إن أبرز ما يميز نظرية التطور هو قدرتها على التنبؤ و التوقع و الإنطلاق بحثاً عن أدلة تدعم حدس العلماء في حين تفتقد الفرضيات الأخرى لتفسير التنوع الحيوي لهذه المقدرة ، إن قصة اكتشاف الأحفورة “تيكتاليك روزاي” التي سدت الفجوة في السجل الأحفوري للانتقال من الماء لليابسة هو دليل باهر على صحة نظرية التطور و قدرتها على تقديم التفسيرات العلمية للتنوع الحيوي من حولنا ، فتوقع شكل الأحفورة و تحديد الزمن و الطبقة الرسوبية و المنطقة المتوقع وجودها فيها و ثم الإنطلاق و التنقيب عنها لسنوات ثم اكتشافها كما توقع العلماء هو انتصار كبير للتطور و العلماء التطوريين.
شكل 1: أحفورة التيكتاليك
النظريات العلمية تستمد قوتها من قدرتنا على التنبؤ بعالمنا من خلالها. نحن نتأمل ما جمعناه من أدلة حتى اللحظة الحالية ومن ثم نتنبأ بما سنكتشفه إذا قمنا بتجربة معينة. فإذا جاءت نتائج هذه التجارب لتؤكد تنبؤاتنا، ندرك أن نظريتنا سليمة. وإذا جاءت النتائج عكس ذلك، فإننا نراجع نظريتنا، ونستمر في طرح الأسئلة. هذا هو جوهر العلم عمومًا.
شكل 2: التيكتاليك
لا يمكننا كعلماء حفريات أن نختبر نظرياتنا بجمع الأدلة في المعمل بين الكاسات وأنابيب الاختبار. عوضا عن ذلك، فنحن نستكشف الأدلة الأحفورية التي بين يدينا اليوم لرسم تنبؤات عما يمكن أن نجده في الموقع غدًا. لحسن حظنا فهناك كنوز من الأدلة مبعثرة بكل مكان في العالم و التي يكتشف منها المزيد كل يوم. للعثور على حفرية انتقالية بين حيوانات اليابسة والأسماك، نبدأ بفحص أول حيوان رباعي الأرجل ظهر في السجل الحفري، ومن ثم نبحث عن السمكة التي كان لديها تشكيلاً من العظام في زعانفها يشبه ما كان لدى هذا الكائن رباعي الأرجل في أطرافه.
شكل 3: الحلقة المفقودة في سلسلة تطوّر هذا النوع
الخطوة الأولى: قمنا باستخدام الحفريات المعروفة لتحديد موضع الفجوة في السجل الحفري:
نقوم برسم أعمار الحفريات المعروفة بيانياً لعزل مرحلة الانتقال من الماء إلى اليابسة بعدما انتهينا من استكشاف كل الحفريات ذات الصلة بمرحلة الانتقال ماء ليابس، تكونت لدينا فكرة عن توقيت حدوث هذا الانتقال. فنحن نعرف أن السمكة فصية الزعانف تتواجد بالصخور التي يبلغ عمرها مابين 380 – 390 مليون سنة. و أول حيوان رباعي الأرجل يظهر في حدود 363 مليون سنة. لذا فالبديهي أن الكائن الوسيط لابد وأنه عاش بين 363 و 380 مليون سنة.
الخطوة الثانية: تحديد عمر الصخور التي تحتوي على الحفرية الوسيطة:
لكي نجد حفريتنا الوسيطة، نحتاج للعثور على صخور يقع عمرها بين 380 و363 مليون عام. الكرة الأرضية مكان كبير جداً.. من أين نبدأ البحث؟ لحسن الحظ، فإن الجيولوجيون قد قاموا بالفعل برسم خرائط لمعظم بقاع الأرض للبحث عن الموارد الطبيعية القيمة كالبترول والفحم. لذا فإن كل مانحتاجه هو مزيد من البحث، هذه المرة في المكتبة المحلية.
كيف نجد الصخور ذات العمر المطلوب ؟:
الخرائط الجيولوجية تساعدنا في تحديد المناطق التي يمكن أن نجد بها على سطح الأرض الصخور ذات العمر المطلوب. نتفحص خرائط العالم الجيولوجية لتساعدنا في العثور على مناطق بها الصخور ذات النوع والعمر الصحيحين والتي لم يتم اكتشافها بعد
الخطوة الثالثة: العثور على المكان الذي به الصخور المطلوبة على السطح ومكشوفة:
نحن نعلم أن السمكة فصية الزعانف والحيوان رباعي الأرجل الأول كانا يعيشان في تيارات مياه عذبة، وذلك بسبب الرسوبيات التي عثرنا عليهما خلالها. لذا بدأنا البحث في ترسبات المياه العذبة، وليس البحرية. كذلك، فقد حددنا أنه علينا أن نبحث في الصخور التي يقع عمرها بين 380 و 363 مليون سنة، في العصر الديفوني الوسيط.
