يشتهر التانجو الأرجنتيني بكونه رقصة صعبة الأداء لكنها مثيرة، ويمكنك التأكد من ذلك من نظرة واحدة على أداء الراقصين المحترفين مورا جودوي وخوسيه لوجونز. سواء كانا يرقصان وجهًا لوجه أو بزاوية مائلة، فإنهما يتحركان بسرعة هائلة على الساحة، وسيقانهما تدور وتصدر صوتًا يشبه أزيز نصل المروحة.
فعندما ترفع مورا ساقها المثنية إلى الأمام، يرد خوسيه بتحريك ساقه إلى الخلف بسرعة، وينزلق الثنائي بسهولة بين الجمل الموسيقية ذات الإيقاعات المختلفة، وتدور أفخاذهما معًا في انسجام تام، وتتطابق كل نقرة تُحْدِثها أصابع أقدامهما، وكذلك كل حركة تقوم بها سيقانهما.
بالطبع، لا يستطيع الجميع التحرك بالسلاسة النابضة بالحيوية مثل هذا الثنائي البارع. إلا أننا جميعًا شعرنا يومًا ما بالرغبة في الرقص، وهي تلك الرغبة التي دعت عددًا لا يحصى من البشر من جميع الثقافات إلى ممارسته على مدار تاريخ البشر. ومع ذلك، فإن الرقص يُعَدُّ ممارسة نادرة داخل مملكة الحيوان. فعلى الرغم من أن هناك القليل من الأنواع الأخرى التي تستطيع أن تحرك أجسادها بالتزامن مع الإيقاع، لم يُظهِر أيٌّ منها درجة التعقيد التي يتسم بها الرقص الذي يمارسه البشر.
لماذا يُعَدُّ الرقص سمةً شائعة لهذه الدرجة بين البشر، ولماذا نجيد ممارستها إلى هذا الحد؟ في الأعوام الأخيرة بدأ العلماء في تحديد الخصائص الدماغية والجسدية التي تقف وراء هذه القدرة الاستثنائية. ترتبط بعض هذه الخصائص باللغة والحركة في القامة المنتصبة، وهما صفتان أسهمتا إلى حد كبير في نجاح السلالة البشرية. ومن ثَم، ربما يكون الرقص حدثًا تطوريًّا سعيدًا وليد الصدفة، مجرد نتيجة غير مباشرة للانتخاب الطبيعي لتلك السمات الأخرى التي ساعدت أسلافنا على البقاء والنجاح. ومع هذا، تشير بعض الآراء الثاقبة من علم النفس وعلم الآثار إلى احتمال آخر مثير للاهتمام، وهو أن الرقص في حد ذاته تطور بوصفه سمةً تكيُّفية ربما تكون قد أسهمت في تقوية الروابط الاجتماعية بين البشر بطريقة حسَّنت من القدرة على البقاء على قيد الحياة.
الإحساس بالإيقاع
إذا ما قمنا بتحليل الرقص إلى عناصره الأساسية، سنجد أنه الإحساس بتوقيت الإيقاع الخارجي وتوقعه، ثم ملاءمة هذا الإيقاع مع الحركات الإيقاعية للجسم. تتطلب هذه الإجراءات قدرًا عاليًا من التنسيق بين أجزاء الدماغ المختلفة.
على مدار العقد الماضي، بدأ باحثون في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا في تحديد شبكات من الخلايا العصبية في أعماق الدماغ البشري تعمل بصورة متناسقة لفصل الإيقاع عن الإشارات السماعية الخارجية. وبمجرد أن تتعرف هذه الشبكات العصبية على النمط الأساسي للإيقاع، فإنها تتوقع توقيت دقات الإيقاع التالية، وتولِّد ترتيبًا متناسقًا معها بصورة تلقائية داخل الدماغ.
والخطوة التالية هي ما يجعل الرقص ممكنًا؛ إذ تبدأ أجزاء الدماغ التي تتحكم في العضلات في إطلاق إشارات بالتزامُن مع الدقات الإيقاعية التي تتوقعها الشبكات السمعية. (وبالفعل، تنشط مناطق الدماغ المسؤولة عن تخطيط الحركة، حتى وإن وقف الشخص ثابتًا وهو يستمع فقط إلى الإيقاع). يقف هذا الترابط بين المعالجة السمعية والحركة البدنية الإيقاعية وراء قدرتنا على النقر بالأصابع بإيقاع منتظم، أو قدرتنا على أداء رقصة الفالس، ويطلق العلماء على هذه الظاهرة “التزامن”.
