في الفيلم الأمريكي الشهير الذي عُرض في صيف عام 2015 وحقق نجاحًا هائلًا “الرجل النملة” Ant-Man، يشير بطل الفيلم “هانك بيم”، العالِم الذي ابتكر رداءً يمكنه تقليص حجمه إلى حجم نملة، إلى أن النمل بإمكانه عمل إنجازات مثيرة للإعجاب، لكنه يحتاج فقط إلى قائد يرشده. فيضع بيم جهازًا صغيرًا خلف أذنه يسمح له بتوجيه النمل ليتصرف ككتيبة من المهاجمين؛ لمساعدته في القضاء على الشخصية الشريرة بالفيلم.
لقد حققت فكرة وجود قادة للنمل يخططون مسيرته وينسقون أنشطته صدى بسبب الطريقة الهرمية التي تعمل بها العديد من المؤسسات البشرية، كما أنها تقدم مادة خصبة مناسبة لفيلم من أفلام هوليوود يلعب بطولته بشر. لكن ثمة مشكلة واحدة: إن هذا الاعتقاد عن النمل خطأ؛ فالنمل لا يسير مطلقًا بإيقاع موحد كما الجنود متحدًا في طاعة تحت إمرة قائد واحد. على أرض الواقع، تجتمع التصرفات التي غالبًا ما تكون عشوائية وتبدو ظاهريًّا خرقاء للنمل المنفرد، كل منه على حدة ودون أي شعور بوجود هدف مشترك، لتسمح للمستعمرات بالبحث عن الغذاء وجمعه، أو بناء الأعشاش، أو تكوين المسارات التي يسلكونها للبحث عن الطعام وبناء الجسور، أو الدفاع عن النباتات التي تستضيفها ضد الحيوانات العاشبة أو حرث الحدائق -كل هذا دون إشراف من أحد؛ فالنمل لا يحتاج إلى قائد، ولا يحدث مطلقًا أن تُخبر نملةٌ الآخرين بما يجب عليهم فعله.
ومستعمرات النمل ليست الوحيدة في الطبيعة التي تعمل دون سيطرة مركزية. فالسلوك الجماعي، دون انتظار تعليمات صادرة من سلطة أعلى، يحدث في كل مكان، بدءًا من أسراب طيور الزرزور التي تحلق في منحنيات ودوائر واسعة في السماء، إلى شبكة الخلايا العصبية التي تسمح لك بقراءة هذه الجملة، إلى الجزيئات التي تعمل مع الجينات لصنع البروتينات. فالنتائج المتعددة للسلوكيات الجماعية تتحقق من خلال تفاعلات بسيطة بين الأفراد، سواء كان هؤلاء الأفراد نملًا أو طيورًا أو خلايا عصبية أو جزيئات.
عندما بدأتُ دراسة الأنظمة التي تعمل دون سيطرة مركزية عندما كنت طالبة في مرحلة الدراسات العليا، بحثت عن نظام يمكن ملاحظة التفاعلات داخله بسهولة، ولم يكن العثور على النمل صعبًا. هناك أكثر من 14 ألف نوع من النمل ينتشر في كل البيئات الأرضية على سطح الكوكب، ويعمل على بناء الأعشاش في الأرض، وفي تجاويف الأشجار والأغصان، وتحت الصخور، وفي الأوراق أعلى ظلال الغابات. وتختلف أنواع النمل اختلافًا كبيرًا في طبيعة غذائها؛ بدءًا من رحيق الأزهار إلى الفطريات والحشرات الأخرى. ويتبدى السلوك الجماعي في جميع أنواع النمل، ومن ثَم فإنه يمثل فرصة مثالية لمعرفة كيف تطور هذا السلوك لحل المشكلات البيئية المتنوعة التي تواجهها مستعمرات النمل.
