توصلت دراسة جديدة إلى أن «الحمض النووي العشوائي» ينشط بشكل طبيعي في خميرة الفطريات ذات الخلية الواحدة، بينما يكون مثبطًا في حالته الطبيعية في خلايا الثدييات، على الرغم من وجود سلف مشترك قبل مليار سنة ونفس الآلية الجزيئية الأساسية.
يدور الاكتشاف الجديد حول العملية التي تتحول من خلالها التعليمات الوراثية للحمض النووي أولاً إلى الحمض النووي RNA ثم إلى البروتينات التي تشكل هياكل الجسم وإشاراته. في الخميرة والفئران والبشر، تحدث الخطوة الأولى من خلال التعبير الجيني، أي النسخ، إذ تُترجم قراءة «حروف» الحمض النووي الجزيئية (القواعد النووية) في اتجاه واحد. في حين أن 80% من الجينوم البشري (المجموعة الكاملة من الحمض النووي في خلايانا) تُشفر إلى RNA، لكن أقل من 2% منها يرمز فعليًا للجينات التي توجه بناء البروتينات.
إن اللغز الطويل الأمد في علم الجينوم هو ما الذي يحققه كل هذا النسخ غير المرتبط بالجينات. هل هي مجرد ضجيج، أم أنها أثر جانبي للتطور، أم أن لها وظائف لا نعرفها بعد؟
سعى فريق بحث في جامعة نيويورك لانغون هيلث للإجابة على هذا السؤال من خلال إنشاء جين اصطناعي كبير، مع رمز الحمض النووي الخاص به بترتيب عكسي من والده الطبيعي. ثم وضعوا الجين الاصطناعي في الخلايا الجذعية للخميرة والفأر، وراقبوا مستويات النسخ في كل منهما.
كشفت الدراسة الجديدة، التي نُشرت في مجلة Nature، أنه في الخميرة ينضبط النظام الوراثي لتُنسخ جميع الجينات تقريبًا بشكل مستمر، في حين أن نفس «الحالة الافتراضية» في خلايا الثدييات هي إيقاف هذا النسخ.
ومن المثير للاهتمام، كما يقول مؤلفو الدراسة، أن الترتيب العكسي للشفرة يعني أن جميع الآليات التي تطورت في الخميرة وخلايا الثدييات لتشغيل النسخ أو إيقافه كانت غائبة لأن الكود المعكوس كان غير موجود. ومع ذلك، مثل صورة معكوسة، يعكس الكود المعكوس بعض الأنماط الأساسية التي تظهر في الكود الطبيعي بالنسبة لعدد مرات وجود حروف الحمض النووي، وما الذي اقترب منه، وعدد مرات تكراره.
نظرًا لأن الكود المعكوس يبلغ طوله 100 ألف حرف جزيئي، فقد وجد الفريق أنه يتضمن بشكل عشوائي العديد من الامتدادات الصغيرة من الكود غير المعروف سابقًا والذي من المحتمل أنه بدأ النسخ في كثير من الأحيان في الخميرة، وتوقف في خلايا الثدييات.
قال المؤلف جيف بوكي، دكتوراه، ومدير معهد سول وجوديث بيرجشتاين لعلم وراثة الأنظمة في جامعة نيويورك لانجون هيلث: «إن فهم اختلافات النسخ الافتراضية عبر الأنواع سيساعدنا على فهم أفضل لأجزاء الشفرة الوراثية التي لها وظائف، وما هي حوادث التطور».
«وهذا بدوره يعد بتوجيه هندسة الخميرة لصنع أدوية جديدة، أو إنشاء علاجات جينية جديدة، أو حتى لمساعدتنا في العثور على جينات جديدة مدفونة في الكود الضخم».
يعطي هذا العمل أهمية للنظرية القائلة بأن حالة النسخ النشطة للغاية للخميرة مضبوطة بحيث يُنسخ الحمض النووي الغريب، الذي نادرًا ما يُحقن في الخميرة على سبيل المثال بواسطة فيروس أثناء نسخ نفسه، إلى الحمض النووي الريبي (RNA). إذا قام هذا الحمض النووي الريبوزي (RNA) ببناء بروتين له وظيفة مفيدة، فسيحافظ التطور على هذا الكود كجينة جديدة.
