لم نر أي زرافات حتى الآن، كنا نحن الأربعة قد سرنا نصف النهار مُتعقِّبين الزرافة الجريحة التي أصابها مواساد، وهو رجلٌ من قبيلة الهادزا في أواخر الثلاثينيات من العمر، في الليلة السابقة. أطلق مواساد على الزرافة سهمًا خشبيًّا ذا سنٍّ فولاذية عليها مَسحة من سُمٍّ قوي مصنوع في المنزل، من مسافة حوالي 23 مترًا تقريبًا، فأصابها في قاعدة العنق. تعيش قبيلة الهادزا تقليديًّا على الصيد وجمع والتقاط الطعام، ويعيشون بعيدًا عن النباتات والحيوانات البرية في منطقة السافانا الجافة شمالي تنزانيا؛ ويعرفون المنطقة وساكنيها أفضل مما تَعرفُ أنت الفرع المحلي القريب لمنزلك من سلسلةِ متاجر “تريدر جوز”. لقد تركَ مواساد الزرافةَ تجري ليُتيحَ وقتًا للسمِّ كي يظهر مفعوله، على أمل أن يعثر على الزرافة ميتةً في الصباح. إن حيوانًا بهذا الحجم يكفي لإطعام مواساد وعائلته وقبيلته لمدة أسبوع، فقط لو تمكن من معرفة موقعها.
قاد مواساد مجموعتنا -التي تضمُّ ديف ريتشلين من جامعة أريزونا، وصبيًّا من الهادزا عمره 12 سنة يُدعى نيجا، وأنا- وخرَجْنا من المعسكر بعد طلوع الفجر مباشرة. لم يَكُن لي أنا وديف فائدةٌ تُذكر في هذه المغامرة؛ لقد دعانا مواساد لمرافقتِه كلفتة طيبة ودودة من جانبه، ولمساعدتهم في حمْلِ الحيوانِ المذبوح والعودة به إلى القبيلة في حال نجاح جهود البحث عنه. ولأننا عالِما أنثروبولوجيا ندرس بيئةَ الإنسان وتطوره، فقد انتهزنا الفرصة لنصحبه، إذ إن قدرات رجال الهادزا على التعقُّب هي قدراتٌ أسطورية. وبالتأكيد كانت الرحلة أفضل من قضاء يوم طويل في العبث بأجهزة البحث داخل المعسكر.
مشينا بصعوبة لمدة ساعة خلال ممرات غير مطروقة في بحرٍ متموِّجٍ من الحشائش الذهبية التي يصل ارتفاعها حتى الخصر، والتي تتخللها شجيرات وأشجار السنط الشائكة، مباشرة حتى البقعة الدامية التي أصيبت فيها الزرافة. كان هذا الجزء من الرحلة في حد ذاته خدعة إلى حد ما، إذ يُشبِه أن يقودك أحدهم إلى نقطةٍ في وسط حقلٍ من القمح مساحته 1000 فدان لكي يُرِيَك أين سقطت منه خلَّةُ الأسنان، ثم بعد ذلك ينحني بهدوءٍ ولا مبالاة لكي يلتقطها. وهكذا استمرت رحلة تعقُّب آثار الحيوان الجريح ساعة بعد ساعة تحت حرارة الشمس القاسية، ونحن نتتبع علاماتٍ آخذةً في التضاؤل.
لا أثر للزرافة بعد، ولكن على الأقل كان لديَّ ماء. جلسنا في ظل بعض الشجيرات، عقب منتصف النهار بالضبط لنستريح، بينما كان مواساد يفكر في أي اتجاه يمكن أن يكون الحيوان الجريح قد مضى. لم يتبقَّ لديَّ سوى رُبْع جالون من الماء، وقد اعتقدت أنه كافٍ لاجتياز حرارة الظهيرة. غير أن مواساد لم يُحضِرْ معه أيَّ ماء، كما هي عادة أبناء الهادزا، وعندما كنا نستعد لاستئناف البحث، عرضْتُ عليه أن يشرب، فرمقني بنظرةٍ جانبية وابتسم وأخذ الزجاجة، وإذا به يشرب كل ما في الزجاجة من ماء في جَرعَةٍ طويلة واحدة، وعندما انتهى مد يده إليَّ ليعطيني الزجاجة الفارغة بلامبالاة.
