فيما يتعلق ببخاخات البحر وأقاربها الوثيقة، يمثل جنس اليرقانيات، الأويكوبليورا (Oikopleura)، بلا ريب مجموعة غريبة من المتعضيات الحية، سواء من جهة السمات الجسدية أو الجينات. ينتمي إلى مجموعة أكبر من اللافقاريات الوثيقة القرابة مع كافة الفقاريات: الغلاليات. ولكن على عكس معظم أفراد تلك المجموعة، فإنه لا يخضع لعملية استحالة من يرقة حرة السباحة إلى كائن بالغ مثبت النهاية أو لاطئ. بدلاً من ذلك، يعيش حياته بأكملها ككائن بالغ الصغر يسبح بحرية داخل بالون مكون من ورقة شفافة من السليلوز، وهو المكون الرئيسي لجدران الخلايا في النباتات. البالون الشفاف هو «بيته» أو (oikos باليونانية)، وهو يغلف الجسم بالكامل (طوله حوالي 0.5 ملليمتر) باستثناء ذيله الطويل الممتد النابض باستمرار. باستخدام ذيله وقلبه لضخ الماء عبر البالون شبه النفوذ، يصفي كائن الأويكوبليورا الجزيئات العضوية الصغيرة في الماء ويمرر هذا الصيد إلى فمه.
تقبع الغالبية العظمى من الغلاليات البالغة في قاع المحيط وتضخ المياه في أفواهها لتصفية الغذاء؛ وهي غير مزودة بجهاز لجمع الغذاء خارج الجسم. لكن الأويكوبليورا حر السباحة طور طريقة مختلفة لتصفية الغذاء. إنه صغير جدًا لدرجة تُحتَّم عليه صنع بالون كبير أو شبكة صيد خارج جسمه لالتقاط ما يكفي من الطعام لتلبية متطلبات الاستقلاب. يتيح هذا الهيكل للحيوان أن ينمو ككائن متغذٍ بالترشيح حر السباحة. بيلي سوالا، عالمة الأحياء التطورية بجامعة واشنطن، في تعليقها على جهاز الأويكوبليورا الخارجي الكبير لجمع الغذاء: «إنه لضربٌ من الجنون». تدرس سوالا تطور الحبليات، وهي الشعبة التي تضم الفقاريات والغلاليات.
في حالة الأويكوبليورا، سرعان ما يعجّ بيت الكائن بجزيئات من مياه البحر، وعند هذه النقطة يمزق «الأويكو» خاصته. «أي أن هذه الكائنات لا تنظف البيوت. بل تصنع بيوت جديدة، وهذه العملية تحدث كل ثلاث ساعات» وفقًا لكريستيان كانيسترو، عالم الأحياء التطوري في برشلونة. تفترش البيوت المهجورة قاع محيطات العالم كطبقة من الثلج الأبيض.
سرعان ما أدرك كانيسترو أن البالونات ليست كل ما يتخلص منه الأويكوبليورا، أراد الباحث في البداية دراسة نوع الأويكوبليورا ديويكا (Oikopleura dioica) لأنه قد يكشف -نظرًا لموقعه على الشجرة التطورية- شيئًا عن الشكل الذي بدا عليه السلف المشترك للفقاريات. لكنه اكتشف أن هذا الكائن قد فقد مجموعة كاملة من الجينات، بما في ذلك جينات تأشير حمض الريتينويك الضرورية لنمو القلب والدماغ لدى الفقاريات. فكيف أمكن لهذا الحيوان امتلاك قلب مع فقده التعليمات الجينية الأساسية لتكوين القلب؟ في دراسة نُشرت في مجلة (Nature) في نوفمبر الماضي، أفاد فريق كانيسترو، بقيادة الباحث ألفونسو فيرانديز-رولدان، كيف سرّع هذا الكائن عملية نموه ليكوّن قلبًا بطريقة مختلفة.
في تطور الفقاريات، تحدد إشارات حمض الريتينويك وضع جسم الحيوان من الأمام إلى الخلف وتحدد الخلايا التي ستعطي القلب والبلعوم والدماغ. تُشتق الخلايا التي ستشكل القلب من الخلايا الجذعية، وهي سلائف للخلايا الأخرى التي ستتولى وظائف متخصصة، وتواجه أثناء النماء العديد من القرارات التي تحدد في النهاية مصيرها كخلايا قلبية بدلاً من نسيج الفك على سبيل المثال. ولكن في الأويكوبليورا، اكتشف الباحثون أن خلايا الجنين قد حُدِّد مصيرها في وقت مبكر جدًا من النماء، متجاوزًا القرارات التسلسلية لمصير الخلية والتي تحدث بدى الغالبية العظمى من الفقاريات.
