تظهر الأحافير أن أدمغة الثدييات وأجسادها لم تتضخم معًا، على عكس التوقعات، تشتهر الثدييات الحديثة بأدمغتها الكبيرة. لكن تظهر التحليلات الجديدة لجماجم الثدييات من كائنات عاشت بعد فترة وجيزة من الانقراض الجماعي للديناصورات أن تلك الأدمغة لم تكن بالحجم الحالي. أفاد باحثون أنه على مدى 10 ملايين سنة على الأقل بعد اختفاء الديناصورات، أصبحت الثدييات أكثر قوة لكنها لم تكن أكثر ذكاءً.
بعبارة لطيفة، يعارض ذلك الحكمة التقليدية. تقول أورنيلا برتراند، عالمة الحفريات في الثدييات بجامعة إدنبرة: «لم أعتقد أن ذلك ممكنًا، لابد أن هناك شيئًا خاطئًا فعلته». «لقد فاجأني ذلك حقًا. كيف سأشرح أنهم لم يكونوا أذكياء؟»
تمتلك الثدييات الحديثة أكبر أدمغة في مملكة الحيوان بالنسبة لحجم أجسامها. كيف ومتى حدث تطور الدماغ هذا ما يزال لغزًا. كانت إحدى الأفكار هي أن اختفاء الديناصورات بعد اصطدام كويكب في نهاية حقبة الدهر الوسيط قبل 66 مليون سنة ترك فراغًا ملأته الثدييات. تبين الاكتشافات الحديثة للحفريات التي يعود تاريخها إلى العصر الباليوسيني، حقبة ما بعد الانقراض مباشرة والتي امتدت من 56 مليون إلى 66 مليون سنة، وجود عالم مزدهر من أنواع الثدييات الغريبة والرائعة، وهي أكبر بكثير من أسلافها من الدهر الوسيط. كان ذلك فجر عصر الثدييات.
بحسب برتراند، قبل اكتشاف هذه الحفريات، كانت الفكرة السائدة هي أنه في أعقاب الانقراض الجماعي للديناصورات، من المرجح أن أدمغة الثدييات نمت بسرعة مع أجسادها، وكل شيء يتزايد معًا مثل البالون المتوسع. لكن تبين اكتشافات الحفريات الباليوسينية في كولورادو ونيو مكسيكو، بالإضافة إلى إعادة فحص الأحافير التي عُثر عليها سابقًا في فرنسا، الآن عدم صحة هذه الفكرة؛ لأنها أتاحت الفرصة للعلماء لقياس حجم أدمغة الثدييات فعليًا بمرور الوقت.
استخدمت برتراند وزملاؤها التصوير المقطعي المحوسب لإنشاء صور ثلاثية الأبعاد لجماجم أنواع مختلفة من الثدييات القديمة قبل وبعد حدث الانقراض. تضمنت تلك العينات ثدييات من 17 مجموعة تعود إلى العصر الباليوسيني و17 مجموعة تعود إلى العصر الأيوسيني، وهي الحقبة التي امتدت من 56 مليون إلى 34 مليون سنة مضت.
كان ما وجده الفريق بمثابة صدمة: بالنسبة إلى أحجام أجسامهم، كانت أدمغة الثدييات في العصر الباليوسيني أصغر نسبيًا من تلك الموجودة في الثدييات في حقبة الحياة الوسطى. أفاد الفريق بأن أدمغة الثدييات لم تبدأ في النمو إلا في عصر الإيوسين، خاصة في مناطق حسية معينة.
لتقييم كيف تغيرت أحجام وأشكال تلك المناطق الحسية أيضًا بمرور الوقت، بحثت برتراند عن حواف أجزاء مختلفة من الأدمغة داخل نماذج الجمجمة ثلاثية الأبعاد، متتبعًا إياها مثل النحات الذي يعمل بالطين. ووجد الباحثون أن حجم البصيلات الشمية للثدييات، المسؤولة عن حاسة الشم لم يتغير بمرور الوقت، وهذا أمر منطقي، لأنه حتى ثدييات الدهر الوسيط كانت تشم جيدًا.
حدثت التغييرات الكبيرة حقًا في الدماغ في القشرة المخية الحديثة المسؤولة عن المعالجة البصرية والذاكرة والتحكم الحركي من بين مهارات أخرى. تقول برتراند إن هذه الأنواع من التغييرات مكلفة من الناحية الأيضية. «لكي يكون لديك عقل كبير، فأنت بحاجة إلى النوم وتناول الطعام، وإذا لم تفعل ذلك فإنك ستصبح غريب الأطوار، ولن يعمل عقلك».
لذلك، يقترح الفريق أنه بينما تخلص العالم من غبار الانقراض الجماعي، كانت القوة العضلية هي الأولوية بالنسبة للثدييات، مما ساعدها على الانتشار بسرعة في المنافذ البيئية المتاحة حديثًا. ولكن بعد 10 ملايين سنة أو نحو ذلك، تغيرت حسابات التمثيل الغذائي، وازدادت المنافسة داخل تلك المنافذ. ونتيجة لذلك، بدأت الثدييات في تطوير مجموعات جديدة من المهارات التي يمكن أن تساعدها في الحصول على قطع الفاكهة التي يصعب الوصول إليها، أو الهروب من حيوان مفترس، أو اصطياد الفريسة.
بحسب عالمة الأحياء فيليسا سميث من جامعة نيو مكسيكو في البوكيرك في تعليق في نفس العدد من مجلة العلوم، يوجد عوامل أخرى مهمة للتطور العام للأدمغة الكبيرة للثدييات، مثل السلوك الاجتماعي أو رعاية الوالدين. لكن تشير هذه الاكتشافات الجديدة إلى أنه في فجر عصر الثدييات على الأقل، أعطت البيئة والمنافسة بين الأنواع دفعة كبيرة لتطور الدماغ.
يقول عالم الأحياء التطورية دايفد غروسنيكل من جامعة واشنطن في سياتل «أحد الجوانب المثيرة لهذه النتائج هو أنها تثير سؤالًا جديدًا: لماذا تطورت الأدمغة الكبيرة بشكل مستقل ومتزامن في العديد من مجموعات الثدييات؟».
بحسب جروسنيكل، تمتلك معظم الثدييات الحديثة أدمغة كبيرة نسبيًا؛ لذلك تستنتج الدراسات التي تفحص الأنواع الحديثة فقط أن الأدمغة الكبيرة تطورت مرة واحدة في أسلاف الثدييات. لكن ما كشفته هذه الدراسة هو «قصة أكثر دقة وإثارة للاهتمام» مفادها أن هذه الأدمغة تطورت بشكل منفصل في العديد من المجموعات المختلفة. وهذا يوضح مدى أهمية الحفريات في التجميع الدقيق للتاريخ التطوري.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: sciencenews