا زرقاء قادرة على التمثيل الضوئي، وأنها لعبت دورًا رئيسيًا في تكوين الغلاف الجوي الغني بالأكسجين الذي نعتمد عليه حاليًا.
يسعى العلماء إلى استغلال فرصة دراسة الهياكل الحيوية الطبقية الحية لفهم أعمق لكيفية نشوء وتطور الحياة خلال العصر الأركي، وهي فترة مبكرة من تاريخ الأرض.
تقول آن: «تحتوي معظم البيئات على الأرض حاليًا العديد من الكائنات الحية التي لم تكن موجودة في العصر الأركي. ولذلك، ندرس هذه الهياكل في القارة القطبية الجنوبية لأنها تمثل بيئة قاسية لا تستطيع الكثير من الكائنات الحية العيش فيها، وبالتالي فهي تعكس بشكل أفضل الظروف التي كانت سائدة خلال تلك الفترة».
«بحيرة أونترسي فريدة من نوعها لأنها تحتوي على أشكال مختلفة من الهياكل الميكروبية. دراسة هذه الهياكل يمكن أن تساعدنا في فهم كيفية تطور الحياة وتشكيلها وتنظيمها، ومدى تأثير القوى البيئية عليها».
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org