وقد كشفت دراساتي لأنواع عديدة من النمل في مختلف الظروف البيئية، من الصحراء إلى الغابات الاستوائية، عن استخدام كلٍّ منها للتفاعلات بشكل مختلف لزيادة النشاط أو إبطائه أو مجرد الحفاظ على وتيرة مسيرته، على سبيل المثال. وتشير هذه النتائج إلى وجود توافق وتناغم بين الوضع البيئي والطريقة التي تضبط بها التفاعلات البسيطة السلوك الجماعي. قد تكون آلية التطور قد تقاربت في مجموعة من الأنظمة التي تعمل دون سيطرة مركزية لإنتاج خوارزميات متشابهة لمواجهة التحديات البيئية المتشابهة.
تفاعلات بسيطة
تشترك جميع أنواع النمل في بعض السمات، من بينها التشابه في كيفية تنفيذ المهام. فالنمل يعيش في مستعمرات تتكون من العديد من العاملات العقيمات (النمل الذي تراه دائم التجول)، وواحدة أو أكثر من الإناث الأكثر خصوبة التي تظل دائمًا داخل العش، وعلى الرغم من تسمية الإناث الخصبة بالملكات، فإنهن لا يمارسن أي قوة سياسية، ويقتصر دورهن فقط على وضع البيض. ولا يمكن للملكة، أو أية نملة أخرى، تقدير ما يجب عمله وإعطاء الأوامر للآخرين. بالإضافة إلى ذلك، يمتلك جميع النمل حاسة شم قوية قادرة على التمييز بين مئات المواد الكيميائية، ويشم النمل الروائح عن طريق قرون الاستشعار. وعندما تلمس نملةٌ نملةً أخرى بقرون استشعارها، فإنها يمكنها تمييز الرائحة التي تحملها النملة الأخرى في الطبقة الدهنية الخارجية مما يُعرف باسم الهيدروكربونات الجلدية، والتي تساعد على منع الجفاف. ويعرف العلماء أنه في بعض الأنواع تستجيب كيمياء الهيدروكربونات الجلدية للظروف البيئية، فرائحة النملة الحاصدة التي تبحث عن الطعام في الصحراء الحارة تختلف عن رائحة النملة التي تقضي معظم وقتها في العش؛ ونتيجة لذلك، فإن رائحة النملة تعكس مهمتها.
وللتعرف على كيفية تواصُل النمل عبر قرون الاستشعار، قمتُ أنا ومايكل جرين، من جامعة كولورادو بدنفر، بإجراء تجارب عملنا خلالها على طلاء خرز زجاجي صغير بمستخلص الهيدروكربونات الجلدية من نمل يقوم بمهام محددة، ثم وضعنا الخرز داخل أعشاش النمل. فوجدنا أنه عندما تلمس نملةٌ نملةً أخرى بقرون استشعارها، فإن الرسالة التي تصل إليها هي أنها قابلت نملة لها هذه الرائحة المحددة. ولقد اتضح أن معدل التفاعلات أساسي لكيفية استجابة الحشرة؛ فقد تمكنَّا في تجاربنا من إحداث تغيير في سلوك المستعمرة عن طريق تغيير تكرار تلامس النمل مع الخرز الزجاجي.
إذن كيف تنظم مستعمرات النمل عملها فقط باستخدام تفاعلات بسيطة قائمة على حاسة الشم؟ لقد قضيتُ الثلاثين عامًا الماضية في دراسة النمل الحاصد في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن الحاجة إلى الحفاظ على المياه بالنسبة لهذا النوع من النمل كانت هي القوة الدافعة وراء تطور العملية التي تستخدم التفاعلات في تنظيم نشاط البحث عن المؤن. فالنمل الحاصد يقتات على بذور الأعشاب والنباتات الحولية، والتي توفر الغذاء والماء للمستعمرة. لكن على المستعمرة أن تنفق بعض الماء من أجل الحصول على الماء؛ إذ يفقد النمل الباحث عن المؤن الماء بمجرد وجوده خارج العش للبحث عن البذور، ولا يغادر النمل الباحث عن المؤن العش حتى يقابل ما يكفي من النمل الباحث عن المؤن العائد بالطعام. ونظرًا لأن كل نملة لا تعود إلى العش حتى عثورها على الطعام؛ فإن هذه الاستجابة من النمل العائد تربط بين نشاط البحث عن المؤن وكمية الطعام: فكلما كان الغذاء متوفرًا، كان وقت البحث أقصر، وعاد النمل الباحث عن المؤن بسرعة أكبر، وزاد عدد الآخرين الخارجين في رحلة البحث عن الغذاء.