على عكس الكائن الحي وحيد الخلية في الخميرة، والذي يمكنه تحمل جينات جديدة محفوفة بالمخاطر تدفع التطور بشكل أسرع، فإن خلايا الثدييات، كجزء من الأجسام التي تحتوي على ملايين الخلايا المتعاونة، تكون أقل حرية في دمج الحمض النووي الجديد في كل مرة تواجه فيها الخلية فيروسًا. العديد من الآليات التنظيمية تحمي الكود المتوازن بدقة كما هو.
الحمض النووي الكبير
كان على الدراسة الجديدة أن تأخذ في الاعتبار حجم سلاسل الحمض النووي، إذ يوجد 3 مليارات «حرف» في الجينوم البشري، وبعض الجينات يبلغ طولها 2 مليون حرف. في حين أن التقنيات الشهيرة تمكن من إجراء التغييرات حرفًا تلو الآخر، لكن بعض المهام الهندسية تكون أكثر كفاءة إذا بنى الباحثون الحمض النووي من الصفر، مع إجراء تغييرات بعيدة المدى على مساحات كبيرة من التعليمات البرمجية المجمعة مسبقًا واستبدلوها في خلية مفردة في المختبر بدلاً من نظيرتها الطبيعية.
نظرًا لأن الجينات البشرية معقدة للغاية، فقد طور مختبر بوكي لأول مرة أسلوب «كتابة الجينوم» في الخميرة، ولكنه عدله مؤخرًا ليتوافق مع الشفرة الوراثية للثدييات. يستخدم مؤلفو الدراسة خلايا الخميرة لتجميع تسلسلات طويلة من الحمض النووي في خطوة واحدة، ومن ثم توصيلها إلى الخلايا الجذعية الجنينية للفأر.
بالنسبة للدراسة الحالية، تناول فريق البحث مسألة مدى انتشار النسخ عبر التطور من خلال إدخال امتداد اصطناعي يبلغ 101 كيلو قاعدة من الحمض النووي المُهندس، وهو الجين البشري هيبوكسانثين فسفوريبوزيل ترانسفيراز 1 (HPRT1) بترتيب ذو ترميز عكسي. ولاحظوا نشاطًا واسع النطاق للجين في الخميرة، على الرغم من الافتقار إلى الكود المحفز، وهي قصاصات الحمض النووي التي تطورت للإشارة إلى بدء النسخ.
علاوة على ذلك، حدد الفريق تسلسلات صغيرة في الشيفرة المعكوسة، وامتدادات متكررة من وحدات بناء الأدينوسين والثايمين، المعروفة بأنها يمكن التعرف عليها من خلال عوامل النسخ، وهي بروتينات ترتبط بالحمض النووي لبدء النسخ. وقال المؤلفون إن مثل هذه التسلسلات التي يتراوح طولها من خمسة إلى 15 حرفًا فقط، يمكن أن تحدث بشكل عشوائي بسهولة، وقد تفسر جزئيًا الحالة الافتراضية النشطة للغاية للخميرة.
على العكس من ذلك، فإن نفس الكود المعكوس، الذي أدخل في جينوم الخلايا الجذعية الجنينية للفأر، لم يتسبب في النسخ على نطاق واسع. في هذا السيناريو، قُمع النسخ على الرغم من أن ثنائي النوكليوتيدات CpG المتطورة، المعروفة بإيقاف (إسكات) الجينات، لم تكن فعالة في الكود المعكوس.
ويعتقد الفريق أن العناصر الأساسية الأخرى في جينوم الثدييات قد تقيد النسخ أكثر بكثير مما هي عليه في الخميرة، وربما عن طريق تجنيد مجموعة بروتينية مباشرة معروفة بإسكات الجينات.
«قد يقودنا هذا إلى آفاق جديدة من العلاجات المعتمدة على الخلايا المهندسة، فالقدرة على إدخال حمض نووي اصطناعي أطول ستمكننا من فهم أفضل لما ستتحمله الجينومات المدخلة، وربما إدراج واحد أو أكثر من الجينات الأكبر والمكتملة والمهندسة».
إلى جانب بوكي وكاميلاتو، كان مؤلفو دراسة لانجون في جامعة نيويورك هم ران بروش، وهانا آش، وماثيو مورانو.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org