ما لم يحُل المرض دون ذلك، يتمتع البشر بالقدرة على تحقيق “التزامن” طبيعيًّا، إذ نستطيع الحفاظ على تأدية حركات إيقاعية عبر نطاق واسع من سرعات الإيقاع لمدد زمنية طويلة. ويؤكد أنيرود دي. باتل -عالِم الأعصاب بجامعة تافتس- قائلًا: “تتسم قدرتنا على تحقيق التزامن بالمرونة الفائقة. فيمكننا الحفاظ على هذا التزامن، سواء تسارع أو تباطأ بنسبة تزيد أو تقل عن 30%”. وتنشأ هذه القدرة بصورة عامة لدى الإنسان بين عمر ثلاثة أعوام إلى خمسة.
ظل العلماء أعوامًا عديدة يظنون أن البشر فقط هم مَن لديهم القدرة على توفيق حركاتهم الجسدية بالتزامن مع الأصوات الخارجية. ثم في عام 2009، ظهرت دراسات تثبت أن الببغاوات والطيور الطنانة وربما الطيور المغردة أيضًا تستطيع -إلى حدٍّ ما- ضبط حركاتها مع الموسيقى أيضًا. وكان الببغاء “سنو بول”، وهو ذكر ببغاء من فصيلة الكوكاتو، الشهير بقدرته على هز رأسه إلى أعلى وإلى أسفل مع موسيقى إحدى أغاني فرقة “باك ستريت بويز” ضمن الطيور التي خضعت للدراسة. وفي عام 2013، ذكر باحثون أن أنثى حيوان أسد البحر الكاليفورني، وتُدعى “رونان”، استطاعت أن تحرك رأسها مع مجموعة متنوعة من الإيقاعات الموسيقية.
غير أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يؤدي الحركات شديدة التناسق المطلوبة في الرقص مع شريك أو في مجموعة. ويقول باتل إن الطيور التي تستطيع أن تتحرك بالتزامن مع الموسيقى تفعل ذلك من تلقاء نفسها. وحتى حين تكون هناك مجموعة من الببغاوات تعيش مع بعضها في أحد الملاجئ، فإنها لا تنسق حركاتها معًا أو ترقص مع بعضها.
لعبة التقليد
الرقص ليس السمة البشرية الوحيدة التي تعتمد على “التزامن”، فالتحدث والغناء أيضًا يتطلبان القدرة على إحداث توافق بين الصوت والحركة الجسدية، لا سيما الأحبال الصوتية وعضلات الحلق. وتَتبُّع المسارات العصبية المشتركة في نطق الكلمات منح باتل فكرة عن كيفية تطوُّر القدرة على تحقيق التزامن بين الأعصاب التي تعالج الصوت وتلك التي تتحكم في العضلات. ويشير بحثه إلى أن التطورات العصبية التي أتاحت للبشر التعلُّم وإنتاج لغة منطوقة هي ذاتها التي أعدتنا أيضًا لنكون راقصين.
ومن وجهة نظر باتل، فإن القدرة على محاكاة الأصوات قد مهدت الطريق لتحقيق التزامن التنبُّئي المرن. وتثبت هذه المحاكاة ما يسميه الباحثون “التعلُّم الصوتي”، وهي عملية يستمع فيها الحيوان بعناية إلى أحد الأصوات ويشكل نموذجًا ذهنيًّا له، ثم يضبط التحكم الحركي للحلق واللسان والفم بما يتوافق مع ذلك النموذج، ثم ينتج الصوت المحاكى. وعندما يستمع الحيوان إلى هذا الصوت، فإنه يلاحظ التناقضات بين الصوت المتوقع والصوت الحقيقي ويصححه، ثم يعيد المحاولة. ويشير باتل إلى أن التنسيق بين المعالجة السمعية والمعالجة الحركية المطلوبة لتقليد الأصوات قد أرسى الأساس العصبي اللازم لعملية تحقيق التزامن السمعي الحركي التنبُّئي الأكثر تعقيدًا فيما بعد.