إن دراستي طويلة الأمد على مجموعة من مستعمرات النمل الحاصد جعلت من الممكن معرفة كيف يقوم التطور بتشكيل سلوكها الجماعي. ولفهم كيفية عمل آلية الانتخاب الطبيعي حاليًّا، كنا بحاجة إلى معرفة ما إذا كانت الطريقة التي تنظم بها المستعمرة نشاط البحث عن المؤن تؤثر في قدرتها على إنتاج مستعمرات من ذريتها. وكانت الخطوة الأولى هي معرفة مستعمرات الذرية والمستعمرة الأم التي جاءت من نسلها، ولم يسبق أن حدد أحد هذا الأمر لمستعمرات النمل من قبل. لكن منذ عام 1985، كنتُ أعكف على متابعة سكان ما يقارب من 300 مستعمرة في موقع بجنوب شرق ولاية أريزونا. وفي كل عام، أجد كل المستعمرات التي كانت موجودة في العام السابق، وأودع تلك التي ماتت، وأضع المستعمرات التي تأسست حديثًا على الخريطة. وقد كشفت البيانات طويلة الأمد هذه عن أن متوسط عمر المستعمرة يتراوح بين 25 و30 عامًا. وفي كل عام، ثمة تجمع للتزاوج يجتمع فيه الذكور، التي تعيش فقط حتى التزاوج، والملكات غير المتزوجات من جميع المستعمرات في المنطقة. وبعد التزاوج، يموت الذكور، وتهرع الملكات الملقحة حديثًا لبدء مستعمرات جديدة. وتنتج كل ملكة دفعة جديدة من العاملات العقيمات -وبمجرد أن تكبر المستعمرة بما فيه الكفاية، تبدأ في إنتاج الذكور والإناث ذوي القدرة على التكاثر- كل عام حتى نهاية حياتها باستخدام الحيوان المنوي الذي حصلت عليه في موسم التزاوج الأصلي. وبناءً على الحمض النووي الذي تم الحصول عليه من نحو 250 مستعمرة؛ تمكنتُ بمساعدة كريستا إنجرام، من جامعة كولجيت، وآنا بيلكو، من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، من ربط المستعمرات الذرية بمستعمراتها الأم، وبالتالي معرفة كيف ترتبط أنشطة إحدى المستعمرات في البحث عن المؤن بنجاحها التناسلي.
وقد وجدنا أن المستعمرات التي أنتجت مستعمرات من ذريتها عادة ما تكون أكثر حفاظًا على المياه عن طريق تقليل الخروج للبحث عن المؤن في الأيام الحارة والجافة، مضحيةً بالحصول على الغذاء في سبيل الحفاظ على المياه. وقد فاجأتنا هذه النتيجة؛ نظرًا لأن العديد من الدراسات التي أجريت على الحيوانات كانت تفترض أنها كلما حصلت على طعام أكثر، كان ذلك أفضل لها. ولكن اتضح أن المستعمرات التي كنت أظنها لسنوات ضعيفة ولا يعول عليها بسبب تكاسل أفرادها عن الخروج للبحث عن المؤن في الأيام الحارة والجافة، هي مستعمرات نتج من نسلها الكثير من الذرية، بينما فشلت المستعمرات التي كنا نعتبرها من الطراز الأول -التي تداوم على البحث عن المؤن بانتظام كل يوم- في التكاثر. ونظرًا لأن المستعمرات يمكنها تخزين البذور لفترة طويلة، فلا يوجد ما يهدد البقاء على قيد الحياة إذا لم يخرج أحد للبحث عن المؤن في بعض الأيام.
