تطورت مجتمعات الكائنات الحية الدقيقة في قاع البحيرات القطبية بشكل مستقل عن المناطق الأخرى، متأثرة بالتاريخ الجيولوجي والبيولوجي والمناخي الخاص بمناطقها. يؤكد الطابع الفريد للمجتمعات الميكروبية على الحاجة الملحة لإدراج أشكال الحياة هذه في خطط الإدارة للمناطق القطبية.
أجرى فريق بحث دولي من العلماء بقيادة علماء الأحياء من جامعة غنت ببلجيكا، مع البروفيسور دومينيك هودجسون مسحًا للقارة القطبية الجنوبية، وأخذوا عينات وأجروا تحليلات لتسلسل التنوع البيولوجي والتاريخ التطوري للكائنات الحية الدقيقة في أكثر من 200 بحيرة في القطب الشمالي، وشبه القطب الجنوبي، والقطب الجنوبي.
تُظهر الدراسة الجديدة اختلافات مذهلة في تكوين المجتمعات الميكروبية بين المناطق القطبية، إذ تهيمن مجموعات مختلفة على البحيرات في القطبين الشمالي والجنوبي. يعد عملهم أول دراسة واسعة النطاق للحمض النووي لهذه الميكروبات الفريدة ونُشرت في مجلة Science Advances.
وتتميز المناطق القطبية بظروف معيشية قاسية، مثل درجات الحرارة المنخفضة للغاية وقلة توافر المياه والمواد المغذية. تعتبر البحيرات الموجودة في هذه البيئات القاسية واحات للتنوع البيولوجي والإنتاجية حيث تهيمن الكائنات المجهرية على الحياة.
من المفترض أن الكائنات الحية الدقيقة، بسبب أعدادها الكبيرة وصغر حجم خلاياها، انتقلت من دون عوائق عبر الأرض واستعمرت جميع الموائل المناسبة. اختبر العلماء الآن هذه الفرضية باستخدام الحمض النووي لمقارنة تكوين المجتمعات في أكثر من 200 بحيرة في القطب الشمالي، وشبه القطب الجنوبي، والقطب الجنوبي لتحديد ما إذا كان لديهم نفس التاريخ التطوري.
يقود البروفيسور دومينيك هودجسون فريق الصفائح الجليدية وتغير المناخ في هيئة المسح البريطانية للقارة القطبية الجنوبية، وهو مؤلف مشارك في الدراسة. ويقول: «هذا البحث هو تتويج لسنوات عديدة من أخذ عينات من المجتمعات المجهرية التي يصعب الوصول إليها وتطبيق أحدث التطورات في الحمض النووي».
«إن رؤية دليل على أن الحياة الميكروبية في القطبين تشكلت من خلال عوامل مناخية وبيولوجية خاصة بمناطق فردية، وليس، كما كان يعتقد سابقًا، جزءًا من نفس المسار التطوري العالمي هو أمر يغير قواعد اللعبة».
تغطّت القارة القطبية الجنوبية تدريجيًا بطبقة جليدية منذ أواخر العصر الأيوسيني (قبل 34 مليون سنة)، مما أدى إلى انقراض معظم مجموعات النباتات والحيوانات. وهي معزولة للغاية في نصف الكرة الجنوبي، مما منع هذه المجموعات من إعادة استعمار القارة. من ناحية أخرى، فإن الكتل الأرضية في القطب الشمالي مرتبطة جغرافيًا بشكل كبير ولم تكن مغطاة إلا بالصفائح الجليدية خلال الذروة الجليدية منذ 3.2 مليون سنة مضت.
أدى ذلك إلى اختلافات قوية في التاريخ التطوري للأنواع وتوزيعها الجغرافي في كلا القطبين بالنسبة للحيوانات والنباتات. ومع ذلك، كان يُعتقد أن الكائنات الحية الدقيقة تتحرك بحرية عبر الأرض.
وجدت الدراسة الجديدة مجموعات مختلفة من الكائنات الحية الدقيقة في البحيرات في القطبين الشمالي والجنوبي. ويبدو أن البكتيريا غير المتجانسة، وهي الكائنات الحية الدقيقة التي تتغذى على الكربون العضوي والطحالب أكثر وفرة نسبيًا في القطب الشمالي، في حين أن البكتيريا الزرقاء (وهي الكائنات الحية الدقيقة التي تكتسب الطاقة من عملية التمثيل الضوئي) والطحالب الخضراء هي الأكثر هيمنة في بحيرات القطب الجنوبي. تنوع الأنواع أقل أيضًا في القارة القطبية الجنوبية.
وأظهرت التحليلات أن تشكل القمم الجليدية خلال الفترات الجليدية التاريخية تسبب في اختفاء عدة مجموعات من الكائنات الميكروبية من القارة القطبية الجنوبية. وتمكن الفريق من إثبات أن المجموعات التي نجت يمكن أن تتطور بمعزل عن بعضها البعض. وبهذه الطريقة، أدى نوع السلف المشترك إلى ظهور العديد من الأنواع الفرعية والأصناف التي يقتصر توزيعها على القارة القطبية الجنوبية.
وحتى على المستويات التطورية العميقة، يبدو أن العديد من الأنساب الجينية قديمة العهد والفريدة من نوعها موجودة في القارة القطبية الجنوبية. يدل ذلك على أن الحركة بين القطبين على فترات زمنية طويلة محدودة إلى حد ما وأن المحيط الجنوبي يشكل أيضًا حاجزًا رئيسيًا أمام الكائنات الحية الدقيقة.
إن الطابع الفريد للمجتمعات الميكروبية في هذه البحيرات القطبية هو حجة قوية لحماية هذه الموائل بشكل أفضل ضد التأثير البشري من خلال زيادة الاستغلال السياحي للقارة القطبية الجنوبية.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org