لماذا تطور التعلُّم الصوتي في حيوانات بعينها؟ يفترض بعض العلماء أن التعلُّم الصوتي ربما ساعد الطيور المغردة على إجادة تأدية عروض صوتية معقدة للإعلان عن رغبتها في التزاوج. ويقول باتل إن هذا الأمر زوَّد الببغاوات بما يشبه “شارة صوتية؛ شيء يميزها كعضو في مجموعة محددة”.
إذا كانت فرضية باتل بأن المحاكاة الصوتية شرط أساسي يجب توافره لتحقيق التزامن السمعي الحركي، فستكون الحيوانات الوحيدة القادرة على تحقيق هذا التزامن هي فقط الحيوانات القادرة بالفعل على تقليد الأصوات. وحتى الآن، الحيوانات المعروف عنها قدرتها على تقليد الأصوات الخارجية هي البشر والطيور الطنانة والببغاوات والطيور المغردة والحيتان وبعض الثدييات البحرية زعنفية الأقدام (الفقميات) والفيَلة وبعض الخفافيش. وفي الوقت نفسه، لا تستطيع الحيوانات الأقرب إلينا -كقردة البونوبو والشامبانزي- تعلُّم الأصوات، وتشير معظم الأدلة التي جرى التوصل إليها حتى الآن إلى أنها لا تستطيع تحقيق التزامن. وعلى الرغم من أن إحدى إناث الشامبانزي استطاعت في إحدى الدراسات تحقيق تزامن بين نقراتها وأحد الإيقاعات، فإنها لم تستطع مجاراته عندما تغير الإيقاع. اكتشف باحثون أيضًا أن إحدى إناث قردة البونوبو أظهرت قدرة على القرع مع الإيقاع، لكنهم يُحذرون من أنها ربما كانت تراقب إشارات الشخص الذي اختبرها بدلًا من مجرد الاستجابة لما كانت تسمعه.
تدعم هذه الملحوظات فكرة أن المحاكاة الصوتية ربما تكون سلفًا ضروريًّا للقدرة على تحقيق التزامن، بيد أنها ليست بالأمر اليسير على الإطلاق.
ليس من السهل إثبات القدرة على تحقيق التزامن في الكائنات الأخرى غير الإنسان. لنتأمل الحوارات الثنائية المعقدة التي تجريها بعض أنواع الطيور المغردة، فهل تتبادل الأدوار في الغناء من خلال الحفاظ على الإيقاع، فتتوقع متى سينتهي الطائر الآخر من الغناء، أم أنها تتفاعل فقط مع صمت شريكها؟ وكيف يمكنك فعليًّا أن تختبر هذا الأمر؟
غير أن المشكلة الكبرى التي تواجه فرضية باتل للمحاكاة الصوتية هي “رونان”، أنثى أسد البحر التي تهز رأسها لأعلى وأسفل. ليس معروفًا عن أسد البحر قدرته على تعلُّم الصوت مع أنه قريب في النوع من فظ البحر والفقمة اللذَين يستطيعان ذلك. ومع هذا، أثبت باحثون في جامعة كاليفورنيا بسانتا كروز في عام 2013، أن “رونان” تمكنت من تحريك رأسها بالتزامن مع دقات الإيقاع، ثم في وقت لاحق مع موسيقى أكثر تعقيدًا. وقد أظهرت المزيد من الاختبارات أنها استطاعت بنجاح الحفاظ على اتساق حركاتها مع الإيقاع حتى عندما زادت سرعة الإيقاع أو انخفضت.
ثمة طرق عدة لتفسير قدرة “رونان” الواضحة، فربما تكون مجرد أسد بحر فريد يتمتع بموهبة فذة، وهذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة. أو ربما لا يزال لدى أسد البحر الآلية العصبية التي تمكِّنه من المحاكاة الصوتية لكنه لم يعد يستخدمها فحسب.
