قبل حوالي مليوني سنة مضت في أفريقيا، العديد من الأنواع القريبة من الإنسان كانت تسيطر على الساحة هناك. البعض منهم كان مُشابهًا للآخر، والبعض كان يمتلك صفات وميّزات محددة خاصة به وحده.
في شهر سبتمبر من عام 2015، أضيفت بعض الأنواع الجديدة إلى القائمة. فالمئات من العظام تم اكتشافها في كهوف تقع في جنوب إفريقيا، الأمر الذي أدى لانبثاق نوع بشري جديد يعرف باسم Homo Naledi، ولربما أيضًا يوجد الكثير غيره من الأنواع البشرية التي تواجدت في حقبة زمنية ماضية، ومن ثمّ انقرضت.
بالنسبة لنوعنا الحالي، فقد ظهرَ لأول مرة قبل 200 ألف سنة مضت، وفي نفس الوقت كانت توجد العديد من الأنواع البشرية الأخرى معه، أمّا الآن فلا أحد قد بقيَ إلّا نحن فقط، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا انقرض الجميع بينما نجونا نحن؟
في البداية يجب أن نُشير إلى أنّ انقراض الأنواع واختفاءها جزء طبيعي من آلية عمل التطوّر، لذلك مِن غير المفاجئ أن تكون الأنواع القريبة من الإنسان قد انقرضت في وقت سابق. لكن الأمر غير الواضح لماذا بقيَ نوع واحد فقط في ظل عالم يتسع لأكثر! لا سيما أنّ أقرب أقربائنا وهي القردة العُليا – اشتراك في 98% من الحمض النووي للبشر – تملك ستة أنواع قريبة منها لا تزال حية، وهي: (الشمبانزي – البونوبوس – صنفان من الغوريلا – ونوعان من الأورانغوتان).
هناك العديد من النظريات التي تفسر لماذا كان بعض أسلافنا أكثر قابلية للسيادة وتمرير الجينات من الآخرين، فقبل عدّة ملايين من السنين، عندما كانت تعيش الأنواع البشرية على اختلافها جنبًا إلى جنب، كانوا يعتمدون بشكل رئيسي على النباتات في غذائهم، فلا يوجد إلى الآن أي دليل يُشير إلى أنّهم جابهوا واصطادوا الحيوانات الضخمة من أجل طعامهم.
لكن عندما تغيّرت الظروف، ونزحت الأصناف البشرية من الأشجار والغابات، مُنتقلةً إلى بيئات أكثر جفافًا، اضطرت لتغيير النظام، واتجهت نحو أكل اللحوم مِن حينها. لكن من ناحية أخرى، نجد أنّ تلك الحيوانات التي اصطادوها كانت تُعاني من ندرة وجودة النباتات أيضًا. لذلك، كانت المنافسة على أشدها، الأمر الذي دفع عديد من هذه الأنواع المُصطادة إلى الانقراض.
إذ يمكن القول أنّ دفع التطوّر لبعض الأصناف نحو أكل اللحوم، جعل بعض الأصناف الأخرى تنقرض. لا سيما تلك التي لا تستطيع مُجابهة الأصناف الأقوى.
صحيح أنّ التحول نحوَ أكل اللحوم سرّع في عملية انقراض بعض الأنواع واختفاءها، لكنه لم يصل إلى درجة جعل الصنف البشري الوحيد لليوم ولا يوجد أحد سواه! لا سيما أنّنا منذ وقت قريب جدًا، كنا نتشارك هذا الكوكب مع الكثيرين من الأقرباء.
بالعودة وراءً إلى 30 ألف سنة مضت، بالإضافة لصنفنا البشري، كان هناك ثلاثة أنواع بشرية متواجدة أيضًا هي: (النياندرتال في أوربا وغرب آسيا – الدينيسوفان في آسيا – الهوبيت في الجزر الأندونيسية).