إنها سخرية القدر! لقد قضينا أنا ودِيف ومعنا عالم الأنثروبولوجيا برايان وُود من جامعة يِيل، طيلةَ الشهر الماضي مع قبيلة الهادزا لنُجريَ أول قياسات مباشرة على إنفاق الطاقة اليومي في مجتمعٍ يمارسُ أفرادُه الصيدَ والجمع والالتقاط. واشترك في هذه التجربة بضعة وعشرين رجلًا وامرأة من الهادزا، من بينهم مواساد، وطلبنا منهم أن يشربوا زجاجات صغيرة باهظة الثمن من الماء المُدعَّم باثنين من النظائر النادرة، هما الديوتيريوم والأكسجين 18. وسيتيح لنا تحليل تركيز هذه النظائر في عيِّنات البول من كل مشاركٍ في الدراسة حساب معدل الإنتاج اليومي لثاني أكسيد الكربون في جسمه، ومن ثم حساب معدل إنفاقه من الطاقة. وهذا النهج، والمعروف باسم استخدام الماء غير المشع، هو بمنزلة المعيار الذهبي في مجال الصحة العامة لقياس السعرات الحرارية التي تُحرَق كلَّ يوم في أثناء الحياة اليومية العادية. إنها طريقةٌ مباشِرة وآمنة تمامًا ودقيقة، لكنها تتطلب أن يشرب المشاركُ في التجربة زجاجةَ الماء المدعم إلى آخر قطرة. ولقد جاهدنا كثيرًا لنوضِّح للمشاركين كيف يجب عليهم ألا يسكبوا قطرةً من الزجاجة، وكيف يتحتم عليهم أن يشربوا الجُرعة كاملةً، ويبدو أن مواساد قد استوعب تلك التعليمات جيدًا وأخلص في تطبيقها.
فلندع دعابة مواساد جانبًا الآن، لقد تعلمنا -أنا وزملائي- الكثير عن كيفية حرق الجسم البشري للسعرات الحرارية من خلال دراستنا التي أجريناها على قبيلة الهادزا. وبالإضافة إلى النتائج التي توصل إليها الباحثون الذين يدرسون عشائر أخرى، كشف بحثُنا عن بعض الأفكار الثاقبة المثيرة للدهشة حول الأيض البشري. تشير بياناتنا، على عكس الاعتقاد السائد، إلى أن البشر يميلون إلى حرق نفس العدد من السعرات الحرارية، بغض النظر عن مدى نشاطهم البدني. بيد أننا تطورنا بحيث نحرق سعراتٍ أكثرَ كثيرًا مما يفعل أبناء عمومتنا من الرئيسيات. تساعد هذه النتائج على تفسير لغزَيْن قد يبدُوان للوهلة الأولى مختلفين ومنفصلين لكنهما في الحقيقة مرتبطان: الأول هو لماذا تفشل التمرينات البدنية عمومًا في إنقاص الوزن؟ والثاني هو كيف نشأت بعض الصفات الفريدة في البشر؟
اقتصاد السعرات الحرارية
يركز الباحثون المهتمون بتطور الإنسان وعلم البيئة في الغالب على إنفاق الطاقة؛ لأن الطاقة عنصر جوهري لكل شيء في علم الأحياء. فيمكن أن يعرف المرء الكثير عن أي نوع من الأحياء، من خلال قياس الأيض؛ فالحياة في جوهرها لعبة يتم فيها تحويل الطاقة إلى أطفال، وكل صفةٍ يتم ضبطُها عبر الانتخاب الطبيعي لتعظيم العائد التطوري لكل سُعر حراري يتم إنفاقه. وبصورة نموذجية، تعمل الدراسات على دراسة الجماعات في البيئات نفسها التي تطورت فيها الأنواع أصلًا، حيث تكون تلك الضغوط البيئية نفسها التي شكلت صفاتها البيولوجية لا تزال فاعلة. وهذا الأمر يصعب تحقيقه في الدراسات على البشر؛ لأن معظم البشر انفصلوا عن بدائيةِ ممارسةِ العمل اليومي المتمثل في الحصول على الطعام من البيئة البريّة. على مدار قرابة المليونَي عام الماضية، كان البشر وأسلافهم يعيشون ويتطورون في جماعات تعتمد على الصيد والجمع والالتقاط، ولم تبدأ ممارسة الزراعة إلا قبل نحو 10 آلاف سنة مضت، أما المدن الصناعية والتكنولوجيا الحديثة فعمرُها لا يتجاوز بضعة أجيال. ومن ثَم، فإن عشائر مثل الهادزا، والتي هي واحدةٌ من أواخر العشائر التي تعيش على الصيد والجمع والالتقاط المتبقية في العالم، تُعتَبر المفتاح لفهم كيف تطورت أجسامُنا وكيف كان أداؤها قبل تسخير الأبقار واختراع السيارات وأجهزة الكمبيوتر.