يُحتمل بطبيعة الحال أن تُثبت قدرة “رونان” خطأ فرضية المحاكاة الصوتية. ويشير باتل وغيره من الباحثين إلى أن إحدى الطرق لاختبار هذه الفرضية هي تحديد ما إذا كان يمكن تعليم الخيول –وهي حيوانات لا تستطيع تعلُّم الأصوات وليست قريبة من أحد تلك الأنواع- القدرة على تحقيق التزامن هي الأخرى أم لا. وتقول مارا برين -الأستاذ المساعد في علم النفس بكلية ماونت هوليوك كوليدج، التي تختبر فرضية باتل على الخيول-: “ينبغي ألا تكون الخيول قادرة على تحقيق التزامُن مع إيقاع معين، إلا أنه ثمة أدلة شفهية واسعة الانتشار تزعم قدرتها على ذلك”. وإذا اتضح أن هذا الحيوان لديه القدرة على تحقيق التزامن، فإن هذا يعني أن العملية ربما لا تكون بالصعوبة التي نتصورها في النهاية، أو أنها تطورت في أنواع أخرى من الكائنات لأسباب مختلفة عن تلك التي أدت إلى وجودها في البشر.
هل أدَّت القدرة على الركض دورًا؟
على عكس الرقص لدى المخلوقات الأخرى، فإن الرقص البشري يتخطى مجرد هز الرأس لأعلى وأسفل ليتضمن حركات متسقة لجذع الجسم والأطراف. إلى أي مدى قد يكون تطور الإنسان ليتمتع بقامة منتصبة قد أثر في قدرته على الرقص؟ استرعت إحدى الأفكار في هذا الشأن اهتمام الباحثين في الأعوام الأخيرة، وهي أن الرقص ربما يكون قد نشأ عن قدرتنا على الركض -في مقابل مجرد السير- على قدمين.
يقول دانيال إي. ليبرمان -العالِم المتخصص في علم الأحياء التطوري بجامعة هارفارد، والذي شارك في عام 2004 في تأليف ورقة بحثية مهمة نُشرت في دورية Nature حول دور الركض لمسافات الطويلة في تطور الإنسان-: “إننا نستفيد قطعًا من كوننا نسير على قدمين عندما نرقص”. لكن هذا الأمر يختلف عما تطور البشر لفعله؛ إذ يقول ليبرمان: “لقد تطورنا لممارسة السير والركض والقذف والحفر”. فالانتخاب الطبيعي لهذه الصفات مكَّن أسلافنا -ولا سيما الإنسان منتصب القامة (Homo erectus)- من تطوير مهاراتهم في الصيد والبحث عن الغذاء.
ويضيف ليبرمان قائلًا: “يتمتع الإنسان بجميع أنواع التعديلات الرائعة التي نعتقد أنها تطورت من أجل تمكينه من الركض”. فعلى سبيل المثال، أصبحت أصابع الأقدام أقصر في الإنسان الحديث عنها في أسلافنا، ومن وجهة نظر الميكانيكا الحيوية، فإن هذا الأمر غير ضروري للتمكين من السير، لكنه يزيد من كفاءة الركض. كما أصبحت القنوات الثلاث الهلالية داخل الأذن الداخلية أكبر حجمًا على مدار آلاف السنين، مما يساعد الإنسان على الحفاظ على توازنه كلما حرك رأسه، حتى يتسنى له التحرك بسرعة أعلى وبرشاقة أكثر، وهذه التعديلات مفيدة أيضًا في الرقص.
ومن منظور ليبرمان، قد يكون الرقص نتيجة عرضية نشأت عن تطور الركض الذي أثبت أنه مفيد لدرجة أنه أضفى الميزة الانتخابية الإضافية الخاصة به. ويقول ليبرمان: “ليس بالضرورة أن تكون المسألة إما وجود علاقة تطورية كاملة أو عدم وجود علاقة على الإطلاق، فقد يكون الأمر جزئيًّا. فربما تكون الطبيعة قد اختارت الرقص، أو ربما لم تختره على الإطلاق، أو ربما اختارت بعض عناصر الرقص. غير أن اختبار هذه الفرضيات أمر شديد الصعوبة”.
