هناك الكثير من تسليط الضوء في الإعلام على الطاعون الدملي والحمض النووي من حقبة سحيقة. أفرد موقع Evo in the News («التطور في الأخبار») مؤخراً مساحةً لتغطية عملية بحث عن حمض نووي من باكتيريا الطاعون، والمسماة اليرسينية الطاعونية، في قبور تعود للقرن الرابع عشر. واحتفينا في الشهر الفائت بفوز سفانته بابو بجائزة نوبل عن عمله على الحمض النووي العائد لعصور قديمة، ونتقصى في الشهر الحالي تحرياً آخراً عن حمض نووي مستخرج من عصر الموت الأسود، وهي فاشية مميتة من الطاعون على نحوٍ خاص، للإضاءة على الأثر الذي تركته الجائحة على رسم مسار التطور البشري.
أين هو التطور؟
يعرف التطور الصغري بأنه تحولٌ في تواتر النسخ الجينية (والمعروفة أيضاُ بالألائل) من جيل لأخر. ففي جيل معين، يقوم 2% من الألائل في مجموعة ما بالتشفير لنسخة من بروتين ذي إلتفاف غير مألوف، إلا أنه بعد عشرين جيل، يشفر 12% من الألائل لهذا البروتين الملتف. وهذا بإختصار شديد ماهية التطور.
من السهل فهم كيف يمكن للانتقاء الطبيعي بأن يتسبب بمثل هذا التطور. تخيلوا على سبيل المثال إمكانية أن يقوم البروتين الملتف بمساعدة البشر على النجاة من عدوى منتشرة. لدى الشباب الحاملين للألائل الخاصة بالبروتين الملتف إمكانية أعلى للنجاة من الجائحة ولإنجاب الأولاد فيما بعد، وهم بدورهم يرثون على الأرجح الألائل من والديهم. يميل تواتر الألائل إلى الزيادة جيلاً بعد جيل طالما تسبب العدوى وفيات مبكرة عند غير الحاملين للبروتين الملتف.
تشكل الأمراض الفتاكة والمعدية محركاً أساسياُ للانتقاء الطبيعي في المجتمعات البشرية على نحوٍ يفضل النسخ الجينية التي تزيد من إمكانية النجاة والإنجاب وبذات الوقت الحد من تواتر النسخ الأخرى. فكلما زاد فتك المرض وانتشاره، كلما فاضل الانتقاء الألائل المقاومة والوقائية على نحوٍ أكبر. يتمايز الموت الأسود في التاريخ البشري المدون كمحفز للتطور البشري، وهو كان المسبب بوفاة 60% من سكان غرب أوروبا وآسيا في أقل من عشر سنوات في القرن الرابع عشر.
تشكل دراسة حوادث الإنتقاء الطبيعي الضارية الماضية، كجائحة الموت الأسود، تحدياً لعلماء الأحياء. فكيف لنا إعادة تركيب الملف الجيني المتبدل لجمهرة ما إن وقع هذا برمته منذ مئات السنين؟ حاول العلماء الإجابة عن هذا التساؤل بمقارنة التشكيل الجيني لجمهرات حديثة مختلفة، اختبرت بعضها الانتقاء ماضياً أم سواها فلا. كما درسوا الجينومات الحديثة لبرهان أن تسلسلاً جينياً معيناً ازدادت وتيرته على نحوٍ سريع وزادت معه الألائل المجاورة. يسمح التقدم في إمكانية استخراج وإعادة تشكيل تسلسل الحمض النووي القديم في وقتنا الراهن بالمعاينة المباشرة لجينات جمهرة ما قبل وخلال وبعد وقوع حدث تاريخي – على الأقل في حالات معينة. وهي المقاربة التي اتبعها مؤخراً فريقٌ دولي من الباحثين لدراسة التطور البشري خلال حقبة الموت الأسود.