إن الحياة بالنسبة لقبيلة الهادزا صعبة بدنيًّا: ففي كل صباح تغادر النساءُ الأكواخ المصنوعة من الحشائش في مجموعاتٍ صغيرة، يحملُ بعضُهن الأطفال الرضَّع على ظهورهن في إزار، باحثاتٍ عن التوت البرِّيّ أو ما يمكن أكلُه غير ذلك. وتُعَد الدرنات البرية مكونًا أساسيًّا في طعام الهادزا، ويمكن أن تقضي النساءُ ساعات في الحَفْر واستخراج الدرنات من الأرض الصخرية باستخدام العصِيّ. ويقطعُ الرجالُ أميالًا كلَّ يوم للصيد باستخدام الأقواس والسهام التي يصنعونها بأنفسهم. وعندما يكون الصيد شحيحًا فإنهم يستخدمون الفؤوس البسيطة لتقطيع أطراف الأشجار، غالبًا على ارتفاع أكثر من 12 مترًا أعلى الأشجار، لجمع العسل البري. وحتى الأطفال يشاركون، فيجرُّون جرادل المياه إلى المكان الذي تستوطنه القبيلة من أقرب عين أو مصدر ماء، والذي يقع أحيانًا على مسافةِ ميلٍ أو أكثر. وفي المساء يعود الجميع إلى أكواخ القبيلة، فيجلسون على الأرض، ويتحدثون حول نيران الطهي البسيطة، ويتشاركون حصيلة اليوم ورعاية الصغار. وعلى هذه الحال يمضون الأيام المختلفة، في مواسم الجفاف كما في مواسم المطر، على مدار آلاف السنين.
ولكن لا تتعجل وتضع أي تصورات خيالية عن عيش حياة مثالية؛ فالصيد والجمع والالتقاط عمليات مرهقة ذهنيًّا ومحفوفة بالمخاطر، إنها لعبة تنطوي على مجازفة كبيرة، العملة فيها هي السعرات الحرارية والطاقة، والإفلاس يعني الموت. إن الرجال أمثال مواساد ينفقون مئات السعرات الحرارية يوميًّا في الصيد والمطاردة، وهي مقامرة يأملون أن يربحوها. وللذكاء نفس أهمية القوة البدنية، فبينما تستطيع الحيوانات المفترسة الاعتماد على سرعتها وقوتها لاقتناص فرائسها، يتعين على البشر أن يكونوا أكثر ذكاءً وبراعة من فرائسهم، واضعين في اعتبارهم الميول السلوكية للطريدة، ويحرصون على تمشيط البيئة المحيطة جيدًا بحثًا عن أي علامات أو آثار للفرائس. ومع ذلك، لا يظفر رجال الهادزا بصيد ضخم كالزرافة إلا مرةً واحدة في الشهر، وكان الجوع ليفتك بهم لو أن نساء الهادزا لا ينفذن استراتيجيةً مكملة لاستراتيجية الرجال ومساوية لها في التعقيد، بالاعتماد على معرفتهن الموسوعية بالحياة النباتية المحلية، ليجلبن إلى المنزل كمية هائلة من الطعام يُعتمد عليها كل يوم. وهذا التعاون المعقد في البحث عن الطعام هو ما يجعل البشر ناجحين بشكل لا يصدق، وهو جوهر تفرُّد البشر.
لطالما افترض الباحثون في مجالَي الصحة العامة والتطور أن أسلافنا الذين عاشوا على الصيد والجمع والالتقاط، كانوا يحرقون سعراتٍ حرارية أكثر مما يحرقه الناس في المدن والضواحي الحضرية اليوم. وفي ظل الجهدِ البدني الشاق الذي يبذله أبناء القبائل البدائية مثل الهادزا، يبدو مستحيلًا أن نتصور شيئًا آخر. وحتى الآن يجادل الكثيرون في مجال الصحة العامة بأن هذا الانخفاض في الإنفاق اليومي من الطاقة هو الذي يقف وراء تَفَشِّي السمنة عالميًّا على هذا النحو الوبائي في العالَم المتقدم، إذ تتجمع كلُّ هذه السعرات الحرارية التي لم يتم حرقُها تدريجيًّا في صورة دهون. وكان أحد دوافعنا لقياس معدلات الأيض في الهادزا هو تحديد حجم هذا القصور في الطاقة، ومعرفة كم ينقصنا في الغرب من الإنفاق اليومي للطاقة. وعقب العودة إلى الولايات المتحدة بعد قضاء موسم من العمل الميداني في الجو الحار والغبار، حَزَمْتُ قنينات البول التي جُمِعَت من الهادزا، وأرسلتُها محفوظَةً في الثلج الجاف إلى كلية بايلور للطب، مقر واحد من أفضل معامل اختبارات الماء غير المشع في الولايات المتحدة، بينما كنت أتخيل ما يمكن أن يُسفر عنه تحليلُ هذه العينات من كميةٍ مهولةٍ من السُّعرات الحرارية.