الشيء الأخير الذي ينبغي أن نبحث عنه كان الصخور المكشوفة. فليس من المفيد لنا بأي حال أن نجد مولا تجاريًا مبنيا فوق صخورنا البالغة من العمر 370 مليون سنة. لذا، يميل علماء الحفريات إلى البحث في المناطق ذات الكثافة السكانية القليلة كالصحاري والسهول الجليدية. وإذا تعذر ذلك، فإن الطرق السريعة المنحوتة أحياناً ما تكشف عن قطاعات مفيدة من الصخور.
أين انتهى بنا البحث ؟
قادنا البحث إلى المناطق القطبية الكندية، بالمصادفة، يتواجد ثلاثة رواسب ديفونية عذبة في أمريكا الشمالية، واحد منها فقط لم يتم استكشافه قط: القطب الكندي. لذا قام الفريق بالتجهيز لحملة استكشافية، كان هذا في عام 1999.
الخطوة الرابعة: التخطيط لحملة لأكثر البقاع الواعدة:
كانت الأعوام الأولى قليلة النجاح بشكل كبير. كما اتضح لاحقاً ، فقد بدأ الفريق بالبحث أبعد من اللازم جهة الغرب، في ما كان قبل ذلك محيطًا قديماً. كان كل ما وجده الفريق هو حفريات بحرية. لذا، ففي السنوات التالية، تحرك الفريق ناحية الشرق حى تمكنوا من تحديد موقع الرسوبيات المطلوبة. وفي عام 2000، وجد الفريق موقعاً مليء بقطع مثيرة للاهتمام من الأسماك، فبدأوا بالحفر. كاشفين عن ثروة من هياكل عظمية كاملة لأسماك. وفي كل عام كانوا يعودون ليحفروا أعمق قليلاً. وفي النهاية أسفر البحث عن العثور على تيكتاليك في 2004. لم يكن أهم ما في الأمر هو مجرد العثور على فصيلة جديدة، لكن الأكثر أهمية هو حقيقة أن العلماء تمكنوا من التنبؤ بوجود هذا الكائن منذ البداية. ولم يتطلب الأمر بعد هذا إلا القيام ببعض التحري للعثور عليه. تأكيد آخر لنظريتنا!
ما الذي يتطلبه تنظيم حملة؟:
حملات البحث عن الحفريات تستغرق شهورا من التخطيط الدقيق، تخطيط حملة للبحث عن الحفريات ليست بالمهمة البسيطة. فبعد ساعات من البحث في المكتبة عن موقع محتمل، يجب أن يكون كل يوم من أيام الرحلة مخططًا بالتفاصيل. الطيران يجب أن يكون محجوزا، الهليكوبتر تم تأجيرها، الوجبات تم التخطيط لها، والمعدات تم حزمها. النسيان والأخطاء قد تكلف الطاقم الوقت والمال.
الوقت في الموقع يكون ضيقاً، لذا فعند العثور على حفرية يبدو أنها مثيرة للاهتمام، فإنك تحزمها معك لتتفحصها بعناية في المعمل.
في الموقع، ينصب التركيز على العثور على الحفريات وجمعها. في البداية، ارتحل الطاقم من صخرة إلى صخرة، باحثين عن حفرية تكون بارزة من الصخور. عندما يتم العثور على منطقة ذات تواجد مكثف للحفريات، يجب عليهم أن يحددوا الطبقة التي تتآكل منها هذه الحفريات. وبعد ذلك، يقوم الطاقم بالحفر نزولاً لكشف أكبر قدر ممكن من هذه الطبقة. وأخيراً و باستخدام بعض العدد الصغيرة، يبدأون في انتقاء الصخرة لعزل العينات المهمة. فصل الحفرية عن الصخرة هو عملية طويلة ودقيقة، ولأن الوقت محدود في الموقع، فإن كل مايبدو مهماً يتم تغليفه بقميص من الجبس وشحنه إلى المعمل، حيث يقوم معدو الحفريات المحترفون باستخراج الحفرية من الصخرة بشكل أكثر حرصاً.
للمزيد ننصح بقراءة كتاب “السمكة داخلك” لنيل شوبين مكتشف أحفورة التيكتاليك و فيه يقوم شوبين بسرد قصة الاكتشاف إضافةً إلى عرض لأدلة داعمة لنظرية التطور.
ترجمة : إبراهيم صيام
قصة اكتشاف التيكتاليك ، إثبات قدرة نظرية التطور الفريدة على التنبؤ