قام هذا الفريق باستخراج الحمض النووي من رفات بشرية في مقابر قديمة في كلٍ من لندن والدنمارك. وتمكنوا من الحصول على حمض نووي من 360 شخصاً توفوا بين عامي 1000 و1600 ميلادية، وهي عينة كافية لتكوين فكرة عن كيفية تغير تواترات الألائل في الجمهرة خلال تلك الفترة. ركز الباحثون تقصيهم على أجزاء الجينوم المتعلقة بالجهاز المناعي والاعتلالات المناعية على أساس التعليل بأن الدور المركزي للجهاز المناعي في الدفاع عن الجسم من الباكتيريا يجعل من مساحات الحمض النووي هذه مرشحاً محتملاً للإنتقاء الطبيعي بالطاعون. بحث هؤلاء عن حالات إزداد أو تناقص فيها تواتر الألائل على نحوٍ أكثر تطرفاً من نظيراتها التي يعتقد بأن لا تأثير لها على الصحة البشرية. وتمايزت حالات أربع: ففي ثلاث مناطق، إزداد تواتر إحدى المتغيرات بسرعة، وفي منطقة واحدة أصبحت الألائل أكثر ندرة على مدى الجائحة.
طابق التحول السريع والملموس في أربع متغيرات جينية النمط الذي نتوقعه في الجينات المشكلة بالانتقاء الطبيعي خلال حقبة الطاعون الدملي. بالطبع من الممكن بأن التحول الملحوظ يعود لعامل انتقائي غير اليرسينية الطاعونية. قام علماء الأحياء – بهدف تحري العلاقة بين هذه المناطق الجينية والطاعون على وجه الخصوص، بإجراء تجارب مخبرية أظهرت بأن مساحات الحمض النووي الأربع هذه ضالعة استجابة الخلايا المناعية للعدوى بباكتيريا الطاعون.
كان الدليل الخاص بإحدى هذه المناطق مقنعاً على وجه التحديد. في إحدى الدراسات، قام متطوعون بألائل مختلفة في هذه المنطقة بوهب نوعاً محدداً من الخلايا المناعية تقوم بمحاصرة وإبادة الممرضات المهاجمة. يملك البشر عادة نسختين من كل جين، تكون كل نسخة منها موروثة من إحدى الوالدين. لذا حمل بعض الواهبين نسختين من الألائل المفضلة من الانتقاء الطبيعي كما يبدو، في حين حمل آخرون أليل واقٍ واحد وآخر مستضعف، وكان عند مجموعة ثالثة من المتبرعين نسختين من الأليل المستضعف. عرض الباحثون هذه الخلايا المناعية الموهوبة لباكتيريا الطاعون ثم قاسوا قدرة هذه الخلايا على القضاء على الباكتيريا. وعلى نحوٍ متوقع، كان الأفراد الحاملين لنسختين من الأليل الذي ارتفع تواتره خلال الموت الأسود أكثر قدرة وبشكل ملحوظ على القضاء على باكتيريا الطاعون مقارنة بخلايا الأفراد الحاملين لنسخة واحدة من هذا الأليل أو ممن لا يملكون أيٍ منه.
إن الحقائق مجتمعةً بأن هذا الأليل قد كان عالي التواتر خلال تفشي الطاعون وأنه قد عزز من الاستجابة المناعية ضده تمثل حجة قوية تدعم فرضية أن الموت الأسود قدد حرض هذا التغير التطوري.
يقدر الباحثون بناءً على سرعة تغير تواتر الأليل أن امتلاك أفراد لأليلين واقيين قد عزز من فرص بقائهم خلال الموت الأسود بنسبة ٤٠٪ مقارنةً بأولئك ممن يملكون أليلين مستضعفين.
توضح النتائج، بالتمعن بالتغيرات الجينية في الجمهرات والتي كانت القيد الحدوث آنذاك، طريقة جديدة لتقصي آثار أحداث الانتقاء الطبيعي القديمة. تظهر النتائج أيضًا كيف يمكن للإرث التطوري لهذه الجائحات أن يؤثر على على صحة البشر حاليًا.
ثمة منطقتين جينيتين من المناطق التي حددها الباحثون تلعبان دورًا باقابلية التعرض لأمراض كداء كرون والتهاب المفاصل الرثياني، والتي يهاجم فيها الجهاز المناعي الجسم نفسه. إن صحت فرضية الباحثين، فمن المحتمل للألائل، المنتقاة خلال جائحة الموت الأسود عبر مساعدة جهازنا المناعي ضد العوامل الممرضة المميتة، أن تكون السبب وراء أحد الأمراض الحالية، لربما لأنها تزيد من حساسية الجهاز المناعي لدينا. إن فهم الآلية التي صقلت الأمراض من خلالها التطور البشري في الماضي ينطوي على تأثيرات مهمة لتحسين صحة البشر في يومنا هذا.
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: berkeley