جهد جماعي
تقدم الملحوظات التي رُصِدَت للراقصين في العصر الحديث بعض الأدلة المثيرة للاهتمام على أنواع المزايا التي ربما كان الرقص قد منحنا إياها في ماضينا التطوري. تتمثل إحدى السمات البارزة لرقص البشر في أننا نميل إلى ممارسته في مجموعات؛ فعندما يشعر بعضنا بحركات بعض ويتوقعها، تنشأ علاقة جسدية وعاطفية من الأخذ والعطاء بين الأفراد، سواء كانوا يرقصون التانجو في ثنائيات أو في حشود من الآلاف يستمعون بحماس لبرونو مارس في إحدى حفلاته.
تمثل هذه القدرة الجماعية ما يمكن أن نطلق عليه التزامن الاجتماعي، وتدعم المصطلح الذي صاغه إميل دوركايم، الذي أسهَم في إنشاء مجال علم الاجتماع في أواخر القرن التاسع عشر، وهو “الانفعال الجماعي”، أو شعور الشخص بأنه جزء من شيء أكبر منه. ويمكن أن يكون لهذا النوع من التماسك والترابط الاجتماعي قيمة كبيرة في الأنشطة الهادفة إلى الحفاظ على الحياة، مثل جمع الغذاء أو تجنُّب الحيوانات المفترسة.
وقد نقل عالم الأنثروبولوجيا إدوارد هاجن -من جامعة ولاية واشنطن بفانكوفر- هذه الفكرة خطوة أبعد، فهو يفترض أن الموسيقى والرقص ربما تطورا كطريقة تستخدمها الجماعات لتقييم بعضها بعضًا عند السعي لتكوين تحالفات تتخطى صلة القرابة. فربما يعطي مدى قدرة مجموعة ما على الرقص معًا، على سبيل المثال، مؤشرًا على مدى قدرة أعضائها على التصرف كجزء من تحالف أكبر.
يضفي التماسك الاجتماعي الأقوى فوائد فسيولوجية أيضًا. فقد أظهرت دراسة أجراها علماء بجامعة أكسفورد عام 2010، أن النشاط الجسدي المتزامن المدفوع بهدف مشترك -والذي كان في تلك الحالة التجديف في نادي القوراب التابع للجامعة- زاد من قدرة المشاركين على تحمُّل الألم زيادةً ملحوظة، مقارنةً بالتمرين الفردي. وقد أرجع مؤلفو الدراسة السبب في ذلك إلى زيادة إفراز الإندورفينات، وهي مركبات أفيونية طبيعية تُفرز في المناطق الدماغية المرتبطة بالحالة المزاجية. ويقول روبين آي. إم. دونبار -عالِم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري بجامعة أكسفورد- بأن هذه الإندورفينات تقوي الروابط الاجتماعية عندما يشترك الناس في أنشطة موسيقية جماعية أيضًا.
ويقول عالِم الآثار كلايف جامبل -الأستاذ بجامعة ساوثهامبتون في إنجلترا-: “لك أن تتخيل مجتمعين، أحدهما لا يمارس الرقص والآخر يمارسه، وذلك الأخير يتمتع بروابط اجتماعية أقوى من الآخر”، ويضيف أنه إذا وُضِع المجتمعان في موقف تنافسي “سيحظى المجتمع الذي يمارس الرقص بميزة تطورية”.
ونظرًا لندرة الأدلة المباشرة حول نشأة الرقص، تحول تركيز اهتمام العلماء في مجالات مختلفة إلى سلوك المجتمعات القليلة الباقية حتى اليوم التي تعيش على الصيد والجمع والالتقاط للعثور على ما يستدلون به على ماضي أسلافنا. وتقدم الطريقة التي كانوا يعيشون بها أقرب صورة ممكنة لعلماء الأنثروبولوجيا حول النحو الذي كانت تبدو عليه المجتمعات البشرية قبل الانتشار الواسع لممارسة الزراعة قبل عشرة آلاف عام.
