هي أبعد ما يمكن عن أن تكون مجرد جامعَة لقاحٍ طنّانة وخرقاء، يمكن للنحل حلّ المشكلات والمفاضلة بين الخيارات، كما أن لديه ردودَ أفعال تبدو، وعلى نحو مريب، مماثلة للعواطف البشرية.
وأنت تنظر إلى نحلة تطير مترنحة في يوم صيفي قد لا تظن أن في هذا أمرا مميزا. فقد صرنا نتقبل لحقيقة أن هذه الحشرات المتواضعة لا تعدو كونها مجرّد نحلٍ طنانة وخرقاء، تحوم في الأجواء باستخدام برنامج الطيار الآلي قائم على الغريزة البيولوجيّة. فقد كنّا نفترض أيضا افتقارها إلى الفرديّة، وأنها مجرد عبيد خُرُق تكدح في سبيل خدمة الهدف الأعظم للخليّة.
و لكن في ظل التمحيص الدقيق للعلماء واسعي الخيال، فإنّنا نتعلم الآن أن لدى النحل حقا شخصيّات فريدة تمكّنها من حلّ المشكلات والمفاضلة بين الخيارات، كما أن لديها ردودَ أفعال تبدو، وعلى نحو مريب، مماثلة للعواطف البشرية. ويقول أندرو بارون Andrew Barron من جامعة ماكواري Macquarie University في سيدني بأستراليا: “لدى النحل قدرة سلوكيّة تنافس في تعقيدها تلك الموجودة لدى بعض الثدييات البسيطة،” كل هذا بدماغ في حجم حبة خردل.
إنّنا نعرف منذ عقود قدرة النحل الذي يعمل في إطار جماعي على فعل أمور عظيمة؛ وبالأخص لغته الرمزيّة المتمثّلة بالرقصة الاهتزازية waggle dance والمُستخدمة لتبادل المعلومات حول مواقع مصادر الغذاء.
وشيئا فشيئا، بدأت نتائج الدراسات بإظهار أن فرديّة النحل تستحق مزيدا من الإشادة، إذ يمكنها اتّباع قواعد معيّنة والتمييز بين الأنماط في الطبيعة وتصنيف المحفّزات الحسّية حسب الشكل واللون، حتّى أنّ لديها قدرة أوّلية على الحساب. ولكن في السنوات القليلة الماضية أثبتت مهارات النحل بأنّها معقّدة تعقيدا يحيّر العقول بحق.
ولاختبار حدود قدرات النحل، عمل أولي لوكولا Olli Loukola وزملاؤه من كلية الملكة ماري بجامعة لندن Queen Mary University of London مؤخراً على تعليم النحل الطنّان كيفيّة دحرجة كرات بلاستيكية صغيرة وإدخالها في ثقوب من أجل الفوز بجرعات من المياه المُحلاّة. وسرعان ما بدأت النحلُ العملَ بتفانٍ في تشغيل آلات البيع المُنمنَة هذه، وكثيرا ما كانت تجد طرقا مختصرة لهذه الجائزة الحلوة؛ حتى أنّها طارت بظهورها نحوها، وهذا سلوك غير طبيعي بالنسبة إليها. كما دُرِّب النحل في تجربةٍ أخرى على سحب الأوتار لإطلاق مكافئاتٍ لذيذة.
ويمكن القول إن دراسة الأوتار، والتي نشرت في عام 2016، كانت أول دليل يعتمد على استخدام أداة في اللافقاريات، وهي قُدرة كانت فيما مضى حِكرًا على الطيور والثدييات، ولا سيما الرئيسيات. كما توصّلت أبحاث أخرى إلى أن النحل في المختبرات لن تؤدّي مهمّةً ما إلا إذا كانت لديها كل المعلومات الضرورية، ممّا يدل على وجود شكل بدائي من الإدراك ما وراء المعرفي Metacognition.
والنحل أيضا ملاحة محترفة، وذلك وفقا لجوزيف وودغيت Joseph Woodgate، وهو عالم إيكولوجيا السلوك من جامعة الملكة ماري كذلك. ويعلّق وودغيت قائلا: “مثل الباعة المتجولين؛ تحتاج النحل إلى التنقل بين عدد كبير من أماكن الزهور عبر طريق أكثر كفاءة.” ومن خلال ربط أجهزة إرسال مصغرة بالنحل وتتبعها بالرادار، وجد مؤخرًا أنّها لم تتذكر الأماكن التي زارتها سابقا وحسب، بل إنّها طارت في مسارات أقصر وأكثر استقامة مع مرور الوقت. ويدل هذا على ابتكارها وعلى تعلمها المستمر من البيئة، بدلا من مجرّد تكرارها الآلي لأفعالها.
وقد أصابت نتائجُ مثل هذه علماء الأحياء بالذهول والدهشة، فقد كانوا يفترضون في وقتٍ من الأوقات أنّ النحل تشبه ربوتات مُبرمجة وراثيا، مدفوعة بالغريزة وغير قادرة على حل المشكلات أو تعلّم مهارات جديدة.
ومع ذلك، فقد تكون المفاجأة الكبرى فيما يخصّ ذكاء النحل هي اكتشافُ أن الحياة الداخلية للنحل تحكمها مشاعر معقدة؛ أي حالات ذهنية تشبه إلى حد ما المشاعر الإنسانية كالإحباط والقناعة.
