في يوم 24 نوفمبر من 157 سنة نشر تشارلز روبرت داروين تُحفته (أصل الانواع) التي قدمت للتراث العلمي الإنساني نظرية تستطيع ان تُفسر تنوع الاحياء على كوكب الارض باشكالها المتنوعة والمُعقدة فقط من كائنات بسيطة لا تتكون من اكثر من خلية واحدة عن طريق عملية احيائية عُرفت باسم: التطور.
على الرغم من قوّة النظرية وأدلتها ومدى تطبيقتها التي لا يكاد يُستغنى عنها في علم الاحياء والطب والصيدلة والكثير من العلوم الحديثة، إلا أن هُناك سؤال مازال مُثيرًا للعجب مازال العُلماء في حيرة من اجابته: ما هو تعريف كلمة (نوع- species)؟
ربما يبدو السؤال ساذج! فنحن نستعمل كلمة نوع في كل مرة نتكلم فيها عن التطور، او في مواضيع اخرى، فنحن نعرف مثلًا ان الكلب نوع والقطة نوعًا آخر، لكن فكر في السؤال مرة أُخرى، لماذا على سبيل المثال نعتبر القطة والكلب نوعان مُنفصلان؟ لماذا لا نعتبرهم نوع واحد؟
في الحقيقة هذا السؤال صعب، وتُعرف هذه المُشكلة في تعريف كلمة (نوع) في علم الاحياء وفلسفة الاحياء باسم (مشكلة النوع- Species Problem).
احد اكثر التعريفات المُستعملة في الوسط العلمي وفي الكُتب الدراسية هو تعريف وضعه (إرنست ماير- Ernst Mayr) معروف باسم (مفهوم الانواع الحيوي- Biological Species concept- BSC) حيث يُعرف النوع على انه مجموعة من السكان التي يمتلك أفرادها الإمكانية على التهجين في الطبيعة وإنتاج نسل قابل للحياة قادر هو بدوره على التناسل، ولا يستطيع ان يُنتج نسل قابل للحياة وقادرًا على التناسل من افراد مجموعات مُختلفة.
بحسب هذا التعريف، فان التنوع يعتمد تعريفه على القدرة على التناسل من خلال التهجين، يُعتبر الفردين من نفس النوع اذا كانوا قادرين على التهجين وانتاج نوع قابل للحياة ويستطيع هو بدوره ان يُهجن افراد من نفس مجموعته لاستمرار الحياة بهذا الشكل.
هذا التعريف جيد جدًا وتظهر مدى عمليته في كثير من الاحيان، إلا أنه غير كافي، فالحياة تشمل الكثير من الكائنات الحيّة التي تتكاثر بدون تهجين (مثل البكتيريا على سبيل المثال)، وبالتالي فهذا التعريف لا يضعهم في الاعتبار على الإطلاق، ولهذا يجب وضع تعريفات أُخرى للنوع لتعمل بجانب هذا المفهوم.
مفهومًا اخر لكلمة نوع هو (مفهوم الانواع المورفولوجي- Morphological Species Concept)، وهو يعتمد على التفرقة بين الانواع من خلال اشكال اجسامها والسمات البنيوية.
ما يُميز التعريف المورفولوجي هو إمكانية تطبيقه على كُل من الكائنات التي تتكاثر بالتهجين والتي تتكاثر بدون تهجين، في الحياة العملية كثيرًا ما يُستعمل هذا التعريف في التفرقة بين الانواع، ولكن من عيوب هذا التعريف انه يعتمد على معيار ذاتي وغير موضوعي، فمن السهل جدًا ان يختلف العُلماء والباحثين على ماهية السمات البنيوية التي ستضع حدًا للتفرقة بين نوعين، فعلى سبيل المثال، احد الاختلافات بيننا وبين الكلاب هو الذيل، ولكن بعض البشر لونهم اسود والبعض لونهم ابيض، ايكون اختلاف اللون سببًا لجعلنا نوعين مُختلفين أم لا؟ ولماذا؟ هذه هي المُشكلة في هذا التعريف، انها ستعود بنا إلى معيار ذاتي غير موضوعي، على عكس مفهوم الانواع الحيوي الذي يرتكز على معيار موضوعي إلى حدٍ ما وهو إمكانية التهجين لإنتاج نسل قابل للحياة والتناسل من نفس مجموعته.
المفوم الثالث هو (مفهوم الانواع البيئي- Ecological Species Concept)، وهو يعتمد على تعريفه للنوع من نمط حياة النوع البيئية، اي كيفية تفاعل افراد النوع مع الاجزاء غير الحيّة والحيّة من مُحيطهم وبيئتهم، على سبيل المثال من الممكن ان يختلف نوعان من شجر البلوط (السنديان) في حجمهم وقدرتهم على تحمل ظروف الجفاف ولكن مازال من الممكن احيانًا ان يتم تهجينهم، سيتم اعتبارهم نوعين مُختلفين بسبب احتلالهم لانماط حياة بيئية مُختلفة، بالرغم من قدرتهم على التهجين.