استمر إنسان الهوبيت إلى وقت قريب، إلّا أنّه قبل 18 ألف سنة قد تم القضاء عليه بواسطة فورة بركانية وفقًا للأدلة الجيولوجية في تلك الجزر. لا سيما أنّ تواجد النوع الحي ضمن جزيرة أو منطقة مغلقة دون أن يخرج منها سيؤدي لكارثة في حالة وقوع كارثة!
أمّا بالنسبة للصنف الثاني الذي كان متواجدًا Denisovans، فالأدلة عنه لاتزال قاصرةً، خصوصًا مع عدم وجود منه سوى لأصبع صغير بالإضافة لاثنين من الأسنان، أمّا عن النياندرتال فالأدلة كثيرة جدًا، لا سيما من خلال تتبع طويل لمسيرته ووجود كم لا بأس به من الأحافير. لذلك، ومن أجل معرفة لماذا لا نزال الجنس الوحيد المتبقي من أسلافنا، يجب أن نعرف لماذا هم ماتوا بدورهم.
تُشير الأدلة الأثرية بشكل شبه قطعي إلى أنّ إنسان النياندرتال قد خسر بطريقة ما أثناء مجابهته للإنسان للحديث. يقول الباحث Jean Jacques Hublin اختصاصي في علم الأناسة التطوري من معهد ماكس بلانك بألمانيا: تشرّدَ نوع النياندرتال بعد أن قام الإنسان الحديث بالهجوم على مستوطناتهم، وهذا الأمر من غير المحتمل أن يكون مُصادفة.
تطوّرَ صنف النياندرتال قبل مدة من تطوّر نوعنا الحالي، وعاش بسلام في أوربا قبل أن يصل نوعنا إلى هناك. لكن مع مرور الزمن وقبل حوالي 40 ألف سنة، استطاع نوعنا الدخول إلى أوربا بعد أن كان النياندرتال قد استوطن فيها منذ ما يقرب الـ 200 ألف سنة، فتكيفوا هناك على مناخها البارد، وكانوا في تلك الفترة يرتدون ملابس للتدفئة، بالإضافة لقدرتهم الجيدة على الاصطياد وصنع الأدوات الحجرية الحديثة.
لكن عندما بدأ مناخ أوربا في الترنّح والتغير، كان النيادرتال في وضع دفاعي واقفًا على الحافة.
رغم ذلك لم تكن الحرارة والطقس المشكلة الرئيسيّة حينها، إنّما التغير المناخي العنيف الذي طرأ على تلك المناطق، فأدى إلى تبدل في قدرة بعض الأنواع على الصيد والحصول على الطعام المناسب، فالنياندرتال كانوا ماهرين في الصيد ضمن الغابات أكثر من البشر الحديثين. لكن مع تغير المناخ الأوربي، وانفتاح الغابات وتغيّرها وازدياد ضآلة حجمها. كان النياندرتال في تهديد مُباشر لطعامه ومنزله، لا سيما مع وجود الإنسان الحديث الذي كان أكثر تلائمًا مع هذه البيئة الجديدة من الغابات والمناطق الزراعية.
فالأدلة التحليلية لبعض المواقع تُشير إلى أنّ الإنسان الحديث برعَ في تلك الفترة في الصيد ومطاردة الأرانب والحيوانات البرية، في حين تكاسل النياندرتال عن فعل ذلك، فأدواتهم كانت مُصنّعة خصيصًا لمطاردة الحيوانات الضخمة، فلم يوجهوها نحو الحيوانات الصغيرة. على الرغم من أكلهم للطيور في بعض الأوقات، إلّا أنّها تلك الطيور التي ترافق اصطياد حيوان ضخم، وليسَت الطيور التي اصطادوها بشكل مُباشر.
ولعلَ هنا يكمن الحل عن سؤال لماذا انقرض النياندرتال وساد الإنسان الحديث، فالقدرة على تنفيذ العديد من المهام المختلفة تحت ضغوط كبيرة، بالإضافة للقدرة على الابتكار والتكيّف هي التي دفعت في مجابهة الإنسان الحديث للآخر الذي انتصر عليه.
