تبدي جمجمة أحفورية تعود لقريب قديم من ذوي الأسنان للطيور الحالية سمات الجماجم الحديثة طارحةً تساؤلات جديدة حول التطور المبكر للطيور.
من المحتمل أن أوائل الطيور كانت شبيهة بالطيور الحديثة أكثر مما اعتقده العلماء سابقًا – وهذا اكتشاف من شأنه أن يثير عدة أسئلة حول فترة مبهمة في التاريخ التطوري.
تشعبت أوائل الطيور من ديناصورات وحشيات الأرجل ثنائية الأرجل منذ نحو ١٦٥-١٥٠ عام خلال الفترة الجوراسية وفقًا لورقة بحثية منشورة عام ٢٠١٥ في مجلة Current Biology. عايشت أوائل الطيور الديناصورات أيضًا خلال العصر الطباشيري. وبعد الانقراض الجماعي الذي مسح الديناصورات غير الطائرة عن وجه البسيطة منذ حوالي ٦٦ مليون سنة، باشرت الطيور مسارها التطوري (إذ كانت متمرسة مسبقًا بالطيران)
بيد أن تحقيق فهم أعمق لسير تلك العملية التطورية هدف صعب المنال نتيجة شح أحافير الطيور من العصر الطباشيري الذي يعتبر فترة مهمة من تاريخ الطيور لأن الكويكب الذي قضى على الديناصورات قد أباد معها العديد من سلالات الطيور القديمة، تاركًا الطيور الناجية فقط لتمهد لظهور الطيور الحديثة. هذا كله يترك إشارات استفهام حول هيئة الطيور الأولى قبل عملية الغربلة الانقراضية هذه.
يقول دانيل فيلد، عالم إحاثة متخصص بالفقاريات بجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة «إن هذا الحدث بالغ الأهمية فيما يتعلق بتاريخ الطيور التطوري، لأنه حدد أي من سلالات الحيوانات الشبيهة بالطيور جديرة بالبقاء».
وهنا يظهر على الساحة اكتشاف جديد على يد فيلد وزملائه: Janavis finalidens طائر ذو أسنان بحجم النسر غير مرتبط مباشرةً بأي من الطيور الحديثة لكنه كان وثيق القرابة بأسلافها في نهاية عصر الديناصورات. فاجأت الجمجمة الغريبة لهذا النوع المكتشف حديثًا فيلد وفريقه: إذ أن عظم حنك هذا الطير (الذي يقابله سقف الحنك لدى البشر) غير ملتحم ما يمنحه منقار علوي متحرك شبيه بمنقار البط الحديث.
كان ذلك مفاجئًا لأن العلماء اعتقدوا بأنه كان لأكثر الطيور بدائيةً عظم حنك ملتحم ومناقير علوية ثابتة كتلك الخاصة بالإيمو والنعام.
تقترح النتائج الجديدة المنشورة في ٣٠ نوفمبر في مجلة Nature فرضية بديلة مفادها أن أوائل الطيور قد بدت كما الطيور الحديثة وأن مناقير الإيمو والنعام «البدائية» قد تطورت لاحقًا.
تقول جينغماي أوكونور، المشرف المساعد على قسم الزواحف الأحفورية في متحف فيلد، شيكاغو، «إنها معلومة جديدة مثيرة للاهتمام تزيد من تعقيد الصورة العامة، لكننا عاجزين عن تأكيد دلالتها في الوقت الحالي». يدرس أوكونور الانتقال من طور الديناصورات إلى طور الطيور لكنه لم يكن من المشاركين في البحث الجديد.
عظمة واحدة
بغية فهم السبب الكامن وراء غرابة الطير الذي يشير إليه فيلد باسم جانافيس، علينا أولًا معرفة القليل حول تاريخ علم الطيور. في منتصف القرن التاسع عشر، قسّم عالم الأحياء البريطاني، توماس هكسلي (المعروف بإخلاصه لداروين وترويجه للنظرية التطورية) قسّم كافة الطيور مستخدمًا البيانات المتاحة له آنذاك إلى مجموعتين من الأسلاف: مجموعة «الفك القديم» أو قديمات الفك والتي امتلكت منقارًا ثابتًا شبيه بحنك النعام; ومجموعة «الفك الحديث» أو حديثات الفك التي امتلكت عظم حنك متحرك شبيه بحنك البط.
مهد عظم الحنك المتحرك لظهور المنقار المتحرك، ولهذا السبب افترض العلماء أن الطيور «حديثة الفك» غير الملتحم جاءت كنتيجة تطورية عن أسلافها «قديمات الفك» البدائية. تكون الطيور ذات المناقير المتحركة أمهر بالإغواء وإطعام صغارها وبناء أعشاشها وبعض المهام التي تتطلب الدقة والبراعة.
بيد أن هذه القصة المتماشية مع التحسن التطوري غير صحيحة لسوء الحظ. في تسعينيات القرن العشرين، اكتشف علماء الإحاثة قطعة صخرية بحجم الكرة اللينة حاوية على طيور متحجرة من العصر الطباشيري في مقلع للحجارة في بلجيكا. ولم يستطع أحد لعقود عديدة تفسير هذا النوع. بيد أن فيلد وفريقه، وباستخدام تقنية التصوير الطبقي المحوسب لرؤية داخل الأحفورة دون إتلافها، أيقنوا أنها تحوي شيء مثير للاهتمام: عظام جمجمة. وعلى وجه الخصوص، عظم موصوف سابقًا على أنه كتف طير كان في الواقع جزء من عظم الحنك.
تلك العظمة كشفت بمفردها أنه كان للجانافيس، الذي عاش منذ ٦٦.٧ مليون سنة، عظم حنك «حديث».
يقول فيلد: «ما تقترحه هذه النتائج أنه كان للأسلاف الأوائل لحديثات وقديمات الفك على حد سواء عظم حنك متحرك على الأرجح»
سلالات مختلطة
من المحتمل إذًا أن الطيور جميعها قد ابتدأت بما يسميه العلماء «الفك الحديث» مع وجود بعض السلالات التي اكتسبت سمة الفك «البدائي» في وقت لاحق.
تقول أوكنور لموقع live science «بيد أن ذلك ليس الاحتمالية الوحيدة». يعتبر العلماء حاليًا الطيور ذات «الفك الحديث» وذات «الفك القديم» جزءًا من المجموعة الشاملة نفسها. تضيف أيضًا «ثمة فكرة ابتداعية تفيد أنه لربما الطيور ذات الفك القديم قد تطورت بشكل منفصل عن سلف ذي جذور عميقة ومختلف عن الطيور ذات «الفك الحديث». وفي تلك الحالة، فإن السلف مشترك الأخير لكلا المجموعتين يمكن أن يكون أقدم مما اعتقده العلماء سابقًا.
تقول أوكنور «قد يكون من الجدير إعادة فحص بعض أحافير الطيور بُعيد اصطدام الكويكب، في ضوء النتائج الجديدة، لفهم أفضل لتشريح جماجمها». تضيف أيضًا «من المفيد أيضًا العثور على المزيد من الأدلة على الأحافير من العصر الطباشيري».
يخطط فيلد وفريقه للتعمق أكثر في دراسة جانافيس.
يقول فيلد «سنستمر بالتمحيص بتشريح جانافيس لنلقي المزيد من الضوء على ماهية بيولوجيته. والإجابة على هكذا أسئلة من شأنها أن تساعدنا على فهم بشكل مفصل أكثر وراء الانقراض التام لسلالات الطيور ما قبل الحديثة إبان ضربة الكويكب».
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: livescience