لا يمكنك ملاحظة ذلك على طبق العشاء خاصتك، ولكنَّ سمك السلمون البري آخذٌ بالتقلص. بات الآن سمك السلمون من مختلف أنحاء العالم أصغر حجمًا مما كان عليه قبل 30-60 عامًا. في حين أن أسباب هذا التحول ليست واضحة دائمًا، فإن الأسباب المحتملة تشمل الصيد، وتغير المناخ، والمنافسة على الغذاء (على سبيل المثال، من قِبل سمك سلمون المفرخات). والآن، يفك بحث جديد تشابك الأسباب المحتملة لانخفاض حجم الجسم في مجموعة واحدة من سمك السلمون الأطلسي البري، ويوضح كيف يمكن لتأثيرات الأنشطة البشرية أن تنتشر عبر النظم البيئية.
أين هو التطور؟
تفقس أسماك السلمون في مجاري المياه العذبة ثم تشق طريقها مع التيار نحو المحيط حيث تتغذى وتنمو. عندما تصل مرحلة النضج، تسبح عائدةً إلى المكان حيث فقست كي تضع بيوضها، وبعد ذلك يموت معظمها. منذ سبعينيات القرن الماضي، روقبت أسماك السلمون من نهر تينو في النرويج وفنلندا أثناء قيامها بهذه الرحلة المضنية ضد التيار، لذلك لدينا سجل يوضح حجم الأسماك، وكيفية صيدها -والأهم من ذلك- عينة من حراشف كل سمكة. تحتوي هذه الحراشف على ثروة معلومات حول السمكة – عمرها، وعدد السنوات التي أمضتها في النهر، وعدد السنوات التي أمضتها في البحر، وبالطبع حمضها النووي.
أظهرت هذه البيانات من حراشف الأسماك أنه على مدار الثلاثين إلى الأربعين عامًا الماضية، بدأ ذكر السلمون من هذه المجموعة بلوغ سن النضج والتكاثر قبل عام كامل تقريبًا مما اعتاد عليه سابقًا. نظرًا لبلوغ ذكور الأسماك في وقت مبكر، تصبح بالتالي أصغر حجمًا. تتبع الباحثون هذا التحول إلى جين يسمى vgll3. ينضج السلمون الحامل للنسخة E (المبكرة) من هذا الجين (ويسمى أيضًا الأليل) مبكرًا ويكون أصغر من سمك السلمون حامل النسخة L (المتأخرة) من هذا الجين. تميل الأسماك EE لأن تكون الأصغر سنًا عند النضج، وأسماك LL تكون الأكبر سنًا، أما أسماك EL فنجدها في مكان وسط بين النمطين. خلال فترة الدراسة، بات الأليل L أكثر ندرة، وكذلك سمك السلمون الكبير المتأخر النضج.
كانت هذه حالة واضحة للتطور -تَحوُل في تردد الجين (يُسمى أيضًا تردد الأليل) في الأفراد- لكن العلماء الذين يدرسون الأسماك لم يكونوا متأكدين من السبب. بدت فرضيتهم المبدئية وكأنها تفسر تناقص حجم الجسم لدى العديد من أنواع الأسماك: أي الانتقاء الطبيعي الذي يحرضه البشر الذين يصطادون الأسماك الكبيرة. يمكن للتفضيلات البشرية (بالإضافة إلى حجم الثقوب الموجودة في شباكنا) أن تزيل الأسماك الكبيرة المتأخرة النضج (ونسخها الجينية) من جمهرة الأسماك وتتيح للأسماك الأصغر المبكرة النضج بالبقاء على قيد الحياة للتكاثر ونشر نُسَخ الجين للأجسام الأصغر والأبكر نضجًا.