ولكن جاءت المفاجأة عند فحص العينات بجهاز مطياف كتلة نسبة النظائر المشعة، فعندما عادت التحليلات من بايلور، بدا أن أفراد قبيلة الهادزا لا يختلفون عن أي شخص آخر. لقد تبين أن رجال الهادزا يتناولون ويحرقون 2600 سعر حراري في اليوم، ونساء الهادزا يتناولن ويحرقن 1900 سعر حراري يوميًّا، وهي نفس المعدلات المسجلة للبالغين في الولايات المتحدة وأوروبا. أخذنا ندقق في تلك البيانات بكل الطرق الممكنة، ووضعنا في الحسبان تأثير حجم الجسم، والنسبة المئوية للدهون، والعمر والنوع، ومع ذلك لم يكن هناك أي اختلاف. كيف يمكن هذا؟ ما الذي أغفلناه؟ تُرى ما الذي لم نفهمه جيدًا في مجال البيولوجيا وتطور الإنسان؟
أكاذيب أجهزة “فِتْبِت”
يبدو أنه أمر جلي للعيان ولا مهرب منه أن الأشخاص النشطين يحرقون سُعراتٍ أكثر، لدرجة أننا نتقبل هذه الفكرة بغير كثير من التفكير النقدي أو البحث عن برهان تجريبي. ولكن منذ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، ومع ظهور طريقة “الماء غير المشع”، كثيرًا ما كانت النتائج التجريبية تتحدى الاعتقاد السائد في مجال الصحة العامة والتغذية. إن نتيجة التجربة التي أُجْرِيَت على الهادزا، رغم أنها تبدو غريبة، لم تكن مفاجأة مُدَوِّية وُلِدت من المجهول، لكنها كانت أشبه بأول تجسيد مادي لآراء ونظريات، وكانت تلوح في الأفق ويتم تجاهُلُها على مدار سنين.
لقد أظهرت أولى الدراسات التي أُجريَت بأسلوب “الماء غير المشع” على الفلاحين التقليديين في جواتيمالا وجامبيا وبوليفيا أن إنفاقهم من الطاقة مشابِه إلى حد كبير لسكان المدن. وفي دراسة نُشرت عام 2008، تمكنت آمي لوك -وهي باحثة في مجال الصحة العامة من جامعة لويولا شيكاغو- من الانتقال بهذا النوع من الدراسات إلى مستوى أعلى عندما قامت بمقارنة إنفاق الطاقة والنشاط البدني بين النساء الريفيات بنيجيريا والنساء الأمريكيات من أصول أفريقية في شيكاغو. وعلى غرار نتائج دراسة الهادزا، لم يتوصل بحثُها إلى أي اختلاف في الإنفاق اليومي من الطاقة بين المجموعتين، رغم الاختلاف الكبير بينهما في مستويات النشاط البدني. وفي متابعةٍ لتلك الدراسة، أجرت لارا دوجاس، وهي من جامعة لويولا أيضًا، ومعها آمي لوك وآخرون، تحليلًا لبيانات من 98 دراسة حول العالم، وأثبتوا أن إنفاق الطاقة في الجماعات المُدلَّلة بوسائل الراحة الحديثة في الدول المتقدمة، يشبه نظيرَه في الدول الأقل تقدمًا والتي تتطلب الحياة فيها مجهودًا بدنيًّا أكبر.
والبشر ليسوا النوع الوحيد من الكائنات الذي لديه معدل ثابت من إنفاق الطاقة، ففي أعقاب دراسة الهادزا مباشرة، توليت قيادة مشروع تعاوني ضخم لقياس الإنفاق اليومي من الطاقة في الرئيسيات، وهي مجموعة الثدييات التي تشمل السعدان والقردة وحيوانات الليمور والبشر. وقد وجدنا أن الرئيسيات التي تعيش في الأسْر، في المعامل أو حدائق الحيوان، تحرق العدد نفسه من السعرات كل يوم مثل تلك التي تعيش في البرية، رغم الفروق الواضحة في النشاط البدني. وفي عام 2013 وجد باحثون أستراليون معدلاتٍ مماثلةً من إنفاق الطاقة في الأغنام والكنغر، سواء تلك الحبيسة أو التي تتجول بحرية. وفي عام 2015 سجلَ فريقٌ صيني معدلاتٍ مماثلةً لإنفاق الطاقة في حيوانات الباندا العملاقة التي تعيش في حدائق الحيوان وتلك التي تعيش في البرية.
