تعتبر أفريقيا، حيث تطور البشر لأول مرة، أرضًا تنطوي على تنوعات كبيرة. ولدى تعمقنا في هذا التنويع، تحليل جديد لـ 180 فردًا من المجموعات الأصلية الأفريقية المتباينة إثنيًا وثقافيًا وجغرافيًا ولغويًا عمل عليه فريق عالمي من العلماء لتقديم فهم أعمق لتاريخ وبيولوجيا البشر ومن شأنه أن يغني المقاربات العلاجية الدقيقة في المستقبل.
يوضح البحث تاريخ هجرة البشر القديم والحديث منه ويقدم دليل جيني على التكيفات في البيئات المحلية المتجلية في سمات كلون البشرة ونماء القلب والكلية والمناعة ونمو العظم.
تقدم النتائج المنشورة في مجلة Cell بقيادة علماء من جامعة بنسلفانيا تطبيقات لفهم الحالات المرضية الشائعة لدى الشعوب الأفريقية الأصل. ونظرًا للحضور المتواضع للشعوب الأفريقية في الدراسات الجينومية، فإن هذا البحث يوسع معرفتنا حول التنوع الجيني البشري.
كشف البحث عن الملايين من التنويعات الجينية الجديدة المعروفة باسم تعدد أشكال النوكليوتيد المفردة (SNPs) – الاختلافات في “جذر” واحد من تسلسل الحمض النووي – بما في تنويعات عديدة يبدو أنها تلعب دورًا في الصحة، ما يضع الأساس لاستفادة شريحة أوسع من الناس من الطب الدقيق على أساس الفروق الفردية.
تقول سارة تيشكوف، أستاذة برنامج تكامل المعارف بجامعة بنسلفانيا والباحثة الرئيسية في الدراسة: «ثمة نقص في المعرفة حول التباين الجيني في السكان الأفارقة، لا سيما في المجموعات السكانية المتنوعة إثنيًا». وتضيف «نحن نركز على المجموعات التي تتبع أنماط حياة تقليدية، وتعيش في مناطق نائية يصعب الوصول إليها، وبعضها لم تُدرس قبلًا من هذا المنظور».
الأصول والهجرات
حصل الباحثون على تسلسل الجينوم الكامل لـ 180 فردًا، أي 15 فردًا من كل مجموعة من المجموعات الأصلية الاثنتي عشر. هذه الدراسة هي الأولى التي تنتج تسلسلًا جينوميًا كاملًا لمزيج متنوع وراثيًا كهذا من المجموعات الأفريقية.
يقول ألفريد نجامنشي، أستاذ في جامعة ياوندي الأولى بالكاميرون ومؤلف مشارك في الدراسة «من منظور طبيب وعالم أفريقي، يوضح عملنا أهمية التعاون العلمي طويل الأمد ويسلط الضوء على الحاجة الملحة لإدراج المزيد من السكان الأفارقة في الدراسات الجينية».
«لو أن البشر جميعهم قد هاجروا من إفريقيا، كما تشير الأدلة المتزايدة، فمن المتوقع ببساطة بذل المزيد من الجهود والموارد في دراسة علم الوراثة البشرية لدى الأفارقة لفهم علم الوراثة البشرية إلى جانب علم وظائف الأعضاء وعلم الأمراض البشرية بشكل عام، وهو أساس العلاجات الدقيقة».
تمارس المجموعات الاثنتي عشرة، أو أنها مارست حتى وقت قريب، سبل العيش التقليدية: الزراعة أو رعي الماشية أو الصيد والالتقاط. تضم معًا ممثلين من كل من العائلات اللغوية الأربع المختلفة الموجودة في إفريقيا: المجموعات الإفريقية الآسيوية، النيلية الصحراوية، النيجرية الكنغوية، والكويسان.
صاغ الفريق شجرة عائلية عالمية عبر تنسيق تسلسلات الجينوم الجديدة من هؤلاء السكان الأفارقة مع جينومات أخرى مسلسلة سابقًا من مجموعات سكانية في جميع أنحاء العالم.
تقول تيشكوف: «إن استنباط التاريخ الديموغرافي الأفريقي يمثل تحديًا كبيرًا نظرًا لتعقيده الشديد ». وتضيف «ولكن مع نماذجنا القائمة على أنماط مشتركة من التباين الجيني، يمكننا استنتاج توقيت اشتراك المجموعات السكانية بسلف مشترك، حتى عند حساب انسياب المورثات – أي المجموعات السكانية المهاجرة ذهابًا وإيابًا والمتزاوجة فيما بينها».
عندما طبق الفريق انسياب الجينات في نماذجهم، لاحظوا في جذور الشجرة ظهور مجموعة سان الجنوب إفريقية الناطقة باللغات الخويسانية، بالإضافة إلى مجموعة الصيادين-الملتقطين قاطني الغابات المطيرة وسط إفريقيا. تقول تيشكوف: «إنها نتيجة جديدة». أشارت التحليلات السابقة إلى مجموعة السان فقط على أنها مجموعة تنحدر من المجموعات السكانية القديمة.