يعمل الانتخاب الطبيعي على الصفات التي يمكن أن تنتقل من الأباء إلى الذرية، وهناك أدلة مثيرة على إمكانية توريث السلوك الجماعي في النمل الحاصد؛ إذ تشبه المستعمرات الذرية مستعمراتها الأم في الأيام التي يختارون فيها الحد من عمليات الخروج للبحث عن المؤن. وهكذا، فإن النتائج التي توصلنا إليها تقدم أول دليل -على حد علمي- على التطور الحالي للسلوك الجماعي في مجتمع من الحيوانات البرية.
حلول بيئية
تكشف الأنواع المختلفة من النمل كيفية الارتباط بين نظام التفاعلات الذي يستخدمه كل نوع ونظامه البيئي. أعكفُ أيضًا على دراسة النمل السلحفاة الذي يعيش داخل الأشجار في الغابات الاستوائية غربي المكسيك. وتتميز الغابات الاستوائية بالهواء شديد الرطوبة، والطعام الوفير، ومن ثَم فإن تكلفة البحث عن الغذاء منخفضة مقارنة بالصحراء، لكن المنافسة شديدة؛ لأن العديد من أنواع النمل الأخرى تستغل نفس الموارد. وقد وجدت أن مستعمرات النمل السلحفاة تُكوّن مسارات شجرية للبحث عن المؤن، يدور النمل على امتدادها من عش إلى آخر أو من مصدر طعام إلى آخر. وعلى عكس النمل الحاصد، فإن نمل السلحفاة الباحث عن المؤن يستمر في البحث عن المؤن ما لم تدفعه التفاعلات إلى التوقف أو إبطاء السعي. على سبيل المثال، التفاعل مع النمل من الأنواع الأخرى يعوق النشاط؛ فغالبًا ما يغادر نمل السلحفاة العش ويتبع مساره المعتاد ما لم يقابل نملة من نوع آخر؛ فنملة واحدة فقط من نوع سودوميرمكس Pseudomyrmex، تسير بخيلاء ذهابًا وإيابًا على أحد الفروع -بجسدها الصلب الأملس مثل السيارات الرياضية- يمكنها أن تتسبب في إخراج الفرع تمامًا من مسار النمل السلحفاة -الأضخم منها حجمًا، لكنه أقل شجاعة- إذا قابلت ما يكفي منه في مساره. تتميز مستعمرات النمل بالمثابرة في الحفاظ على سير النمل في المسارات المحددة عندما يخلو الطريق من أي معوقات، والعودة لبدء الطريق مرة أخرى عندما يختفي مصدر التهديد، وهذا لأنه ربما من الأسهل تجنب أي صراع من الأساس.
وتخلق التفاعلات البسيطة بين النمل شبكة مسارات مستعمرة نمل السلحفاة داخل الكساء النباتي المتشابك في الغابات، وتجعل هذه التفاعلات شبكة الدروب والمسارات مرنة. وتميز كل نملة طريقها عبر فيرومون كيميائي وهي تسير وتتبع رائحة النمل الذي سبقها. أعمل أنا وسيكت نافلاكا، من معهد سولك للدراسات البيولوجية، على فهم الخوارزمية التي يستخدمها النمل للحفاظ على مساراته وإصلاحها. فعندما تصل نملة إلى نقطة التقاء بين غصنين أو ساقين أو كَرْمتين، فإنها تميل إلى اتخاذ المسار الذي تنبعث منه رائحة الفيرومون الأقوى، التي تدل على أن هذا هو المسار الذي سلكه معظم النمل مؤخرًا. في كثير من الأحيان، يفقد النمل أحد الأغصان الضعيفة التي تمثل ممرًا بين ساق وأخرى بسبب الرياح، أو مرور عظاءة عليه، أو كسر أحد الفروع المتعفنة، أو -في بعض الأحيان- تدخلي بالمقص لأغراض التجربة. لكن سرعان ما يتمكن النمل من استئناف طريقه، إذ يبدو أنه عندما يصل إلى أول حافة مكسورة، يعود أدراجه إلى أول نقطة تقاطع متاحة في طريقه، ويبدأ في البحث عن آثار الفيرومون الدال من هناك حتى يُكوّن -وفي نهاية المطاف يمهد- مسارًا جديدًا ينضم إلى الجانب الآخر من المسار.
