لقد أدت جائحة الطاعون الثاني في منتصف القرن الرابع عشر، والمعروفة أيضًا باسم الموت الأسود، إلى مقتل ما بين 30% إلى 60% من سكان أوروبا وغيرت مسار التاريخ الأوروبي بشكل هام. يشير بحث جديد أجرته ولاية بنسلفانيا وجامعة أديلايد إلى أن هذا الطاعون، ربما من خلال التغييرات الناتجة في النظام الغذائي والنظافة، قد يرتبط أيضًا بتحول في تكوين الميكروبيوم البشري الفموي، والذي له دور في حدوث بعض الأمراض المزمنة في العصر البشري الحديث.
قالت لورا ويريش، الأستاذة المساعدة في الأنثروبولوجيا في ولاية بنسلفانيا: «ترتبط الميكروبيومات الحديثة بمجموعة واسعة من الأمراض المزمنة، بما في ذلك السمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية وضعف الصحة العقلية. قد يساعد الكشف عن أصول هذه المجتمعات الميكروبية في فهم هذه الأمراض وعلاجها».
وفقًا لويريش، يُعتقد أن التغييرات الغذائية أثرت على تطور الميكروبيوم الفموي عبر الزمن؛ ومع ذلك، ركزت بعض الدراسات على فحص تاريخ الميكروبيوم البشري الفموي بشكل مباشر في مجموعة سكانية واحدة.
وأشارت ويريش إلى أن بعض الدراسات استخدمت الميكروبات الحيوية للسكان الأصليين الذين يمارسون أنماط حياة الكفاف التقليدية، إذ يمكن اعتبار أن هذه الأنماط تشكل بديلًا عن الميكروبات الحيوية للشعوب ما قبل الصناعية. ولكن بحسب وصفها، فإن هذه الاستراتيجية خاطئة؛ لأن هؤلاء السكان الموجودين في عصرنا الحديث قد لا يكون لديهم ميكروبات تعكس بدقة تلك التي كانت موجودة في أسلاف الشعوب الصناعية.
بالإضافة إلى ذلك، قالت: «يضع هذا البحث مسؤوليات والتزامات غير ضرورية على مجتمعات السكان الأصليين للمشاركة في أبحاث الميكروبيوم، إذ لا تقدم هذه الدراسات فوائد للشعوب الأصلية بشكل مباشر».
الطريقة الأكثر دقة ومسؤولة أخلاقيًا هي الفحص المباشر للميكروبات الفموية المحفوظة داخل لوحة الأسنان المتكلسة، المعروفة باسم الجير، من أسلاف الأشخاص الصناعيين بإذن وتعاون من السكان المتوفين. في أكبر دراسة حتى الآن على جير الأسنان القديمة، جمعت ويريش وزملاؤها موادًا من أسنان 235 شخصًا دُفنوا في 27 موقعًا أثريًا في إنجلترا واسكتلندا منذ حوالي 2200 قبل الميلاد حتى عام 1853 م.
ونشرت النتائج في مجلة Nature Microbiology.
عالج الباحثون عينات الحمض النووي القديم في مختبر شديد التعقيم لتقليل التلوث. حددوا 954 نوعًا ميكروبيًا وحددوا أنها تقع ضمن مجتمعين متميزين من البكتيريا، أحدهما يهيمن عليه جنس العقدية وهو شائع في الميكروبيوم الفموي للشعوب الصناعية الحديثة، والآخر يهيمن عليه جنس الميثانوبريفيباكتر، الذي يعتبر الآن منقرضًا إلى حد كبير في الشعوب الصناعية الأصحاء.
ومن خلال استكشاف أصول هذين المجتمعين، وجد الفريق أن حوالي 11% من إجمالي التباين في تكوين أنواع الميكروبيوم يمكن تفسيره بالتغيرات الزمنية، بما في ذلك وصول جائحة الطاعون الثاني. ولكن كيف يمكن أن تساهم جائحة الطاعون الثاني في إحداث تغييرات في الميكروبيوم الفموي؟
قالت ويريش: «إننا نعلم أن الناجين من جائحة الطاعون الثاني حصلوا على دخل أعلى وكان بإمكانهم شراء الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية. من المحتمل أن يكون الوباء قد أحدث تغييرات في النظام الغذائي للناس والتي بدورها أثرت على تكوين الميكروبات الموجودة في الفم».
استخدم الفريق نهجًا جديدًا للتحقيق فيما إذا كان التغيير في النظام الغذائي قد أثر على ظهور مجموعة المكورات العقدية وانقراض مجموعة الميثانوبريفيباكتر. وجمّعوا قائمة من الاختلافات الوظيفية بين البكتيريا في المجموعتين والتي يمكن ربطها بالنظام الغذائي، مثل الوظائف المرتبطة بهضم الأطعمة الغنية أو الفقيرة بالألياف، واستقلاب الكربوهيدرات، واستقلاب اللاكتوز، وهو سكر موجود في الحليب.
ووجد الباحثون أن البكتيريا الموجودة في المجموعة التي تهيمن عليها المكورات العقدية لديها سمات وظيفية أكثر ترتبط بشكل كبير بالأنظمة الغذائية منخفضة الألياف وعالية الكربوهيدرات، بالإضافة إلى استهلاك الألبان، وكلها سمات الأنظمة الغذائية الحديثة. على النقيض من ذلك، كانت المجموعة التي تهيمن عليها بكتيريا الميثانوبريفيباكتر تفتقد السمات المرتبطة باستهلاك الألبان والسكر، والتي ميزت النظام الغذائي لبعض البشر القدماء.
وتوصل الفريق كذلك إلى أن مجموعة المكورات العقدية كانت مرتبطة بوجود أمراض اللثة، والتي تتميز بإنتانات والتهابات في اللثة والعظام حول الأسنان. عندما يتطور المرض، يمكن للبكتيريا أن تدخل مجرى الدم عبر أنسجة اللثة ويحتمل أن تسبب أمراض الجهاز التنفسي، والتهاب المفاصل الروماتويدي، وأمراض الشريان التاجي، ومشاكل السكر في الدم لدى مرضى السكري. من ناحية أخرى، ارتبطت مجموعة الميثانوبريفيباكتر بوجود أمراض الهيكل العظمي.
وقالت ويريش: «يشير بحثنا إلى أن الميكروبات الموجودة في الفم في العصر الحديث قد تعكس التغيرات السابقة في النظام الغذائي، الناتجة عن جائحة الطاعون الثاني. والأهم من ذلك أن هذا العمل يساعد في إثراء فهمنا للأمراض المزمنة وغير المعدية في العصر الحديث».
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org