ووجدوا أيضًا أن مجموعات السان والصيادين الملتقطين في وسط إفريقيا قد انفصلت عن بعضها البعض وعن مجموعات سكانية أخرى معروفة منذ أكثر من 200000 عام.
كشفت نماذج النسل السكانية عن دليل على وجود مجموعة سكانية منقرضة حاليًا ربما تكون قد تزاوجت مع مجموعات أخرى آنذاك. تقول تيشكوف: «ليس لدينا حمض نووي قديم من الأحافير لأنها ضعيفة الحفظ في البيئة الأفريقية، ولكن أحد التفاسير ينص على احتمالية اختلاط مع مجموعة قديمة».
تعزز النتائج نظريات هيكلية المجموعات السكانية المدعمة باللغويات. ناقش اللغويون الارتباط الوثيق للمجموعات الناطقة باللغة الخويسانية التي تشترك لغاتها بنقرات صامتة وإنما متفردة للغاية في بخصائصها الأخرى. رغم تباين هذه المجموعات منذ عشرات آلاف السنين، ثمة دليل على احتمالية اشتراكها جميعًا بأصل مشترك في شرق إفريقيا، وأنها تعرضت لانسياب مورثات أحدث خلال الـ 10000 عام الماضية وفقًا للنتائج الجينومية.
تقول تيشكوف «إن اقتراحنا يقول باحتمالية وجود أصل شرق أفريقي لهذه المجموعات الناطقة باللغات ذات النقرات، وربما مجموعات الصيادين الملتقطين في الغابات المطيرة أيضًا، على الرغم من فقدان لغتهم الأصلية منذ ذلك الحين وتبنيهم لغة المجموعات المجاورة الناطقة بالبانتو».
وتضيف «ربما تباعدت المجموعات في اتجاهات مختلفة، إذ بقي الهادزا والساندواي (متحدثون بالخويسانية من تنزانيا) مكانهم وتوجهت مجموعة السان جنوبًا (متحدثون بالخويسانية من بوتسوانا)». ومع ذلك يشير تحليل الحمض النووي الحديث والقديم إلى وجود انسياب مورثات بين أسلاف الهادزا والسانداوي وأسلاف السان، ما قد يفسر بعض أوجه التشابه في لغتهم.
التنوع الجيني البشري المفهوم حديثًا
حددت الجينومات المتسلسلة حديثًا 32 مليون SNPs، من ضمنها أكثر من 5 ملايين تنويع لم يُفهرس من قبل.
يقول المؤلف المشارك للدراسة توماس بي نيامبو من جامعة كمبالا الدولية في تنزانيا: «لقد ألقت هذه التنويعات الجينية ضوءًا جديدًا على أهمية توسيع الدراسات الجينية في المناطق التي تم تهميشها سابقًا في جميع أنحاء العالم». ويضيف «هذا الطريق الصحيح لتوضيح الاتجاهات التطورية وآثارها في التشخيص والعلاجات الخاصة».
عندما قام فريق البحث بمراجعة تنوعيات SNPs المحددة مسبقًا مع تلك الموجودة في قاعدة بيانات مستخدمة على نطاق واسع للدراسات السريرية، اكتشفوا أن العديد من المتغيرات الموجودة في الأفراد الأفارقة في الدراسة قد صُنفت على أنها تنويعات جينية مرضية.
يقول شاوهوا فان مؤلف الدراسة الرئيسي الذي أكمل درجة ما بعد الدكتوراه في جامعة بنسلفانيا ويعمل حاليًا في جامعة فودان الصينية: «هذا لا يعني أن المجموعات السكانية الأفريقية تمتلك تنويعات (مرضية) أكثر». يضيف «بدلاً من ذلك، يؤكد على الحاجة القوية لإدراج مجموعات متنوعة عرقيًا في الدراسات الجينية البشرية، خاصة وأن الندرة تعتبر أحد معايير تحديد إمراضية التنويع الجيني في الدراسات السريرية».
بعبارة أخرى، ربما تم تصنيف بعض هذه المتغيرات بشكل خاطئ على أنها مرضية لأنها كانت غير شائعة في مجموعات سكانية أخرى، مثل الأوروبيين، الذين يهيمنون على قواعد البيانات السريرية.
يقول سونوغوكو واتا مبولوكا من جامعة بوتسوانا: «استُخدم التقييم الشامل للمتغيرات الجينية كاستراتيجية لدراسة الأمراض البشرية، ويوفر قوة هائلة لتحديد المواقع الجديدة المرتبطة بالاستعدادية للمرض وتفاقمه». ويضيف «إن تضمين السكان الأصليين الذين لم يُدرسوا جيدًا كالمجموعات من بوتسوانا في مثل هذه الدراسات سيساهم بشكل كبير في فهم العلاجات الدقيقة ويمكن أن يؤدي إلى عقاقير مصممة خصيصًا لهذه المجموعات السكانية».
قد تلعب بعض هذه المتغيرات بالفعل دورًا مهمًا في الصحة والمرض. لفهم هذه العلاقة، قارن الباحثون الطفرات بقواعد البيانات الحالية والدراسات المنشورة، وبحثوا أيضًا لمعرفة ما إذا كانت الاختلافات قد حدثت في مناطق ترميز البروتينات أو في المناطق التي يمكن أن تنظم التعبير الجيني للمسارات والعمليات ذات الصلة بيولوجيًا.