ولدراسة الأمر على نحو أدق عبر مقارنة الأفراد بدلًا من متوسطات الجماعات، انضمَمْتُ مؤخرًا إلى لوك وفريقها، الذي يضم دوجاس أيضًا، لنفحص النشاط وإنفاق الطاقة في دراسة تحليلية ضخمة امتدت لعدة سنوات تُعرف باسم “دراسة نمذجة التحول الوبائي” (METS). وفي هذه الدراسة ارتدى أكثر من 300 مشارك أجهزةً لقياس السرعة تشبه أجهزة “فِتْبِت” Fitbit، أو غيرها من أجهزة متابعة اللياقة البدنية الأخرى، على مدار اليوم لمدة أسبوع كامل، بينما كان يتم قياس إنفاق الطاقة اليومي لهم باستخدام أسلوب الماء غير المشع. وقد وجدنا أن النشاط البدني اليومي الذي رصدَتْه أجهزةُ قياس السرعة لم يكن مرتبطًا بالأيض إلا بدرجة ضعيفة. في المتوسط، وُجِدَ أن الكسالى الذين يقضون معظم أوقاتهم في الجلوس ومشاهدة التليفزيون يقل إنفاقهم من الطاقة يوميًّا بنحو 200 سعر فقط عن الأشخاص متوسطي النشاط، أي أولئك الذين يمارسون التمارين البدنية خلال الأسبوع ويُصِرُّون على صعود الدَّرَج. ولكن الأهم، هو أن إنفاق الطاقة ثَبَتَ عند مستويات النشاط الأعلى، أي أن الأشخاص شديدي النشاط أحرقوا نفس عدد السعرات في اليوم مثل الأشخاص متوسطي النشاط. ومن ثَم، فإن الظاهرة نفسها التي تجعل إنفاق الطاقة لدى قبيلة الهادزا مشابهًا لنظيره في المجتمعات الأخرى كانت واضحة أيضًا بين الأفراد في هذه الدراسة.
كيف يتكيف الجسم مع المستويات المرتفعة من النشاط لإبقاء إنفاقه من الطاقة تحت السيطرة؟ كيف يستطيع أفراد الهادزا إنفاق المئات من السعرات الحرارية على النشاط يوميًّا ومع ذلك يحافظون على حرق نفس إجمالي عدد السعرات تقريبًا التي ينفقها الأشخاص الذين يقضون وقتهم جالسين دون نشاط نسبيًّا في الولايات المتحدة وأوروبا؟ لسنا على يقين من الإجابة بعد، لكن تكلفة النشاط في حد ذاته لا تتغير، فنحن نعرف على سبيل المثال أن البالغين من أفراد الهادزا ينفقون من السعرات لكي يسيروا مسافةَ ميلٍ نفس ما ينفقه الغربيون عندما يسيرون نفس المسافة. من المحتمل أن يكون الأشخاص ذوو مستويات النشاط المرتفعة يغيرون سلوكهم بطرقٍ بارعة ودقيقة تُوفِّر الطاقة، مثل الجلوس بدلًا من الوقوف، أو النوم بعمق أكثر. غير أن تحليلنا لبيانات “دراسة نمذجة التحول الوبائي” يشير إلى أنه على الرغم من أن هذه التغيرات السلوكية يمكن أن تؤدي دورًا، فإنها ليست كافية لتفسير الثبات الملحوظ في الإنفاق اليومي للطاقة.
ثمة احتمالية أخرى مثيرة للاهتمام، وهي أن الجسم يتيح المجال لتكلفة النشاط الإضافي من خلال اختزال السعرات التي تنفَق على المهام الكثيرة غير المرئية التي تستهلك معظم ميزانية الجسم اليومية من الطاقة، مثل عمليات تنظيف الجسم من الداخل التي تقوم بها الخلايا والأعضاء لتُبقِيَنا أحياء. إن ادخار الطاقة التي تُبذَل في هذه العمليات يمكن أن يتيح المجال في ميزانية الطاقة اليومية، مما يتيح للإنسان إنفاق المزيد على النشاط البدني من دون زيادة إجمالي السعرات الحرارية التي تُنفَق يوميًّا. على سبيل المثال، تقلِّل التمرينات غالبًا من النشاط الالتهابي الذي يحدثه الجهاز المناعي، مثلما يقلل من مستويات الهرمونات الجنسية كالإستروجين. في حيوانات المعامل، لا تؤثر زيادة التمارين اليومية على الإنفاق اليومي من الطاقة، لكنها تؤدي بدلًا من ذلك إلى تقليل عدد دورات التبويض، وإلى بطء عمليات إصلاح الأنسجة؛ وفي الحالات المتطرفة قد تؤدي ببعض الحيوانات إلى التهام صغارها الرضيعة. ويبدو أن البشر والمخلوقات الأخرى لديهم عدة استراتيجيات متطورة لتقييد الإنفاق اليومي من الطاقة.
