لولا حجر رشيد لما كنا قد تمكنَّا من فك أسرار اللغة الهيروغليفية القديمة التي فتحت لنا بابًا واسعًا على حقبة تاريخية مهمة من تاريخ البشرية، امتدت لآلاف السنين. ولولا الأحافير لما نجحنا في تجسير ثغرات عديدة في السجل التاريخي لأنواع وفصائل حيوانية جابت كوكب الأرض شرقًا وغربًا في حقب تاريخية سابقة، فهي بمنزلة عين تمكِّننا من رؤية العالم كما شهده أسلافنا في الماضي البعيد. في هذا الإطار، نجح الفحص والتحليل المختبري المضني لأحافير مصرية، عُثر عليها بإحدى مناطق منخفض الفيوم في مصر، فيما يُعرَف بالمنطقة L-41، في تحديد نوع جديد من الثدييات المنقرضة من آكلات اللحوم (اللحوميات)، ينتمي لعائلة الهايينودون hyaenodonts. ووفقًا للدراسة المنشورة في 19 أبريل 2017 في دورية PLOS بلوس العلمية، صنف مؤلفو الدراسة حفريات مصرية عمرها 34 مليون سنة، أمكن جمعها بشكل تراكمي عبر ثلاثة عقود، لنوع جديد من حيوان الهايينودون في حجم الظربان. حدد الفريق البحثي جمجمة وفكين، وعظام للأطراف تعود لذلك الحيوان، وقد تمت فهرستها، وأخيرًا تم مسحها ضوئيًّا في جامعة ديوك، وأصبح من الممكن الآن مشاركتها رقميًّا مع الباحثين في جميع أنحاء العالم.
أطلق الفريق البحثي على الحفرية المكتشفة اسم «ماسراسكتور نانانوبيس» Masrasector nananubis، في إشارة إلى أنوبيس، الإله المصري القديم الذي يمتلك رأسًا أشبه برأس ثعلب. في حين تعود تسمية عائلة الهايينودون التى ينحدر منها ماسراسكتور نانانوبيس إلى الأمريكي د.جوزيف لايدي، الذي قام بوصف ذلك الحيوان، عقب اكتشافه للمرة الأولى في منتصف القرن الثامن عشر، وهو يعني بالضبط “سن الضبع” ، فـ”دون” تعني السن، و”هايينا” تعني الضبع.
المفترس المصري
“يمكن استخدام الحفريات المكتشفة حديثًا في تفسير المزيد من العينات المجزأة، فالأمر أشبه باكتشاف شكل آخر من حجر رشيد الأحفوري”، وفق وصف ماثيو بورتس Matthew Borths، الباحث بجامعة أوهايو الأمريكية، والباحث الرئيسي للدراسة، وذلك للاستدلال على غيرها من حفريات الهايينودون. وأضاف بورتس: هذه الأحافير تُظهر لنا العديد من الأنساب من عائلة الهايينودون الأفريقية، أو ضواري ما قبل التاريخ، والتي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعضها ببعض، وكانت تتطور في أفريقيا على امتداد حقبة طويلة جدًّا من الزمن فاقت 40 مليون سنة.
“لسوء الحظ، معظم السجل الأحفوري للثدييات التي جرى الكشف عنها بعد حقبة وجيزة من انقراض الديناصورات غير الطائرة مجزأ بشكل كامل”، يوضح بورتس، ما يجعل اكتشاف ماسراسكتور نانانوبيس مهمًّا جدًّا، فقد أمكن التعرف عليها ضمن عدد كبير من العينات، تتضمن جماجم كاملة تقريبًا، بالإضافة إلى الفكين، وأجزاء من الهيكل العظمي.
وينبهر علماء الأحافير بخصائص الهايينودون المتفردة، ولكنه من الحيوانات التي يصعب دراستها؛ نظرًا لندرة الأحافير الخاصة به التي عُثر عليها حتى الآن، فثمة هيكل واحد كامل فقط موجود على وجه الأرض، وهو معروض في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، الأمر الذي يمنح الكشف الأخير في صحراء الفيوم قيمة علمية كبيرة.
“لقد كنت دائمًا مفتونًا بدراسة آكلات اللحوم الأفريقية الحديثة كالأسود والضباع، ودراسة الهايينودون هي تجربة أخرى لي للتعرف على كيفية أن تكون ثدييًّا مفترسًا، وكيف ظلت تفعل ذلك بنجاح لملايين السنين قبل أن تنقرض”، كما يقول بورتس. ويؤكد: “تعطي ماسراسكتور لنا عرضًا مفصلًا عن نظامها الغذائي، وعن الكيفية التي تتبعت بها فرائسها”.