تدرس عالِمة الأنثروبولوجيا التطورية كاميلا باور -من جامعة إيست لندن- قبيلة “الهادزا” التي تعيش في شمال تنزانيا في جماعات تتراوح أعدادها بين 20 و30 شخصًا، ويتمتع فيها الرجال والنساء بمساواة اجتماعية. وعلى مدار الأجيال، خلق الرقص ترابطًا عاطفيًّا بين قبيلة “الهادزا” وغيرها من الجماعات، من ضمنها قبائل “باياكا” في وسط أفريقيا و”سان” في صحراء كالاهاري، في “تصورات مشتركة”. فتقول باور إن المشاركين يؤدون احتفالات لقبول أعضاء جدد، وطقوس علاجية، والعلاقات بين الجنسين، إلى جانب أشياء أخرى. وتتضمن الطقوس الأساسية للرقص في قبيلة “الهادزا” اصطناع “حروب بين الجنسين”، إذ تسخر النساء من الرجال ثم يرد الرجال الأمر على النساء. وتقول باور: “تشكل هذه الديناميكية أساس المساواة”، إذ توطد النساء سلطتهن، بل وقد يقمن ببعض أدوار الرجال، ويحفزن الرجال على الصيد في مقابل الحصول على “عناق” عند عودتهم.
وثمة دليل غير مباشر على أن الرقص في مجموعات كبيرة كان يُمارَس منذ آلاف السنين. فالمناطق التي تُعرف بمواقع التجمعات الأثرية -وهي مساحات واسعة أصبحت مستوية من سير الأقدام عليها، اكتُشفت فيها آلات موسيقية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ- تُقدِّم أدلةً على أن هذه الأنشطة كانت تمارسها شعوب العصر الحجري القديم العلوي. ومن بين تلك المواقع كهف “إستوريتز” في جبال البرانس الفرنسية الذي عُثِر فيه على آلات نفخ موسيقية مصنوعة من العظام يعود تاريخها إلى ما بين 35 ألف عام و20 ألف عام.
إيان مورلي -العالِم المتخصص في الحفريات والأنثروبولوجيا بجامعة أكسفورد، ومؤلف الكتاب الصادر في عام 2013 بعنوان “الموسيقى ما قبل التاريخ: التطور البشري وعلم الآثار ونشأة علم الموسيقى” The Prehistory of Music: Human Evolution, Archaeology, and the Origins of Musicality- يقول: “يتضح من الأدلة الأثرية الأخرى أن الكثير من المجموعات المختلفة كانت تجتمع في هذه المواقع في أوقات محددة من العام. وعندما نرى هذا النوع من النشاط الذي تشارك فيه مجموعة كبيرة من الناس في المجتمعات القائمة على الصيد والجمع والالتقاط اليوم، نرى أنه عادةً ما تصاحبه الموسيقى والرقص”. لذا يعتقد مورلي أن أسلاف البشر كانوا على الأرجح يستمتعون بالموسيقى والرقص لعشرات الآلاف من السنين، وهي فترة طويلة تمثل متسعًا من الوقت ليمارس التطور تأثيره على النتائج.
ثمة حقيقة مطلقة حول هذا النوع الأكثر مراوغة من أشكال الفنون: وهي أن الرقص يُعَدُّ وسيلة للتواصل سواء بين المشاركين فيه أنفسهم أو بين المشاركين فيه ومشاهديهم؛ فالراقصون، في الحقيقة، يشاركون عالمـًا من ابتكارهم.
وفي أثناء قيامهم بذلك، تتغير أدمغتهم أيضًا؛ فقد أقر الأطباء الإكلينيكيون والباحثون على حد سواء بفوائد الرقص للمرضى الذين يعانون اضطرابات حركية مثل داء باركنسون. وبالفعل، يستطيع الكثيرون ممن يعانون من الارتجاف والتيبس والصعوبة في بدء الحركات -وجميعها من أعراض داء باركنسون- استعادة بعضٍ من قدرتهم على تحقيق التزامن في الحركات بحضور دروس في الرقص. كما تساعد دروس الرقص هذه في تحقيق فائدة إضافية تتمثل في إنشاء روابط اجتماعية ربما يكون المرض قد تسبب في تقليصها.
وبطبيعة الحال، ليس الهدف من حضور مرضى داء باركنسون لدروس الرقص أن يتحول المريض إلى أحد محترفي الرقص العالميين، لكن هذه الدروس تُحدِث قدرًا من التغيير؛ إذ إن هذا النشاط العتيق من الأنشطة البشرية يحقق اتحادًا بين الجسد والعقل بطرق بدأنا لتونا نحاول الإمساك بخيوط فهمها.
اقرأ أيضًا: طيور حمراء تُجري تحويلات كيميائية للألوان
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.