تشير كل هذه الأدلة إلى أن السمنة مرض ناجم عن الشراهة أكثر من كونه ناجمًا عن الكسل، فيزداد وزن الأشخاص عندما تزيد السعرات التي يتناولونها عن السعرات التي ينفقونها. وإذا كان الإنفاق اليومي من الطاقة لم يتغير على مدار التاريخ البشري، فلا بد أن الجاني الأساسي في مسألة الانتشار الوبائي للسمنة هي السعرات التي يستهلكها الشخص. وليس هذا بالخبر الجديد، فثمة قول مأثور قديم في الصحة العامة يقول: “لا يستطيع المرء التغلب على النظام الغذائي السيئ”، وما يعرفه الخبراء من خلال تجاربهم الشخصية ومن الكثير من البيانات أن مجرد الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية لخسارة الوزن وسيلة غير فعالة بصورة مثيرة للإحباط. لكن العلم الحديث يساعد على تفسير لماذا تعتبَر التدريبات البدنية أداة رديئة لإنقاص الوزن؛ فالأمر ليس أننا لا نحاول ممارسة التمرينات بشكل كاف، وإنما أجسامنا هي التي تتآمر علينا منذ البداية.
ولكن هذا لا يعني أن تترك ممارسة التمرينات الرياضية؛ فهذا المقال ليس ذريعة تتحجج بها لترك التمرينات الرياضية، فلممارسة الرياضة أطنان من الفوائد الموثقة، بدءًا من زيادة صحة القلب والجهاز المناعي إلى تحسين وظيفة المخ وقضاء شيخوخة أكثر صحة. إنني في الحقيقة أظن أن التكيف الأيضِيَّ تجاه النشاط هو أحد أسباب أن التمارين تحافظ على صحة الإنسان؛ إذ إنها تشتت الطاقة بعيدًا عن أنشطة مثل الالتهابات، التي لها تبعات سلبية اذا استمرت طويلًا. فعلى سبيل المثال، تم ربط الالتهاب المزمن بأمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض المناعة الذاتية.
إن الأطعمة التي نتناولها تؤثر بالتأكيد على صحتنا، وممارسة التمارين الرياضية المصحوبة بتغيير النظام الغذائي يمكن أن تدرأ زيادة الوزن غير المرغوب فيها بمجرد وصول الجسم إلى الوزن الصحي، لكن الأدلة تشير إلى أنه من الأفضل أن تنظر إلى النظام الغذائي والتمرين على أنهما أداتان مختلفتان، لهما نقاط قوة مختلفة. فعليك بالتمرين لتظل أكثر صحة وحيوية، وانتبه لنظامك الغذائي للحفاظ على وزنك.
ميزانية الطاقة والتطور
وحتى في الوقت الذي يساعد فيه العلم الحديث في التكيف الأيضي على توضيح العلاقة بين التمرينات الرياضية والبدانة، فإن الأيض المقيَّد والتكيُّفي يترك الباحثين أمام أسئلة وجودية أكبر. فإذا كان الإنفاق اليومي من الطاقة ثابتًا في الواقع، فكيف يمكن للجنس البشري التطور بحيث يكون مختلفًا جذريًّا هكذا عن أقاربنا من القردة؟ لا شيء في الحياة مجانًا؛ فالمصادر محدودة، وزيادة الاستثمار في صفةٍ واحدة تعني حتمًا تقليلَ الاستثمار في صفةٍ أخرى. ليست مصادفةً أن الأرانب تتكاثر بأعداد هائلة لكنها تموت مبكرًا، فكل هذه الطاقة التي تُستثمَر في إنتاج الصغار تعني تقليص الطاقة المخصصة لصيانة الجسم وإطالة العمر. حتى الديناصورات لم تَحْظ بكل شيء؛ فالتيرانوصور ركس كان لديه رأس كبير وأسنان حادة وطرفان خلفيان قويان، ولكن كان هذا على حساب ذراعيه ويديه الضئيلتين!