ويقول إريك سيفرت -المؤلف المشارك في الدراسة، والأستاذ في العلوم التشريحية التكاملية في جامعة جنوب كاليفورنيا-: “تعطينا رواسب الفيوم رؤى أكثر تفصيلًا عن التطور المبكر للثدييات الأصلية في أفريقيا”. ويوضح أن اللحوميات الصغيرة المكتشَفة في مواقع الفيوم كانت معروفة لنا، في السابق، فقط من قِبَل بعض شظايا الفك والأسنان التي أمكن عزلها من أماكن اكتشافها، وبالتالي فإن اكتشاف جمجمة كاملة وعظام الأطراف الخاصة لماسراسكتور يوفر الكثير من المعلومات الجديدة التي تسمح لنا بفهم أفضل لما كانت عليه هذه الحيوانات، وما طرأ عليها من تطور من جراء تكيُّفها مع الأنظمة البيئية القديمة التي عاشت فيها.
وفيما يتعلق بالأهمية العلمية للكشف، يشدد د. محمد سامح، مدير عام محميات المنطقة المركزية، باحث مستقل حائز على الدكتواره في الجيولوجيا، على أنه “لم يتم تجميع مثل هذه الأجزاء من كائن واحد من قبل”. يوضح: معظم حفريات جبل قطراني، وهذا المحجر بالذات، عبارة عن شظايا وأجزاء متفرقة يتم تجميعها، وهذه هي المرة الأولى التى يجري فيها تجميع جمجمة كاملة بشكل رائع كهذا، هذا بالإضافة للحالة الجيدة للفكوك، وهو ما يعتبر إضافة إلى سجل اللحوميات التي تم اكتشافها من قبل. يستطرد: آخر ما تم اكتشافه، في هذا الإطار، كان منذ ثلاثين عامًا، مؤكدًا على أن هذه خطوة مهمة للتعرف على البيئة القديمة، وبرهان على أن المنطقة كانت تغطيها الغابات في الماضي البعيد.
وتُعَد المنطقة L-41 واحدة من أهم الأماكن التي تتميز بغزارة الأحافير المدفونة بها في أفريقيا، وتقع في صحراء الفيوم التي تُعتبَر نظامًا بيئيًّا مصونًا لم يتغير بفعل الجنس البشري حتى الآن، وحافظة لتاريخ طويل يمتد لملايين السنين.
تقع L-41 التى جرى فيها الكشف عن ماسراسكتور في جبل قطراني بمحمية قارون الطبيعية، ويعود اكتشافها إلى العالم الأمريكي الوين سيمون بمشاركة العالم توماس بون، وفق سامح الذي يوضح أن الموقع يعود إلى عصر الإيوسين المتأخر، وقد تكون من الرواسب الطينية، فهو أحد جيوب الأنهار القديمة التى جرى عزلها عن النهر لتظهر مستنقعات صغيرة ابتلعت الحيوانات النافقة التي جرفها النهر إليها، مؤكدًا على أن هذا المحجر يعد من أغنى المحاجر بالمنطقة التى حوت العديد من الحفريات التي جرى اكتشافها.
سيف الساموري
في حين تمتلك آكلات اللحوم كلها زوجًا واحدًا من القواطع الخلفية بين أسنانها على كل جانب من جانبي الفك، تمتلك الهايينودون أو المفترس المصري، كما أطلق عليه الباحثون، ثلاث مجموعات من هذه القواطع على كلٍّ من الجانبين، تمكِّنها من قطع اللحوم كسيف الساموراي.
وتتفاوت أحجام الهايينودون ما بين حجم حيوان النمس mongoose-sized، وهي أصغر من حجم ماسراسكتور نانانوبيس المكتشَف مؤخرًا، وصولًا إلى أنواع في حجم الخرتيت rhinocerous-sized. كما كانت هناك الهايينودون العملاقة، مثل ميجيستوثيريوم Megistotherium وهيينايلوروس Hyainailouros، من بين أكبر الثدييات تناولًا للحوم عبر أي وقت مضى على هذا الكوكب. بعض الهايينودون التي عُثر عليها في الفيوم أيضًا كانت كبيرة جدًّا، مثل أسد بتيرودون الأفريقي كبير الحجم lion-sized Pterodon africanus.