على عكس مفهوم الانواع الحيوي، يمكن لمفهوم الانواع البيئي ان يُطبق ايضًا على الانواع التي لا تتكاثر بالتهجين ولا الجنس، كما انه يُعزز دور الانتخاب الطبيعي في فكرة ان الكائنات تتكيف على بيئات مُختلفة.
المفهوم الاخير الذي سنتكلم عنه هو (مفهوم الانواع الفيلوجيني- مفهوم الانواع التطوري الُسلالي- Phylogenetic Species Concept – PSC)، وهو يُعرف النوع بكونه اصغر مجموعة من الافراد التي تتميز بصفات مورفولوجية وجينية مُعينة وتتشارك سلف مُشترك مُكونين بذلك فرع واحد على شجرة الحياة.
ميزة هذا التعريف انه يصل لتعريف الانواع بشكل إلى حدٍ ما دقيق على المُستوى الجيني عن بقية التعريفات الأُخرى، فهو يستطيع ان يُفرق بين نوعين اختلفوا جينيًا بما فيه الكفاية ولكن لم تظهر بعض صفات مورفولوجية لتمُيزهم، في هذه الحالة يعمل مفهوم الانواع الفيلوجيني بشكل افضل من مفهوم الانواع المورفولوجي، كما ان هذا التعريف يُمكن تطبيقه على الكائنات الحيّة التي لا تتكاثر بالتهجين والجنس، وبالتالي فهو له نطاق عمل أوسع من نطاق مفهوم الانواع الحيوي، ولكن بالطبع تكمن الصعوبة في هذا التعريف هو في تحديد درجة الاختلاف المطلوبة لظهور انواع مُختلفة.
وهُناك تعريفات ومفاهيم أُخرى تم وضعها لمُحاولة تعريف النوع، ولكن اكثر التعريفات المُستعملة هو مفهوم الانواع الحيوي ومفهوم الانواع الفيلوجيني لكونهم إلى حد كبير جدًا يُظهرون نتائج عملية تُساعد العُلماء في إتمام أبحاثهم.
ولكن هذه المُشكلة لا تقف عند حدود البيولوجيا كعلم، ولكنها تمتدد للفلسفة، فهل يوجد اصلًأ شيء اسمه نوع؟
الفلسفة الواقعية (Realism) بتعتقد ان النوع شيء موجود في الطبيعة فعلًأ، إرنست ماير كان من مؤيديين الواقعية واعتبر ان النوع يُمكن تصنيفه بشكل موضوعي بالاعتماد على مفهوم الانواع الحيوي، فكل نوع مُعتمد على الانعزال التكاثري (اي انه لا يتكاثر مع افراد مجموعة ليست من نوعه) وبالتالي فالنوع بيتميز بشكل موضوعي.
الفلسفة الإسمانية (Nominalism) بتعتقد ان النوع ما هو إلا اسم او لفظ بيُطلقه الإنسان على مجموعة من الكائنات الحيّة لكن حينما يُحاول الانسان رسم خطوط فاصلة بين الأنوع فإن هذه الخطوط لا تعكس أي نقطة فاصلة بين الكائنات الحيّة بشكل اساسي، وبالتالي فإن الانواع ليست اكثر من فكرة في عقول البشر لإن الانواع ليست اكثر من اسم تجريدي، كنتيجة لذلك يُعتبر الحديث عن أصل الانواع وتطور الانواع الجديدة من انواع قديمة حديث غير ذات قيمة (هذا لا ينفي ان الاحياء جميعها تتشارك سلف مُشترك، لكن الحديث عن ظهور انواع جديدة من انواع قديمة هو الذي غير ذات قيمة في ضوء ان كلمة نوع لم تعد اكثر من اسم تجريدي).
احد وجهات النظر الشائعة ايضًا هي الفلسفة البراجماتية او المذهب العملي (Pragmatism) وهي ترى أنه بالرغم من ان النوع غير موجود بالمعنى الطبيعي، إلا أنه حقيقي مفهوميًا ونظريًا وموجود للطبيقات العملية، فعلى سبيل المثال، بغض النظر عن اي مفهوم يستعمله الباحث، فإنه يُمكنه مُقارنة التنوع الحيوي على المُستوى المكاني والزماني طالما ان التعريف لم يتغير خلال الدراسة.
تم نقل المقال من مجلة الباحثون المصريون بالتصرف.
اقرأ أيضًا: ما تتفوق الحيوانات فيه على الإنسان: الحواس