أثبتت الدراسات إمكانية بعض الجينات في جسم الإنسان لتُعبّر عن وظائفها أو تُكمّمها اعتمادًا على مصدرها، أي ما إذا ورِثت هذه الجينات من الأم أو الأب. تُعرف هذه الظاهرة باسم «البصمة الجينية/النسخ الجيني». تعود آلية عمل هذه الظاهرة إلى تعديلات تحدث على الحمض النووي خلال عملية تكوين البويضات والحيوانات المنوية.
كشف مختبر بورجا في معهد التكنولوجيا الحيوية الجزيئية (آي إم بي إيه) التابع للأكاديمية النمساوية للعلوم عن عملية تنظيم جينية جديدة مرتبطة بتكميم الجينات الأنانية، قد تمثل الخطوة الأولى في تطور النسخ الجيني. يمكن أن يساعد هذا الاكتشاف في حل لغز كيفية تطوّر النسخ الجيني، وفي الإجابة على سؤال: لماذا نشأ لأول مرة؟
في دراسة حديثة نُشرت في مجلة نيتشر، كشف أليخاندرو بورجا وفريقه في معهد التكنولوجيا الحيوية الجزيئية (آي إم بي إيه)، بالتعاون مع مختبر إيال بن ديفيد في الجامعة العبرية، عن أول تأثير لأصل الوالدين في الديدان الخيطية. نُشرت الدراسة في في 6 مارس 2024.
في الكائنات ثنائية الصبغيات، يرث الفرد مجموعة واحدة من الصبغيات من كل والد. مع ذلك، لا يُعبّر عن جميع الجينات الموجودة في هذه الصبغيات بالتساوي. فقد يتم تكميم بعض الجينات اعتمادًا على ما إذا كانت موروثة من الأم أو من الأب. تُعرف هذه الظاهرة باسم النسخ الجيني، وتعتمد على تشفير الحمض النووي، وهي إشارة وراثية فوق جينية، تُمحى وتُكتب من جديد في كل جيل.
نشأت ظاهرة النسخ الجيني بشكل مستقل في كل من الثدييات والنباتات منذ أكثر من 100 مليون سنة. مع ذلك، ما زال تطور هذه الآلية يمثل لغزًا كبيرًا حتى يومنا هذا. يمثل فهم كيفية تطور تأثيرات أصل الوالدين (أصل المنشأ) والتي تمثل الركيزة الأساسية لتطور النسخ الجيني، مفتاحًا لحل هذا اللغز.
منذ ثلاثين عامًا، افترضت دينيس بارلو، رائدة في دراسة النسخ الجيني في معهد علم الأمراض الجزيئي (آي بّي إم) الواقع في مركز فيينا للبيولوجيا، أن ظاهرة النسخ الجيني قد تكون مرتبطةً تطوريًا بآليات دفاع الجينوم التي تُكمّم العناصر الوراثية الطفيلية المُسماة بالعناصر الجينية الأنانية.
تشارك العناصر الأنانية وآليات الدفاع ضدها في سباق تسلح تطوّري، إذ تتطور كل منهما بشكلٍ متزايد لتتفوق على الأخرى. خلال الثلاثين عامًا الماضية، ومنذ طرح دنيس بارلو لنظريتها حول هذه القضية، تمكن الباحثون من الحصول على الكثير من المعلومات حول تكميم العناصر الأنانية، مع ذلك، ما يزال هناك افتقار للرابط المباشر بين آليات الدفاع في الخلايا الجرثومية وبين نشأة تأثيرات أصل الوالدين.
تقدم نتائج مختبر بورجا أول مثال واضح على كيفية نشوء تأثيرات الأصل الوالدين من مسار دفاع الجينوم الصغير المضيف للحمض النووي الريبوزي آر إن إيه. تشير نتائجهم إلى الأصل التطوري المحتمل للنسخ الجيني.
الفضول العلميّ يمهّد الطريق نحو اكتشافات جديدة
في بعض الأحيان، يمكن أن يقودنا الفضول والاهتمام بالتفاصيل المُفاجئة في مجال العلوم إلى مسارات غير متوقعة واكتشافات جديدة. هذا ما حدث عندما كانت المؤلفة الأولى، بينيلوبي بليوتا، تدرس العناصر الجينية الأنانية في نموذج كائن حي جديد من الديدان الخيطية يُسمى كانديدا تروبيكاليس، وهو قريب من جنس الربداء الرشيقة التي نالت النصيب الأكبر من الدراسة.
تُجري الباحثة بليوتا بحثًا حول عناصر السموم والترياق (تي إيه.إس)، وهي نوع من العناصر الأنانية التي طوّرت آلية رائعة لضمان نقلها عبر الأجيال. تشرح بليوتا آلية عمل هذه العناصر بالقول: «عندما تحمل الأم عنصر السموم (تي إيه)، فإنها تسمم بيضها بِسُمٍّ لا يمكن معالجته إلا بترياق موجود أيضًا في عنصر السموم (تي إيه). بالتالي، ستموت جميع الأجيال التي لا ترث عنصر السموم المضادة أو ستعاني تأخرًا بالنمو».