لقد تطور السلوك الجماعي لدى النمل استجابة لكيفية توزيع الموارد، مثل الطعام، في بيئته، وكذلك لتكلفة البحث عن المؤن وسلوك الأنواع الأخرى التي يقابلها. بعض الموارد تتجمع معًا في بقعة واحدة، في حين يتناثر البعض الآخر بصورة عشوائية، ويتفوق العديد من أنواع النمل في استغلال الموارد المتجمعة مثل النزهات، فيستخدم تفاعلات تعتمد على الفيرومونات حيث تتبع واحدة من النمل زميلتها، مكونةً مسارًا يجذب الأخريات. وهذه الطريقة تجدي نفعًا وتبدو منطقية عندما تكون الموارد الغذائية متجمعة في مكان واحد؛ فغالبًا المكان الذي ستجد فيه بعض الشطائر ستجد فيه بعض الحلوى أيضًا. على النقيض، لا يستخدم النمل الذي يسعى وراء الموارد المتناثرة، مثل البذور، هذا الأسلوب في جذب الأخريات، لأن العثور على بذرة لا يعني بالضرورة العثور على أخرى بالقرب منها.
يتطلب العثور على الغذاء في المقام الأول سلوكًا جماعيًّا متخصصًا؛ لأن النمل يعمل في الغالب من خلال حاسة الشم، فيجب على النملة أن تقترب من الغذاء لكي تعثر عليه. ومن ثم، كلما اتسع نطاق الأماكن التي قد يوجد فيها الطعام، ازدادت المساحة التي يجب على النمل تغطيتها. ولكن كلما ازداد عدد الأماكن المختلفة التي يمكن أن يكون الطعام مخبَّأً فيها، تعيَّن على النمل الباحث عن الطعام أن يمشط المنطقة جيدًا. وقد توصلتُ إلى أن النمل الأرجنتيني يدير هذه المبادلة بشكل جميل، عن طريق تعديل مساراته وفقًا للكثافة. فعندما يكون هناك عدد قليل من النمل في مساحة صغيرة، تسلك كل نملة مسارًا متعرجًا، مما يتيح لها البحث في منطقتها بدقة شديدة. ولكن عندما يكون هناك عدد قليل من النمل في مساحة كبيرة، فإنها تستخدم مسارات أكثر استقامة، مما يتيح للمجموعة بأكملها تغطية مساحة أكبر. ويمكن لأفراد النمل الإحساس بالكثافة من خلال إشارة بسيطة: معدل التفاعل مع الآخرين. فكلما ازداد التواصل عبر قرون الاستشعار، اتخذ النمل طرقًا أكثر تعرجًا. وقد نجح النمل الأرجنتيني في غزو الدول التي تتمتع بمناخ البحر المتوسط في جميع أنحاء العالم، وربما تفسر كفاءته في الوصول إلى الموارد الغذائية الجديدة أولًا نجاحه في التفوق على الأنواع الأخرى المحلية في المناطق التي يغزوها.