نظرًا لتحديده السريع لمصير الخلية، فإن الأويكوبليورا يستغني عن الحاجة لاستخدام إشارات حمض الريتينويك لتحديد خلايا القلب لأن الخلايا تعرف مسبقًا مصيرها النهائي، وفقًا لليندا هولاند، عالمة الأحياء البحرية في معهد سكريبس لعلوم المحيطات، والتي لم تشارك في الدراسة الأخيرة لمجلة (Nature)، لذلك يمكن للكائن أن يفقد مسار الإشارات هذا.
يعيش جنس الأويكوبليورا سريعًا ويموت باكرًا، إذ ينتقل من مرحلة البويضة إلى مرحلة الإنجاب خلال نحو أسبوع واحد. «نظرًا لهذا الانتقاء للنماء السريع، فقد اتخذ الكثير من الطرق المختصرة» وفقًا لجون بوستليثويت، عالم الأحياء التطورية بجامعة أوريغون، والذي لم يشارك أيضًا في دراسة نوفمبر 2021، لكنه كان مستشار كايسترو لما بعد الدكتوراه منذ ما يزيد عن عقد من الزمن.
في الواقع، تقرر العديد من الغلاليات مصير الخلية في وقت مبكر جدًا من النماء. يقول هولاند: «يبدو أن هذا قد أعطى الغلاليات قدرًا كبيرًا من المرونة للتطور إلى الفضاء الخارجي» في إشارة إلى أشكال أجسامها وبيئاتها غير الاعتيادية. «لقد تخلصت من العديد من الجينات التي لم تحتاجها».
يعتقد كانيسترو أن الأويكوبليورا بفقدانه لتلك الجينات قد سرّع من نمو قلبه، والذي يمكن أن يكون تكيفًا مع أسلوب الحياة الحرة للكائن، إذ يحتاج إلى البدء فورًا بضخ الماء والحصول على الطعام بعد الفقس. «يحتاج الحيوان نبضات القلب فور صنعه البيت الأول بعمر 10 ساعات».
قلب الأويكوبليورا أبسط من قلب بخاخات البحر لأنه ليس أسطوانيًا. إنما يتكون من صفيحة مسطحة من الخلايا تتقلص بالتنسيق مع الذيل النابض باستمرار لضخ المياه عبر جهاز التغذية بالترشيح. لا يستطيع الذيل دفع الماء بسهولة عبر أنبوب أسطواني، لكن القلب الصفائحي ينبض على جدار المعدة بطريقة تجعل القلب والذيل ينسقان بسهولة أكبر تحركات المياه عبر تجويف الجسم. وبهذه الطريقة، فإن فقدان الجينات التي تعطي القلب الأسطواني الأكثر تعقيدًا يوفر للحيوان حلاً أفضل للسباحة الحرة وحياة التغذية بالترشيح.
استخدم فريق كانيسترو أيضًا تحليله لخسارة الجينات في الأويكوبليورا ديويكا لدراسة جدل طال أمده حول الشكل الذي كان بدا عليه سلف الغلاليات. بناءً على تحليل الباحثين لجينومات الأويكوبليورا ديويكا والغلاليات الأخرى، استنتجوا أن السلف امتلك الجينات التي تستخدمها الفقاريات وغيرها من الغلاليات لتكوين قلب وعضلة بلعومية مفيدين لوجود كائن لاطئ يتغذى بالترشيح. لذلك من المحتمل أن الغلالية السلف قد خضعت لعملية استحالة وأنها تمتعت بمرحلة بلوغ لاطئة قبل فقدان الجينات الذي أدى إلى قلب من نوعٍ جديد، وفقًا للباحثين.
لكن هذا الزعم لا يتشاركه بأية حال جميع زملاء كانيسترو. يوضح هولاند: «المشكلة هي أنه يتطور بسرعة استثنائية ويملك جينوم صغير بشكل استثنائي» مشيرًا إلى مراكمة الأويكوبليورا لسلسلة من التغييرات الجينية الجذرية مقارنةً حتى بأقرب أقربائه. تعرضت غلاليات أخرى أيضًا للعديد من عمليات الفقدان الجذري للجينات وعمليات إعادة ترتيب الجينوم. «لذلك لا يمكننا البتّ بالشكل الذي بدت عليه أسلاف الغلاليات» وفقًا لهولاند.
حتى لو ظلت الغلالية السلف لغزًا محيرًا، يوضح الأويكوبليورا أنه عندما تختفي الجينات، يمكن أن يؤدي غيابها أحيانًا إلى ابتكارات تطورية، كأسلوب الحياة غير القياسي -إنما الناجح في نهاية المطاف- لهذا الكائن.
المقال الأصلي: scientific american
ترجمة: حاتم زيداني