لإنتاج الأمهات التي تمّت دراستها، كانت المجموعة تقوم دومًا بتلقيح أمّ من نوع كانديدا تروبيكاليس تحمل عنصر (تي إيه) مع أب لا يحمله. يشرح أليخاندرو بورجا، المؤلف المراسل للنشر، قائلًا: «سألتني بينيلوبي ما إذا كنا قد أجرينا هذه التهجينات بالطريقة العكسية من قبل».
قاد فضول الباحثة بيلوتا إلى اكتشاف مثير للاهتمام. فقالت: «لقد فوجئنا بإنتاج هذا التهجين المعاكس لأمهات غير قادرات على تسميم بيوضهن. وفجأة، لم يكن هناك أي تأثير على الإطلاق». بسبب هذا النتيجة غير المتوقعة، قرر الفريق دراسة كيفية تأثير توريث الجين (تي إيه) من الأم أو الأب على النتائج المختلفة. وبحسب تصريح بورجا: «أردنا أن نفهم كيف يحدث ذلك، وما هو الأساس الجزيئي لتأثير أصل الوالدين هذا».
كبح المُثبط: رخصة الرنا الرسول الأمومي للتعبير عن السموم
لغرض كشف آلية تأثير أصل الوالدين على التعبير الجيني، قرر فريق بورجا التركيز على دراسة مسار (الرنا باي_piRNA)، الذي يمثل آلية الدفاع الرئيسية للخط الجنسي ضد العناصر الوراثية الأنانية. يعتمد مسار الرنا باي على عمل منسق بين جزيئات الرنا الصغيرة المختلفة والبروتينات لتكميم التعبير عن العناصر الأنانية خلال تطور الخط الجنسي، وذلك ضمانًا لاستقرار الجينوم في عملية التكاثر.
تعاون فريق البحث مع مختبر يوليوس برينيكي في معهد آي إم بي إيه، لتحديد جزيئات الرنا باي والبروتينات التي تلعب دورًا في تكميم عنصر السموم والترياق. مع ذلك، لم تفسر كل هذه العوامل بمفردها النتائج الخاصة بأصل الوالدين التي لاحظها الفريق مسبقًا. افتقد الباحثون لقطعة في هذا اللغز.
لحسن الحظ، كان في جعبة مجموعة بورجا حيلة أخيرة. يوضح بورجا: «لقد كنّا نعلم من الأبحاث السابقة أن الديدان قد طوّرت طرقًا ذكية متنوعة للتمييز بين جيناتها الخاصة والعناصر الغريبة مثل الفيروس أو العنصر الأناني. أدركنا أن العنصر المفقود في هذه الحالة هو الحمض النووي آر إن إيه الأمومي الذي يُحمّل في البيض».
أثبتت الدراسة أن الحمض النووي المرسال للسمّ يترافق مع عنصر (تي إيه) في الوراثة الأمومية. يُعبّر عن هذا الحمض النووي المرسال في الخلايا الجنسية للأم ويُحمّل في البويضة. أظهرت مجموعة بورجا أن هذا الحمض النووي المرسال يميّز عنصر السموم (تي إيه) على أنه خاص لمنع تكميمه بواسطة مسار الرنا باي. يُطلق على هذه العملية اسم ترخيص فوق جيني، ويحدد توازنها مع مسار الرنا باي، ما إذا كان الجين مُعبّرًا عنه أم لا.
من ناحية أخرى، عندما يُورث عنصر السموم من الأب، فإن غياب الحمض النووي المرسال الأمومي عدم وجود ترخيص، الأمر الذي يؤدي إلى تكميم قوي لِجين السموم، ومستويات منخفضة للغاية من السموم المُعبّر عنها. يشرح بورجا أن مسار الرنا باي سيُكمّم جين السموم افتراضيًا ما لم يكن هناك حمض نووي مرسال أمومي يرخصه عن طريق تكميم مسار الرنا باي. هذا هو كبح المُثبط الذي يسبب نشاط جين السموم وتسمم البيض.
تتمثل الظاهرة المثيرة للاهتمام بملاحظة استمرار نمط التكميم هذا قد لأجيال متعددة، ما يعني أن غياب الترخيص في جيل واحد يمكن أن يؤثر حتى على بنات بناتهن. وهذا ليس هو الحال في النسخ الجيني الذي يُعاد ضبطه في كل جيل.
شرح تطور النسخ الجيني
تعزز نتائج مجموعة بورجا الرابط التطوري بين التعبير الجيني الخاص بالوالدين وآليات الدفاع لدى المضيف، وتتبع الأصول إلى الكائنات الحية التي تفتقر إلى مَيْثَلة الحمض النووي والنسخ الجيني التقليدي.
تختلف آليات التكميم الوراثي بين الديدان والثدييات، ومع ذلك، يُؤمن فريق بورجا أن الآلية التي وصفوها قد تُمثل خطوة تطورية أولى للأشكال الأكثر تقدمًا من التكميم الموروث. تتميز هذه الأشكال بتنظيم التعبير عن الجينات الداخلية للخلية، ما يؤدي إلى تطور ظاهرة النسخ الجيني.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org