الشعور بالشجاعة
وبالنسبة إلى البشر، فإنّ الشعور بالسعادة يجعلنا نستجيب بصورة أكثر إيجابية للمواقف الغامضة. ولمعرفة ما إذا كان هذا الأمر يحدث مع النحل الطنانة، فقد أعطى الباحثون مياها مُحلّاة لبعض النحل دون غيرها، وذلك قبل إطلاقها لجمع الغذاء. وكانت النتيجة هي زيادة احتمال البحث عن مصادر غير معروفة من الطعام لدى تلك التي تلقت الشراب المُحلَّى.
وأكد المزيد من الاختبارات أن روح المغامرة لم تزدد لدى النحل بفضل ارتفاع السكر، بل لأن المكافأة غير المتوقّعة أدت إلى تحفيز الناقل العصبي “الدوبامين” الذي جعل النحل في حالة ذهنية أكثر إيجابية؛ تماما كما يفعل مع البشر. وكذلك ارتفع مستوى الشجاعة لدى النحل التي تناولت السكر، فاستطاعت التصدي لهجوم مفترس في محاكاة من صنع الباحثين.
لن يذهب المؤلف الرئيسي كلينت بيري Clint Perry، من جامعة الملكة ماري، إلى حد التأكيد على أن النحل المغامِرة كانت “سعيدة؛” فهي حالة يصعب تعريفها حتى في أنفسنا، ولكن هنالك أبحاثا أخرى تدعم فكرة امتلاك النحل أيضا للمشاعر، فقد أظهرت ميليسا بيتسون Melissa Bateson وزملاؤها من جامعة نيوكاسل Newcastle University في المملكة المتحدة أن هزّ النحل بقوّة لمحاكاة هجوم مفترس جعلها “أكثر تشاؤما” على حد تعبيرها، كما قلّ احتمال مجازفتها في محاولة الحصول على أنواع رحيق جديدة لم تكن روائحها مألوفة بالنسبة إليها.
إن مسألة ما إذا كانت لدى الحيوانات مشاعر شبيهة بالمشاعر الإنسانية هي مسألة مثيرة للجدل، مما يجعل بعض العلماء مترددين في القول إن لدى النحل مشاعر مشابهة لنا. ولكن على الرغم من عدم مقدرة النحل على الإجابة عن الاستبانات لتحديد مدى رضاه، فإنّه سيكون من المستغرب افتقاره إلى ما يعادل هذه الحالات العاطفية على الأقل، وذلك على حد تعبير بيري الذي يضيف قائلا: “إنّ السبب المحتمل وراء تطوّر العواطف هو مساعدة الكائنات الحية على اتخاذ قرارات أفضل،” فالحيوان الذي لا يتملّكه الخوف عند مواجهة الخطر، ولا يغمره الحماس الكبير عند وجود الطعام بوفرة، فإن احتمالات بقائه على قيد الحياة على المدى الطويل ستكون ضعيفة. وعلى الرغم من أنّه من غير المرجّح حاجة النحل إلى الفضفضة لأصحابها بعد يوم طويل في المروج، إلا أنّ بيري يعتقد بوجود طرق أخرى تثبت فيها مشاعر النحل أهمّيتها في التماسك الاجتماعي للمجموعة؛ تماما كما هي الحال مع البشر، “فقد طوّرت جميع الأنواع العواطف لأغراضها الخاصة،” كما يقول.
“قد تساعدنا النحل على حل أكثر
مشكلات العقل البشري تعقيدا”.
وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أنّ النحل في طليعة الحشرات ذوات الإدراك Cognition. بل إنّ الأمر الأكثر لفتا للنظر هو أنّ الأعمال الفذّة التي استطاع القيام بها عادة ما تكون مترتبطة بأكبر وأحدث جزء متطور من الدماغ البشري، وهو القشرة المخية الحديثة Neocortex التي يفتقر إليها دماغ النحل الضئيل. وقد جعل هذا بعض علماء الأعصاب في حيرة بالغة من أمرهم؛ إذ كيف تستطيع الحشرات حلّ مشكلات كنا نعتقد ذات يوم أنّها تتطلّب مراكزنا “العليا” لحلّها.
ويقول بارون: “من الواضح أنّ هنالك أكثر من طريقة لفعلِ الأشياء عندما يتعلّق الأمر بالدماغ،” فحيوانات كالنحل مثلا الذي يفتقر إلى وجود القشرة الجبهية الأماميّة -وهي جزء من القشرة المخية الحديثة المشاركة في التخطيط – ليست محصورة بالمادة الرمادية في الرأس كما يوضّح بارون، بل يمكنها معالجة المعلومات في حُزم من الخلايا العصبية في أجزاء أُخرى من أجسامها.
ومع تنامي معرفتنا حول أدمغة النحل وطريقة عملها، يعتقد بارون أنّنا سنكتسب رؤى نافذة جديدة على عمليّاتنا المعرفية والعاطفية، حتى أن النحل قد تساعدنا على حل أكثر مشكلات العقل البشري تعقيدا، مثل كيفية معالجة الأفكار في الدماغ.
ويقول بارون: “هناك أشياء كثيرة تجري في وقت واحد وفي أيّ لحظة داخل نظامنا العصبي المركزي، للدرجة التي يصعب معها تتبّع ما يحدث بالضبط.” ولكن مع النظام العصبي البسيط والبدائي للنحل يكون إعداد مخطّطات للمسارات أوضح وأسهل بكثير، إذ يتوقّع بارون قائلا: “سوف نتعلم الكثير عن كيفية عمل الدماغ الأكثر تعقيدًا وكيفية تطوّره أيضا، وذلك من خلال دراسة نظامٍ أبسط منه بكثير.” ياله من أمر سيثير ضجة وطنينا كبيرين.
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: هل كان الحنانُ الدافعَ إلى تطور لغةِ نوعِنا؟