سبقت الهايينودون الحيوانات الثديية أكلة اللحوم الحديثة modern terrestrial carnivores التي عاشت في أفريقيا وأيضًا في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، وكان بعضها يسكن الأشجار؛ والبعض الآخر يعيش في البرية. ومع زوال هذه الضواري من أمثال ماسراسكتور، شغلت المفترسات الحديثة مكانها- فشملت الأسود والفهود وبنات آوى التي تعيش في أفريقيا الآن، وغيرها من مجموعة اللواحم المعروفة بيننا. يقول بورتس لـ”للعلم”: “سجلات الهايينودون الأفرو- عربية هي الأقدم، مما يجعلها مفتاحًا لفهم تطور هذه الأنواع الثديية المنقرضة من آكلات اللحوم”. وتنتمي الثدييات الحديثة من آكلات اللحوم إلى مجموعة كارنيفورا Carnivora، وهي الثدييات التي تطورت أسنانها وأصبحت قادرة على قضم اللحوم، وتشمل الكلاب والقطط والدببة وحيوان النمس والضباع، وغيرها من آكلات اللحوم ذات الفراء.
تعاون مصري أمريكي
وعلى مدى عدة عقود، تراكمت العينات التي جرى الكشف عنها من قِبَل علماء الحفريات المصريين والأمريكيين الذين نجحوا في إزالتها بدقة من الصخور الطينية المالحة التي كانت مطمورة فيها كجزء لا يتجزأ منها. فقد بذل الفريق البحثي جهدًا مضنيًا في تقسيم طبقات الطين للكشف عن هذه الحفريات الثمينة، وذلك جنبًا إلى جنب مع المتعاونين من المتحف الجيولوجي بالقاهرة، وجامعة المنصورة المصرية، وجامعة ديوك الأمريكية.
ويُعَد هذا النوع من العمل البحثي مجهدًا جدًّا، إذ إنه يتطلب دقة وحرفية متناهيتين، خوفًا من تلف أيٍّ من الحفريات في أثناء عمليات البحث أو المعالجة. “هذه الدراسة هي نتيجة لجهد المئات الذين يحركون الرواسب، ويجهزون العينات، ويتخذون سبل الحماية للحفاظ على هذه الحفريات شديدة الحساسة، إذ تحتاج إلى أن تبقى في غرفة مجهزة للسيطرة على معدلات الرطوبة لتفادي تأثيرات الملح والطين الضارة عليها”، كما يشرح بورتس.
بالإضافة إلى كونها تجرى في ظروف مناخية تتسم بالصعوبة والتطرف، يحكي بورتس لنا أنه عندما ذهب في المرة الأولى إلى الفيوم، في مارس من عام 2012، كان يتوقع أن تكون الصحراء ساخنة وجافة، لكنها على العكس كانت باردة جدًّا، على الرغم من أن السماء، آنذاك، كانت صافية، على حد وصفه. ويضيف: الرياح الباردة كانت تتحرك بسرعة شديدة عبر الرمال فكانت كالسياط على أجسادنا، ما كان يجبرنا على ارتداء أعداد كبيرة من الملابس في الوقت ذاته.
يقول بورتس: “لم أكن أتوقع أن أحتاج إلى قفازات خلال فترة ما بعد الظهر في صحارى مصر! نحن لن نعود كثيرًا في ذلك الوقت من السنة”، ويوضح السبب وراء قراره هذا: من الصعب استخراج أية حفريات عندما تكون أصابعك خدرة تمامًا من شدة البرد.
يشرح محمد سامح خطوات استخلاص الحفريات وحفظها، حيث يقول إنه بعد انتهاء عملية الاستخلاص يتم إضافة مواد كيميائية، من شأنها تقوية وتصليب الحفرية وتحويلها من حالة الهشاشة إلى حالة يمكن التعامل معها، ثم يجري الحفر حول العينة لحين فصلها عن الطبقات الموجودة فيها، مضيفًا، يجري تغطية العينة بمناديل وورق الألمومنيوم (الفويل) بغرض عمل قميص جبس للحفاظ علي العينة، إلى أن يتم نقلها للمعمل كي تفصل الرسوبيات عنها، وإعادة لصق الأجزاء المكسورة وترميمها واستكمال المفقود منها، وأخيرًا عمل نماذج للعينة الأصلية.
ضواري ما قبل التاريخ
ويتميز الهايينودون عن غيره من آكلات اللحوم، ببعض الاختلافات الأخرى فيما يتعلق بالجماجم والهياكل العظمية، ولكن أسنانه، الأشبه بالمقصلة، كانت هي العامل الأهم الذي ساعد علماء الحفريات على فصله عن بقية اللحوميات. وقد جعلت كل تلك الأسنان الإضافية رؤوس الهايينودون تبدو كبيرة قليلًا بالنسبة لأحجام كامل الجسم، وأكبر كثيرًا من مثيلتها في الحيوانات الأخرى. كما تتميز الرأس بمواقع روابط العضلات القوية على عظامها، فهي أكثر كثافة من غيرها من العديد من اللحوميات ذات الأحجام المماثلة، الأمر أشبه برأس ضخم قابع على عنق قوي وجسم ذي بنيان أشد قوة.