لقد استهان البشر بهذا المبدأ التطوري الأساسي: مبدأ التقشف. إن أدمغة البشر ضخمة للغاية؛ لدرجة أنك وأنت جالس تقرأ هذا المقال، فإن الأكسجين الذي يدخل إلى جسمك في نَفَسٍ من كل أربعة أنفاسٍ تتنفسها يُستخدم في تغذية الدماغ. غير أن البشر يلدون أطفالًا أكبر حجمًا، ويتكاثرون بمعدلات أكبر، ويعيشون أعمارًا أطول، ويمارسون نشاطًا بدنيًّا أكثر من أيٍّ من أقاربهم من القردة. فمعسكرات الهادزا تعج بأطفال فوضويين مبتهجين، ورجال ونساء في أتم الصحة والعافية وهم في الستينيات والسبعينيات من أعمارهم. إن إسرافنا في إنفاق الطاقة يمثل لغزًا تطوريًّا؛ فالبشر من الناحية البيولوجية والوراثية يشبهون كثيرًا القردة الأخرى التي لطالما افترض الباحثون منذ وقت طويل أنها أيضًا مشابهة لنا في الأيض. ولكن إذا كان إنفاقنا في الطاقة مقَيدًا مثلما تشير دراستنا لقبيلة الهادزا ودراساتٌ أخرى، فكيف لأيضٍ يفتقر إلى المرونة ويشبه أيضَ القردة أن يعالج كلَّ السعرات المطلوبة لدعم الصفات البشرية المكلفة؟
في أعقاب دراستنا المقارَنة والموسَّعة لكيفية تعامُل الرئيسيات مع الطاقة، بدأت أتساءل أنا وزملائي عما إذا كانت مجموعة الخصائص البشرية التكيُّفية المكلِّفة على مستوى الطاقة يغذيها تطوُّر تغيري شامل في الفسيولوجيا الأيضية. لقد وجدنا في تلك الدراسة أن الرئيسيات تحرق فقط ما يعادل نصف السعرات الحرارية التي تحرقها الثدييات الأخرى في اليوم. إن المعدلات الأيضية المنخفضة للرئيسيات تناسب معدلات نموها وتكاثرها البطيئة. ربما على العكس من ذلك، كان التكاثر الأسرع والخصائص المكلفة الأخرى للبشر مرتبطة بتطور معدلٍ أيضيٍّ مرتفع. كان كل المطلوب لاختبار هذه الفكرة هو حَمْل مجموعات من قردة الشمبانزي المضطربة، وقرود البونوبو الماكرة، وأفراد إنسان الغاب هادئة الأعصاب، والغوريلا فضية الظهر الخجولة، على أن تشرب بعناية جرعات من الماء غير المشع، دون أن تسكب منه شيئًا، وأن تعطينا عينات من بولها! وفي إنجاز علمي لا يستهان به، استطاع زميلاي ستيف روس وماري براون -وكلاهما يعمل في حديقة حيوان لينكولن بارك في شيكاغو- أن يتعاونا مع مقدمي الرعاية والبيطريين في أكثر من اثنتي عشرة حديقة من حدائق الحيوان في مختلف أنحاء الولايات المتحدة للحصول على تلك البيانات. استغرق الأمر عامين، لكنهما استطاعا تجميع بيانات كافية حول إنفاق الطاقة في القردة العليا تكفي لإجراء مقارنة مُحْكَمَة مع البشر.
وبالطبع كانت النتائج التي توصلا إليها هي أن البشر يحرقون كل يوم سعرات أكثر مما يفعل أيٌّ من أقاربنا من القردة العليا. وحتى بعد وضع عوامل في الاعتبار مثل حجم الجسم ومستوى النشاط وغيرها من العوامل، وُجِدَ أن البشر يستهلكون وينفقون أكثر مما يستهلك قرود الشمبانزي والبونوبو بنحو 400 سعر حراري يوميًّا، والاختلاف أكبر بين البشر وبين الغوريلا وإنسان الغاب. وتمثل السعرات الإضافية هذه العمل الإضافي الذي يقوم به جسم الإنسان لدعم الدماغ الأكبر حجمًا، وإنتاج أطفال أكثر، والمحافظة على أجسامنا لكي نعيش أطول. الأمر ليس ببساطة أننا نأكل أكثر مما تأكل القردة الأخرى (رغم أننا نفعل ذلك أيضًا)، فكما يعرف جميعنا جيدًا، فإن تراكُم السعرات الإضافية في الجسم غير المؤهل لاستخدامها نتيجته الحتمية هي السمنة. إن أجسامنا، وصولًا إلى مستوى الخلية، تطورت لتحرق الطاقة أسرع ولتنجز أعمالًا أكثر من أقاربنا من القردة. ولم يأت تطور البشر خاليًا تمامًا من الفوز ببعض السمات مقابل التضحية بالبعض الآخر: فقناتنا الهضمية أصغر وأقل استهلاكًا للطاقة من القردة الأخرى، والتي تحتاج إلى أمعاء كبيرة وتستهلك قدرًا هائلًا من الطاقة لتهضم طعامها النباتي الغني بالألياف. لكن التغيرات الحاسمة التي رسمت ملامح البشر كانت تغذيها التحولات التطورية في مُحرِّكنا الأيضيّ.