فتش العلماء أيضًا عن أليلات طفرة تتواجد بتواترات متباينة في مجموعات سكانية مختلفة. قد تنشأ هذه الاختلافات لأن الأليلات تلعب دورًا في التكيف المحلي مع البيئات المتنوعة وتُختار إيجابيًا، على الأرجح لأنها تمنح بعض المزايا لحامليها.
ظهرت العديد من المتغيرات البارزة من هذه التحليلات. وجد الفريق لدى مجموعات سان في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، أعدادًا كبيرة من تنويعات SNPs بالقرب من جين PDPK1 والذي أظهر علماء آخرون أنه يلعب دورًا في التصبغ لدى الفئران.
يقول يوانتشينغ فينغ باحث ما بعد الدكتوراه في مختبر تيشكوف ومؤلف مشارك في الدراسة: «بناءً على الدراسات السابقة في مختبرنا، نعلم أن مجموعة سكان سان ذات لون بشرة فاتح نسبيًا مقارنة بالسكان الأفارقة الآخرين». ويضيف «وبالتالي، افترضنا أن تنويعات SNPs القريبة من جين PDPK1 قد تؤثر على التصبغ لدى البشر».
لتوليد أدلة ميكانيكية لهذه الفرضية، اختبر الباحثون تأثير أحد هذه التنويعات الذي ثبت شيوعه لدى مجموعة سان على خلايا الجلد المزروعة في طبق بتري. ووجدوا أن تثبيط المنطقة التي تحتوي على المتغير قد بدل مستويات التعبير عن PDPK1 وقلل من مستويات صبغة الميلانين في خلايا الجلد المزروعة في المختبر.
أظهرت الدراسة وجود روابط أخرى مع الصحة والأداء الوظيفي. وجد تحليل الفريق عددًا كبيرًا من المتغيرات بالقرب من الجينات المرتبطة بنمو العظام في مجموعات الصيادين الملتقطين في وسط إفريقيا. تشتهر هذه المجموعات بقصر القامة التي يُعتقد أنها مفيدة لبيئة الغابات المطيرة الكثيفة.
في المجموعات الرعوية من شرق إفريقيا، اكتشف الفريق تركيز عالي للمتغيرات القريبة من الجينات التي تلعب دورًا في نمو الكلى ووظيفتها، وهو ربما تكيف مع نمط العيش في ظروف قاحلة. ووجد الفريق لدى مجموعة الهادزا من الصيادين الملتقطين في شرق إفريقيا، تركيزًا فريدًا للمتغيرات بالقرب من الجينات التي تلعب دورًا في نمو القلب.
تقول تيشكوف «يتابع مختبري الآن البحث ببعض هذه الجينات لمعرفة ما إذا كان بإمكاننا التعرف على جينات نمو عضلة القلب».
«إذا فهمنا كيفية تنظيم هذه الجينات، فقد يعطينا ذلك فكرة عن سبب ميل إصابة البعض بأمراض القلب والأوعية الدموية. لفهم الوظيفة غير الطبيعية، علينا أولاً أن نفهم الوظيفة الطبيعية، ثم نتكهن بوجود سلوك معين في أنماط حياة هؤلاء الأفراد – كالاضطرار للمشي لمسافات هائلة – قد دفعهم ربما لتغييرات معينة في تطور وعمل القلب».
بالإضافة إلى ذلك، وجد الباحثون متغيرات جينية تتعلق بتنظيم ضغط الدم لدى الأشخاص من أصول نيلية كونغوية، وهي مجموعات من غرب إفريقيا تشترك في أصولها مع الأشخاص الذين ينحدر منهم معظم الأمريكيين الأفارقة.
تقول تيشكوف: «نسبة عالية من الأشخاص من أصول أفريقية في الولايات المتحدة يعانون من ارتفاع التوتر الشرياني والسكري، ويعود هذا إلى حد كبير إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية». وتضيف «ولكن قد تكون هناك بعض عوامل الخطر الجينية التي تؤثر جنبًا إلى جنب مع البيئة التي يعيشون فيها على مخاطر إصابتهم بالمرض. بعضها حسنة التكيف في بيئة أفريقية وبعضها الآخر عصية عليه في بيئة الولايات المتحدة».
قد تساعد البيانات الجديدة هذه يومًا ما في توجيه مناهج العلاج الدقيق المعتمد على فهم كيفية تأثير الجينات والاختلافات الفردية الأخرى على مخاطر الإصابة بالأمراض والاستجابة للأدوية وغيرها.
تضيف تيشكوف «ثمة قدر هائل من التباين الجيني في إفريقيا لم يتم تمييزه جيدًا بعد». وتتابع «نريد التأكد من استفادة جميع السكان من الثورة الجينومية، ونريد تعزيز العدالة الصحية وبالتالي نحتاج إلى تضمين المزيد من المجموعات السكانية المتنوعة في هذه الدراسات».
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: phys.org