وإذا كانت الهايينودون عمومًا من اللحوميات، ما يعني أنها جميعًا قادرة على تقطيع اللحوم بواسطة أسنانها، إلا أن ماسراسكتور نانانوبيس، وبعض المقربين من فصيلته، لم يكونوا يعتمدون بشكل كامل على أكل اللحوم. فمن خلال فحص أسنان الهايينودون ومقارنته بالثدييات الحديثة آكلة اللحم، وجد الباحثون أن ماسراسكتور كان له أيضًا أسطح طحن كبيرة على أسنانه، من شأنها أن تسمح له بتناول الفاكهة والبذور، كما هو الحال مع فرائس الفقاريات مثل القوارض rodents وحيوانات الوبر الصخري hyraxes التي عاشت معها.
كانت الهايينودون الأكثر افتراسًا في أفريقيا بعد انقراض الديناصورات غير الطائرة حتى الوصول لأقاربها من القطط والكلاب، وفي أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية كانوا أيضًا من آكلات اللحوم التي تعتلي القمة، من حيث قدرتها على الافتراس؛ إذ من المرجح أنها كانت قادرة على اصطياد حيوانات ضخمة وكبيرة الحجم كوحيد القرن والخيول والخنازير.
وكانت دراسة أخرى أجراها جو هونج يو -من المعهد الوطني للموارد البيولوجية في جمهورية كوريا- وزملاؤه قد توصلت إلى أن الحمض النووي الخاص بآكلات اللحوم يشكل نظامها الغذائي. عقد الفريق البحثي مقارنة بين جينومات 18 حيوانًا من الثدييات، مِن هذه الثدييات آكلات اللحوم مثل النمور، وآكلات النبات والحيوان مثل الإنسان، والحيوانات العاشبة مثل الباندا العملاقة. وجد الباحثون أن جينومات آكلات اللحوم فقدت العديد من جينات هضم الكربوهيدرات، وتتقاسم فيما بينها تغيُّرات في الجينات المعنية بقوة العضلات وخفة الحركة؛ ما يجعلها من نوع الحيوانات الصائدة البارعة.
لماذا انقرضت الهايينودون؟
ويبقى السؤال الأكثر أهمية، لماذا انقرض الهايينودون؟ يجيب بروتس: “لا تزال هذه منطقة نشطة جدًّا من التحقيق”، ويستطرد: ولكن هناك بعض العوامل البيئية التي قد تكون جزءًا من سبب زوالها. قبل ما بين 20 و15 مليون سنة، كانت القارة الأفريقية متصلة بأوراسيا، ومع الانفصال الكبير تغيرت تيارات المياه داخل المحيطات، ما أدى إلى نشوء مناخ جاف زاد من انتشار الأراضي العشبية في جميع أنحاء القارة الأفريقية. ومع تغيُّر المناخ، تغير المشهد، وبدأت أنواع جديدة من اللحوميات في الظهور، وشمل ذلك الأقارب البعيدة من القطط الحديثة والكلاب والضباع. يوضح بروتس: تكيفت الهايينودون مع كل هذه التغيُّرات لبعض الوقت، ولكن في نهاية المطاف، يبدو أن كل هذا قد دفع بها إلى الانقراض.
ويرى ل. فرديلين، المعروف براعي أحافير الفقاريات بمتحف التاريخ الطبيعي السويدي في استوكهولم، من خلال أبحاثه التي أجراها في هذا الإطار، أن الإنسان هو الآخر أدى دورًا لا يستهان به في أفول هذه الحيوانات اللاحمة، إذ تزامن ذلك مع شروع الإنسان البدائي early Homo في تناوُل اللحوم بكميات أكبر، منافسًا الحيوانات اللاحمة. ويشدد على أن الإنسان قد يكون مسؤولًا عن انقراض هذه الضواري beasts والذي بدأ قبل مليوني سنة، وذلك قبل وقت طويل من ظهور الإنسان العاقل Homo sapiens. ويشير فرديلين إلى أن دخول الإنسان العاقل على الخط أدى إلى إطلاق تغيرات واسعة النطاق في أسفل السلسلة الغذائية، مؤثرًا في الطرائد وحتى في النباتات التي تتغذى عليها تلك المخلوقات.
اقرأ أيضًا: الإنسان الأول هاجر إلى السعودية قبل 85 ألف سنة
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.