لدراسة سبب هذا التغير التطوريّ في مجموعة أسماك نهر تينو، جمع العلماء بيانات لمدة 40 عامًا حول جميع العوامل التي اعتقدوا أنها قد تؤثر على نجاح الأسماك المبكرة أو المتأخرة في التكاثر، وبالتالي معرفة سبب التطور الملاحظ. تأملوا حجم الصيد الذي يتم في النهر بأنواع مختلفة من الشباك والصنارت، ودرجة حرارة البحر، وكمية أنواع الفرائس المختلفة المتاحة أمام سمك السلمون (بما في ذلك الكريل، والرنكات، وسمكة صغيرة تسمى الكبلين). استنتج الباحثون كيف أن التغييرات في هذه العوامل مرتبطة بالتغيرات في مدى شيوع نسخة الجين L بين الأسماك. استنتجوا أنه إذا كان التغيير في عامل واحد مرتبطًا بشكل موثوق بتغير تواتر الجين، فثمة فرصة جيدة أن يكون هذا العامل سببًا للتطور.
برز عاملان مهمان بصفة متسقة. أولاً، كان عدد التراخيص الممنوحة الصيد بالشباك مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات في تواتر الجين -إنما ليس في الاتجاه الذي قد يتوقعه المرء! إذ ارتبط الصيد بالشباك بالتحولات التطورية نحو النضج المتأخر والأجسام الأكبر. يبدو هذا مغايرًا للمنطق، ولكن عندما تعمق الباحثون في البيانات حول الأنواع المختلفة من الشباك المستخدمة في النهر، وجدوا أن نوع الشباك الأكثر شيوعًا يميل إلى التقاط الأسماك الصغيرة المبكرة النضج. استشار الباحثون صيادي السكان الأصليين من شعب سامي، الذين شرحوا كيف أن تقنية الشباك هذه قد ينتهي بها المطاف (حرفيًا) بتصفية السمك الأصغر سنًا من تجميعة الجينات، ما يساعد على فهم هذه الملاحظة المفاجئة.
ثانيًا، وجد الباحثون أن الغذاء مهم أيضًا، بالأخص سمك الكبلين. كلما قلَّ الكبلين المتاح للسلمون في البحر، زاد تواتر نسخة الجين E ذات النضج المبكر. كان هذا منطقيًا للغاية. فعندما لا يوجد ما يكفي من الطعام، يمكن للأسماك المتأخرة النضج، والتي تحتاج إلى سنة إضافية في المحيط، أن تموت بسهولة قبل أن تصل إلى حجم وعمر التكاثر. عندما يندر الطعام، يكون أداء الأسماك مبكرة النضج أفضل، إذ أنها لا تنمو بقدر الأسماك متأخرة النضج قبل بدئها التكاثر.
يبدو أن الصيد بالشباك يدفع تطور سلمون نهر تينو في اتجاه واحد (نحو حجم أكبر للجسم) وتناقص الكبلين يدفعه باتجاه آخر (نحو حجم أصغر). على مدى السنوات الأربعين الماضية، تناقص عدد تراخيص الصيد بالشباك لنهر تينو، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تشديد لوائح الصيد. وخلال نفس الفترة، انهار عدد الكبلين عدة مرات. كانت نتيجة هذين العاملين المتعارضين انخفاض عام في حجم وعمر نضج سلمون نهر تينو. يؤدي توافر الكبلين إلى قلب الموازين في هذا التوازن التطوري.
إذن لماذا يعتبر الكبلين مصدر غذاء لا يعول عليه لسمك السلمون؟ الكبلين هو محور جهود الصيد الصناعي، بيد أنه ليس مخصصًا للاستهلاك البشري. بدلاً من ذلك، نحصدها بكميات كبيرة لإطعام حيوانات المزارع – غالبًا مزارع سمك السلمون. في حين أنه قد يبدو أن استهلاك الأسماك المستزرعة سيعود بالفائدة على السلمون البري عبر إبعاده عن أطباقنا العشائية، إنما في الواقع، تمثل زراعة المحيطات مجموعة متنوعة من التهديدات للجمهرات البرية من خلال إطلاق النفايات والمبيدات الحشرية والمضادات الحيوية في المحيط ومن خلال تقديم أرضية خصبة للطفيليات والأمراض. يشير البحث الجديد إلى أن هذا التهديد ليس بيئيًا فحسب، بل تطوريًا أيضًا: نظرًا لأننا ننتزع عنوةً الأرصدة السمكية لإطعام سمك السلمون المستزرع لدينا، فإننا نغير المسار التطوري للجمهرة البرية.
المقال الأصلي: evolution.berkeley
ترجمة: حاتم زيداني