الدروس المستفادة من النمل
قد توحي لنا الطرق التي يستخدم بها النمل التفاعلات البسيطة للحياة في بيئات معينة بحلول للمشكلات التي تظهر في الأنظمة الأخرى. فقد لاحظتُ أنا وعالم الكمبيوتر بالاجي برابهاكر من جامعة ستانفورد، أن النمل الحاصد يستخدم خوارزمية لتنظيم عملية البحث عن المؤن تشبه بروتوكول التحكم بالنقل/ بروتوكول الإنترنت (TCP/IP) المستخدم في شبكة الإنترنت لتنظيم حركة مرور البيانات، وقد أطلقنا على هذا التشابه اسم Anternet. لقد تم تصميم بروتوكول التحكم بالنقل/ بروتوكول الإنترنت في بيئة ترتفع فيها تكاليف التشغيل: كان الإنترنت في بداياته محدودًا للغاية، حتى إنه كان هناك عدد محدود من التكرارات، وكان التأكد من عدم فقدان أي حزم من البيانات أمرًا بالغ الأهمية. وبالضبط كما يفعل النمل الباحث عن المؤن الذي لن يترك العش لبدء رحلته التالية في البحث عن الغذاء إلا إذا حظي بعددٍ كافٍ من التفاعلات مع النمل العائد الذي وجد الطعام؛ فإن حزمة البيانات لن تترك الكمبيوتر المصدر إلا إذا تلقت إفادة من جهاز التوجيه بأن الحزمة السابقة من البيانات كان لديها عرض النطاق اللازم للوصول إلى وجهتها. وعلى الأرجح فإن 130 مليون عامًا في مسيرة تطور النمل قد تمخضت عن العديد من الخوارزميات المفيدة الأخرى التي لم يفكر فيها البشر بعد، وهذا من شأنه أن يساعدنا في التوصل إلى طرق لتنظيم شبكات البيانات باستخدام تفاعلات بسيطة تنطوي على الحد الأدنى من المعلومات.
أعتقد أننا سوف نرى على الأرجح تشابهًا بين الخوارزمية والوضع البيئي في العديد من الأنواع الأخرى من السلوك الجماعي. على سبيل المثال، تتطور السرطانات استجابة للظروف في بيئتها الدقيقة المحيطة بها؛ فنوع السرطان الذي ينتقل إلى نوع معين من الأنسجة غالبًا ما يتطور لاستخدام الموارد المتجمعة في تلك الأنسجة. وعلى غرار أنواع النمل التي تطورت لاستخدام الموارد المتجمعة، قد تكون هذه الأنواع من السرطان هي التي ترسل على الأرجح خلايا إلى الورم الأولي من أجل تجنيد المزيد من الخلايا، مثلما تفعل خلايا سرطان الثدي؛ وفي هذه الحالة، تكون الخلايا التي تقوم بالتجنيد للموارد المتجمعة هي الهدف الأمثل للقضاء عليها باستخدام طُعم سام.
في مجالي علم الأحياء والهندسة، ثمة اهتمام شديد بكيفية استخدام السلوك الجماعي للتفاعلات البسيطة. وقد بات من الواضح أن مثل هذه التفاعلات يتم ضبطها وفقًا للظروف المتغيرة. لقد تحول تركيز مجال بيولوجيا الأنظمة –معتمدًا على قرن كامل من العمل الذي أوضح بالتفصيل ما يحدث داخل الخلية- إلى التفاعلات بين الخلايا، وذلك بمساعدة التقدم المذهل في مجال التصوير. وفي علم الأعصاب، تسمح التقنيات الجديدة بتسجيلات توضح أنماطًا في توقيت الآلاف من عمليات إطلاق الخلايا العصبية. ونحن كبشر يمكننا رؤية أنواع معينة من الحركة ونسمع أصواتًا محددة لأن دوائر الخلايا العصبية في أدمغتنا قد تطورت للاستجابة بشكل جماعي لبعض سمات البيئة، مثل معدل حركة الأشياء المهمة –كالأشخاص أو الحيوانات المفترسة- وكذلك نطاق الترددات التي كان من الضروري أن نكون قادرين على سماعها. والأنظمة المهندَسة تتطور أيضًا؛ فالزيادة الهائلة في حجم الإنترنت وعدد الأجهزة المتصلة به، وكذلك سرعة التفاعلات تتطلب حلولًا لامركزية جديدة.
إن العلماء الآن على استعداد للبحث عن الاتجاهات السائدة في الطرق التي طورت بها الأنظمة الطبيعية المختلفة سلوكًا جماعيًّا متشابهًا لمواجهة التحديات البيئية المماثلة، وربما يمكننا تطبيق هذه المعرفة للتدخل في العمليات التي تعمل دون سيطرة مركزية، وتقديم حلول لبعض مشكلات المجتمع.
اقرأ أيضًا: طيور حمراء تُجري تحويلات كيميائية للألوان
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.