يقول Hublin مرة أخرى: السرعة في الابتكار تقود إلى فعالية أكبر، والقدرة على استغلال الموارد البيئية هي المفتاح الرئيس للسيادة وتحقيق النجاح في التكاثر والإنجاب.
ويُعتقد أيضًا أنّ هناك أشياء جوهرية إضافية ساعدت في سيادة الإنسان الحديث، والأدلة تُشير وتؤكد هذا الكلام بدورها.
نحن نعلم أنّ الأدوات التي استخدمها النياندرتال كانت فعّالةً في المهام التي اعتادوا أن يفعلوها. لكن عندما وصل الإنسان الحديث إلى أوربا كان أفضل منهم، فالأدلة تُشير إلى أنّ الحديث استطاع ابتكار العديد من الاختراعات الجديدة القاتلة.
لكن ليست الأدوات ووسائل القتل هي التي ساهمت في هذا الأمر فقط، فهناك أشياء أخرى قد تمكن الحديثون من إنشائها وساهمت في سيادة صنفهم أيضًا، وفي مقدمتها ما يعرف بالفن الرمزي Symbolic Art.
بعد فترة قصيرة من خروج الإنسان الحديث من أفريقيا، كان هناك بعض الأدلة على صناعتهم لهذا الفن الرمزي، فقد وجد علماء الآثار بعض المجوهرات وغيرها من الصور التي تجسد الحيوانات وبعض الوحوش الأسطورية، وحتى الآلات الموسيقية أيضًا.
وعندما اجتاح الحديث أوربا، ارتفع عدد سكانها وتضخم إلى حد كبير، الأمر الذي دفع لنشوء وحدات اجتماعية أكثر تعقيدًا، وأكثر حاجة لأدوات جديدة متطوّرة من أجل التواصل.
وبحلول الـ 40 ألف سنة الماضية، كان سكان أوربا يصنعون بعض الأشياء تحت مُسمى الفن. إذ استطاعوا أن ينحتوا تمثال أسد بشري من الخشب تمَ اكتشافه في كهف في ألمانيا، كما تم العثور على منحوتات أخرى قريبة من ذلك.
وبهذا يمكن القول أنّ الفن كان جزء مهم من الهوية البشرية في القدم، الأمر الذي نجح في تجميع بعض الفصائل المختلفة مع بعضها البعض. بكلمات أخرى، كان الفن في تلك الفترة نوع من الغِراء الاجتماعي الذي استطاع أن يلصق مختلف المكونات، الأمر الذي ساعد في تنظيم الأمور الاجتماعية والاقتصادية للسكان في ذلك الوقت.
لكن في محاولة لنقض هذا الكلام، يقول أحد الباحثين: الإنسان القديم لم يكن يحتاج للفن ولا للرموز. نعم هناك أدلة محدودة على وجود بعض الحلي والمجوهرات، لكن لربما ليسَ هم من فعل ذلك. نعم، هم قاموا بالصيد والنوم والأكل والتكاثر، لكن الرموز والنحت وغيرها لم تكن لتساعدهم في فعل ما فعلوه من أصله!
بالعودة للرمز، فالعديد يؤكدون أهميته في الانتشار والعبور من جيل إلى جيل ولعلَ اللغة أبسط مثال على ذلك، فتبادل المعلومات يمكّن كل فكرة في كل ذهن أن تُخلّد وأن تتناقل من شخص لشخص آخر. لا سيما أنّ الأيدي التي استطاعت أن تصنع الأدوات المتطورة، قادرة على صناعة رموز ليتم التواصل من خلالها، مما يُشير أيضًا إلى قدرة الإنسان على إحداث التغيّرات السلوكية الفريدة أيضًا.
