إن كنت تعيش في أمريكا الشمالية أو أوروبا أو آسيا أو أي بيئة معتدلة أخرى، فعلى الأرجح أنك رأيت النفل الزاحف «Trifolium repens» وهو برسيم أبيض يحبه النحل على عكس مالكي المنازل المهووسين بتسوية مرج حديقتهم بشكل مثالي. انتشر هذا النوع خروجًا من موطنه الأصلي -أوروبا وآسيا- لجميع أنحاء العالم بمساعدة البشر الذين أدخلوه بيئات جديدة وأخذت تتغذى عليه الماشية. لكن النفل الزاحف لم يمكث فقط في تلك الأراضي الزراعية الريفية: إذ أخذ بالتقدم نحو المناطق العشبية المتاحة أمامه، والمدن بدورها كانت تزحف تجاه المناطق الريفية المحيطة. تجد البرسيم الأبيض اليوم في كل مكان – في الحقول الرعوية والمتنزهات الحضرية وشقوق الأرصفة في المدن الكبرى الصاخبة. فمنذ أن اتخذت هذه الأعشاب الريفية حياة المدن الكبيرة، شهدت أيضًا تغيرًا تطوريًا واضحًا.
أين هو التطور؟
يشير بحث جديد أن النفل الزاحف قد خسر تكيفًا نباتيًا شائعًا يوفر الحماية من الحيوانات العاشبة بعد أن أصبح نباتًا مدنيًا. يتمثل ذلك التكيف بتشكيل خليطٍ سام. عندما تقضم الحيوانات العاشبة نباتًا محميًا بمنظومة دفاعية، تتحرر مادتين كيميائيتين من أجزاء مختلفة من خلايا النبات، وتختلطان معًا وتتفاعلان لتكوين سيانيد الهيدروجين، وهو مركب مرير يعطل قدرة الحيوان على الاستفادة من الأكسجين ويمكن أن يكون قاتلًا. بالطبع لن تقتل قضمة برسيم واحدة بقرة بحالها، إنما ستطرد بعض الحشرات. في الواقع، تعد آلية الدفاع هذه شائعة جدًا بين النباتات لدرجة أن الحيوانات العاشبة طورت استراتيجيات مختلفة للتعامل مع المادة الكيميائية السامة لتمضغ بسعادة.
تدرأ نباتات البرسيم الأبيض العواشب باستخدام سيانيد الهيدروجين. لكن في حال تعطيل أي من الجينات المسؤولة عن إنتاج المادتين الكيميائيتين اللتين تشكلان سيانيد الهيدروجين، فستتعطل أيضًا المنظومة الدفاعية بأكملها. عندما أخذ الباحثون عينات مما يقرب من 10000 نبتة برسيم من 20 مدينة ومنطقة نائية، وجدوا أن النباتات الأقرب إلى وسط المدينة كانت أكثر ميلًا لامتلاك منظومة دفاعية «معطلة»، مع تناقص هذه السمة (وازدياد شيوع منظومة سيانيد الهيدروجين الفعالة) كلما بعدت النباتات عن المدينة. كان النمط ثابتًا بشكل ملحوظ من مدينة لأخرى بغض النظر عن حجم المنطقة الحضرية. لابد أن بعض جوانب الحياة في المدينة تصعب الحياة على للنباتات التي تنتج سيانيد الهيدروجين، وتدفع الانتقاء الطبيعي لصالح النباتات التي تحمل جينات معطلة – ولكن ما السبب؟
بشكل عام، ينطوي إنتاج المواد الكيميائية الدفاعية على نوع من المقايضة. إذ يتطلب طاقة إضافية يمكن استغلالها في النمو والتكاثر. تقول إحدى الفرضيات أن نباتات المدينة تواجه حيوانات عاشبة أقل، لذا فإن الطاقة المبذولة لتلك الحماية تفوق ميزة درء الحشرات القارضة أهميةً. قد يقدم هذا تفسيرًا للنمط الذي لاحظه الباحثون في إنتاج سيانيد الهيدروجين. ومع ذلك، فإن الأثر الجانبي الراسخ لسيانيد الهيدروجين يدعم بقوة فكرة أخرى: لأسباب فيزيولوجية، يجعل هذا المركب النباتات أكثر حساسية للبرد وعرضة للتجمد.
تعتبر المدن أدفأ بشكل عام من المناطق المحيطة بها، لذلك تتراكم الثلوج بشكل أقل في المدن، ويعتبر الثلج عازلًا في الواقع؛ فهو يحافظ على الأرض التي يغطيها من التعرض لدرجات حرارة الهواء العالية أو المنخفضة. في ظل وجود غطاء ثلجي أقل، تعاني النباتات في المدن من درجات حرارة أكثر برودة من النباتات في المناطق الريفية (على الرغم من أن درجات الحرارة تكون أكثر دفئًا وسطيًا). يبدو أن درجات الحرارة المنخفضة هذه منحت ميزة لنباتات المدينة ذات جينات سيانيد الهيدروجين المعطلة. إذ كانت هذه النباتات أقل عرضة للتجمد وأكثر احتمالًا لأن تمرر نسخ من تلك الجينات المعطلة إلى الجيل التالي مقارنةً بالنباتات التي تنتج سيانيد الهيدروجين. على مدى أجيال عديدة، أصبحت جينات سيانيد الهيدروجين غير الوظيفية شائعة بين نباتات المدن، بينما ظلت نادرة بين جمهرات المناطق الريفية.
يوضح هذا المثال الكلاسيكي للانتقاء الطبيعي أن التطور يحدث من حولنا وأنه لا يقتصر على الجمهرات «البرية». في الواقع، يعتبر التغيير البيئي الناجم عن البشر ومعالمهم الحضرية محركًا رئيسيًا للانتقاء الطبيعي الحديث. يجب أن نتوقع رؤية المزيد من هذه الأمثلة، لا سيما مع بدء زيادة تأثير تغير المناخ على الأنواع. حتى الحشائش القوية مثل النفل الزاحف لن تصمد أمام التغيرات البيئية الكبيرة دون أن تتأثر بشكل أو بآخر. تتنبأ نماذج تغير المناخ بدرجات حرارة موسمية أكثر تطرفًا في العديد من المناطق بالإضافة إلى تدني الغطاء الثلجي؛ هل ستبدأ الأنواع النباتية الأخرى ذات منظومة سيانيد الهيدروجين الدفاعية بفقدانها (وفقدان الحماية التي توفرها من الحيوانات العاشبة) كما حدث مع الجمهرة الحضرية من النفل الزاحف؟ مع استمرار احترار المناخ، هل سنلاحظ هذا التحور في النباتات الريفية أيضًا؟ تابعونا لمعرفة ذلك!
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: evolution berkeley