مصير مشترك
في وقت معين من بعد ظهيرة ذلك اليوم، غيرنا طريقنا باتجاه المكان الذي تستوطنه القبيلة، فلم يعد مواساد ينظر إلى الأرض بحثًا عن علامات بل كان ينظر أمامه؛ لقد كنا عائدين إلى المنزل من دون الزرافة. وهنا يظهر الخطر الأساسي في استراتيجية البشر عالية استهلاك الطاقة، فعودة الشخص إلى المنزل خالي الوفاض كانت واردة بنسبة كبيرة، كما كان لها تبعاتها الخطيرة أيضًا. فالكثير من الأطعمة الغنية بالطاقة التي نحتاج إليها لتغذية الأيض السريع يصعب الحصول عليها في البرية، مما يَزيد من تكلفة الطاقة اللازمة لإيجاد الطعام، ويزيد من مخاطر التضور جوعًا عند الرجال والنساء الذين ينتشرون بحثًا عن طعام، وعند صغارهم المنتظرين في الأكواخ.
ومن حسن حظ مواساد أن البشر طوَّرُوا بعضَ الحِيَل لإبعاد شبح الجوع، فنحن النوع الوحيد من الكائنات الذي تَعلَّمَ الطهي، وهو ما يرفع قيمة السعرات الحرارية لكثير من الأطعمة، ويجعل هضمها أسهل. إن إتقاننا للتعامل مع النار يجعلنا قادرين على تحويل الخضراوات الجذرية غير الصالحة للأكل –من تلك السلع المتاحة على أرفف متاجر “تريدر جوز” إلى الدرنات البرية عند قبيلة الهادزا– إلى قنابل حقيقية من النشويات. كما أننا تطورنا لتُصبِح أجسامُنا سمينة؛ ونحن نعرف هذا جيدًا من أزمة السمنة التي تواجه الغرب الآن، ولكن حتى رجال الهادزا الذين يُعتبرون نِحافًا بأي مقياس بشري، يحملون من الدهون ضِعفَ ما تحمله قردةُ الشمبانزي التي تتسكع في حدائق الحيوان. ورغم ما ينطوي عليه هذا الأمر من إشكاليات في عصرنا الحديث، فإن استعداد أجسامنا لتخزين الدهون قد تطور على الأرجح بالتزامن مع الأيض السريع، كجدار حماية للطاقة، ليتمكن الإنسان من البقاء على قيد الحياة في أوقات الشُّحِّ الغذائي.
وبينما كانت الشمس تلقي بأشعتها البرتقالية فوق قمم الأشجار في طريقها للغروب، وصلنا إلى أكواخ القبيلة وتوجهت أنا وديف إلى خيمتَينا، ومواساد ونيجا إلى كوخَي عائلتَيهما، وكلٌّ منا سعيد بالعودة إلى المنزل. ورغم خسارتنا للزرافة، لم يبت أيٌّ منا جائعًا تلك الليلة. بدلًا من ذلك، وبقليل من الجلبة أو الجهد الواعي، استخدمت القبيلة أكثر الأسلحة البشرية عبقريةً وقوةً ضد الجوع: ألا وهي المشاركة. إن مشاركة الطعام أمر في غاية الأهمية في التجربة البشرية، إنه الخيط المشترك الذي يربط بين كل حفلات الشواء، واحتفالات أعياد الميلاد، والاحتفالات الدينية، التي نأخذها على أنها من المُسَلَّمات، بيد أنها جزءٌ فريدٌ وأساسي من إرثنا التطوري؛ فالقرَدة الأخرى لا تعرف المشاركة.
وبعيدًا عن متطلباتنا الغذائية وعلاقتنا الوثيقة بالدهون، ربما يكون التأثير الأبرز لزيادة إنفاقنا من الطاقة هو الالتزام البشري بالعمل معًا. لقد ربطَ تطور الأيض السريع مصائرنا بعضها ببعض، وهو ما وضع أمام البشر الاختيار بين التعاون أو الهلاك. وبينما كنت جالسًا مع ديف وبرايان نتسامر حول مغامرات اليوم في أثناء تناوُلنا وجبة من السردين المعلب وشرائح البطاطس، تيقنت من أنني لم أكن سأفهم هذه الحقيقة بأية طريقة أخرى. حسنًا، لا توجد زرافة، لا مشكلة في ذلك.
اقرأ أيضًا: الإنسان الأول هاجر إلى السعودية قبل 85 ألف سنة
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.