فالبشر الحديثون والقدماء لديهم القدرة على إيجاد العديد من الحلول لمشكلة واحدة، ولعلَ هذا الأمر يعود لتركيبة الدماغ الفريدة، فهل ينبغي أن نشكر أدمغتنا على هذا؟
في الواقع قد تكون الحقيقة أعقد من ذلك، فالإنسان المنتصب Homo Erectus استطاع أن يبقى لوقت طويل ويتواجد ضمن أفريقيا كأحد أول الأصناف البشرية – قبل النياندرتال حتى – إلّا أن دماغه كانت صغيرة نوعًا ما.
من أجل ذلك، لا يوافق علماء الأنثروبولوجيا على فكرة أنّ العقول الكبيرة كانت هي الحل والسبب في السيادة، قد تكون لعبت دورًا في النجاح، إلّا أنّ الاتكال عليها تمامًا غير صائب، لا سيما أنّ النياندرتال كانت تملك عقولًا بنفس حجم أجسامها، إلّا أنّ الباحث Hublin قال أنّ لا بد من وجود تفسيرات أكثر دقة من ذلك. لا سيما أنّ السلوك والظروف التي يمر بها الجميع قادرة على إحداث تغيّرات في النظام الجيني.
ومن أمثلة قدرة الظروف على تغيير الجينات، لدينا الأوربيين عندما استطاعوا هضم اللاكتوز عندما بدأ أسلافهم بتناول منتجات الألبان، كما أنّ هذه التغيرات الوراثية يمكن أن تحدث عندما تواجه مجموعات كبيرة وباءً ما كالطاعون مثلًا، الذي استطاع أن يبدل جينات الذين نجو منه في القرن الرابع عشر.
وبطريقة مماثلة لهذا، يقترح Hublin أنّ البشر الحديثون استطاعوا الاستفادة من هذه التغيرّات الرئيسية التي طرأت على اسلافهم، ففي البداية تصرّف الصنف البشري الحديث كبقية أقربائه، لكن فيما بعد بدأ التعقيد يظهر لديهم، وبدأت الرموز والآثار تدخل إلى حياتهم.
وهناك أدلة تُشير إلى حدوث شرخ في الحمض النووي الذي تشاركناه لفترة ما مع إنسان النياندرتال، لكن بعد ذلك أصبح كل صنف في طريق جيني مختلف عن الصنف الآخر. خصوصًا أنّ العلماء استطاعوا تحديد العديد من الجينات التي ميّزتنا عن أقربائنا وبالأخص تلك الجينات المسؤولة عن نمو وتطوّر الدماغ.
وهنا يمكن القول أنّ حجم الدماغ قد لا يكون له دور بقدر أهمية الطريقة التي ساهمت في تطوّر الدماغ بحد ذاته. لا أحد يستطيع تحديد الطريقة التي ساهمت بتحفيز الدماغ على وجه الدقة، لكن البعض يرجح القدرة على التعاون والتواصل، إضافةً إلى اللغة ساهمت في زيادة نموه، وساهمت في سيادة نوع الإنسان الحديث.
وفي نهاية المطاف يمكن القول أنّه في البداية كان الجميع ضمن طبقة واحدة، إلّا أنّ الانفجار في أعداد الإنسان الحديث أدى لتراجع الأنواع الأخرى، وزيادة الأعداد هذه ترجع للأمور التي أسلفنا ذكرها في المقال.
لكن هناك احتمال صغير لا بد من أن نُشير إليه أيضًا، وهو أنّ الأمر برمته كان فرصةً وحيدةً تم اقتناصها وحسب. فرصة جعلت من نوعنا هو النوع المحظوظ الذي نجا في حين سقط الجميع في دوامة صراع الطبيعة، صراع البقاء للكائن القادر على التكيّف، القادر على الابتكار، والقادر على التعاون والتواصل مع الآخرين.
تم نقل المقال من مجلة أراجيك بالتصرف.
اقرأ أيضًا: مصطلحات نظرية التطور في الانجليزية