الاكتشاف يُعيد إيقاد الجدال حول انقراض الحيوانات الضخمة
صورة: طيور الفيل العملاقة قد تكون تعايشت مع البشر لآلاف السنين.
كان يُعتقد منذ فترة طويلة أنّ مدغشقر، التي تقع على بعد نحو 425 كيلومتراً من الساحل الإفريقي، هي آخر مكان على الأرض يمكن الاستقرار فيه. وقد أفاد الباحثون في تقرير صدر هذا الأسبوع في مجلة ساينس أدفانسيس Science Advances إلى أنّ العظام القديمة التي تحمل علامات قطع تُشير إلى أنّ الناس قد اتخذوا الجزيرة الخصبة سكنًا لهم قبل 10500 سنة، أي قبل 8 آلاف سنة مما كان يُعتقد سابقًا؛ وهذا مدهش.
وهذا الاكتشاف الذي حققه فريق بقيادة جيمس هانسفورد James Hansford من جمعية علم الحيوان في لندن Zoological Society of London، يعيد إحياء الجدل الدائر حول ما إذا كان البشر مسؤولين عن انقراض الحيوانات الضخمة Megafauna الفريدة في مدغشقر، بما في ذلك الليمور العملاق وأكبر طيور العالم. وازدهرت هذه الحيوانات الكبيرة على الجزيرة بعد انفصالها عن شبه القارة الهندية قبل 88 مليون سنة، ثم بادت منذ عدة قرون مضت على ما يبدو بعد وصول الناس إليها بفترة قصيرة. ولكن الندوب النصلية على عظام طائر الفيل الضخم أيبيورنيس ماكسيموس Aepyornis Maximus تشير إلى وجود تعايش طويل بين البشر والحيوانات الضخمة مما يتحدى الاعتقاد بحتمية إبادة البشر للثديياتِ الكبيرة والطيور التي لا تطير بعد وصولهم إلى أرض جديدة.
ويقول ديفيد بيرني David Burney، وهو عالم الأحياء القديمة في الحديقة النباتية الاستوائية الوطنية National Tropical Botanical Garden في كولوا بهاواي والذي لم يشارك في الدراسة، إنّ النتائج: “تتحدى كل ما كُنا نظن أننا نعرفه عن وصول الإنسان إلى مدغشقر.” وبشأن الاكتشاف، إلى جانب بعض الأشياء الجديدة الأخرى التي عثروا عليها وتُشير أيضًا إلى الاستقرار المبكر، فيقول: “إنه خبر مهم،” على الرغم من تساؤله وآخرون عما إذا كان هذا كافيًا لحل الجدل الذي تدور حول الحيوانات الضخمة.
ويقول إيان تاترسال Ian Tattersall، باحث في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا ) من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي American Museum of Natural History (اختصارًا: المتحف AMNH) في بمدينة نيويورك: “من الصعب تحديد تاريخ وصول البشر إلى مدغشقر،” ويُضيف إلى أن: “الأدلة الأثرية على الوجود البشري المبكر … في أحسن الأحوال نادرة.” ومن المعروف أن الإندونيسيين والأفارقة الشرقيين أسسوا مستوطنات زراعية في عام 500 بعد الميلاد، لكن عظام الليمور وأفراس النه التي تحمل علامات قطع -والمنقرضة الآن- تشير إلى أنّ البشر كانوا موجودين قبل ستة قرون من الزمن. وقد وجد علماء الآثار مؤخرًا، على الساحل الشمالي الشرقي، شفرات صغيرة من الحجارة بدت كأنها مؤرخة إلى ما قبل عام 2000 قبل الميلاد، على الرغم من أن الادعاء غير مقبول على نطاق واسع.
وفي عام 2008 سمعت باتريشيا رايت Patricia Wright، الباحثة في علم الإنسان من جامعة ولاية نيويورك State University of New York في ستوني برووك، من عمّة أحد الزملاء أنّ رجلاً قد اكتشف عظام ديناصور بالقرب من إلكاكا Ilakak، في الجزء الجنوبي الأوسط من الجزيرة، أثناء بحثه عن أحجار الياقوت. وتقول رايت: “لم أصدق رواية العمّة، لكنني في النهاية ذهبت لأرى المكان بنفسي.” ووجدت مع أرماند راسومارامانانا Armand Rasoamiaramanana من جامعة أنتاناناريفو University of Antananarivo، أنّ رُفات “الديناصورات” ما هي في الواقع إلّا بقايا عظام ليمور الضخم وأفراس نهر وسلاحف عملاقة وتماسيح. كما اشتمل الكنز الدفين على عظام طائر الفيل، وهو مخلوق يشبه النعام وكان يبلغ ارتفاعه أكثر من 3 أمتار ويزن أكثر من 350 كيلوغرامًا.
وحُفِظت العظام في مركز ميداني قريب، وحين فحصها هانسفورد في عام 2016 لاحظ على عظام ساق طائر الفيل، البالغ طولها مترين، وجود ثلمات عميقة. وبدا واضحًا أنها كانت من صُنع البشر الذين كانوا يصطادون فريستهم باستخدام أدوات حجرية حادة. وبتأريخ العظام عن طريق قياس عمر عنصر الكربون -14، توصّل الفريق إلى أنّ العظام تعود إلى ما قبل 10500 سنة. ويُشير هانسفورد وزملاؤه إلى أنّ هذا الاكتشاف يمثل: “أوّل دليل معروف على وجود الإنسان في مدغشقر.”
ويدل التاريخ المحدد على ما هو أكثر من مجرد تأجيل موعد وصول البشر. إذ قَبِل العديدُ من علماء الآثار فكرة بول مارتن Paul Martin، عالم الآثار من جامعة أريزونا University of Arizona في توكسون، والتي اقترحها منذ أكثر من أربعة عقود وهي أنّ الحيوانات الضخمة مثل الماموث Mammoths وغيرها من الثدييات العملاقة في القارات الشمالية قد فنت بسبب “الهجوم الخاطف” من البشر الصيّادين الذين يطؤون أراضي جديدة، وليس بسبب عوامل مثل تغير المناخ. ومنذ ذلك الحين برزت مدغشقر كأرضية اختبار رئيسية للنظرية.
ويقول هانسفورد إنّ النتائج التي حصلت عليها مجموعته، وهي إظهار تعايش البشر مع الحيوانات الضخمة لمدة 9 آلاف سنة: “قضت على فرضية الانقراض السريع أو الهجوم الخاطف على مدغشقر.” ويقترح أنه فقط بعد زيادة أعداد المزارعين في جميع أنحاء الجزيرة؛ مما غيّر البيئة ومن ثم ازداد الضغط على الصيد، وقد أدى في النهاية إلى انقراض مخلوقات مثل طائر الفيل. ويقول روس ماكفي Ross MacPhee، باحث في علم الإنسان من المتحف AMNH، إنّ استنتاج الورقة البحثية: “يترتب عليه تبعات كبيرة،” لأن مثل هذه الانقراضات، كما يُضيف قائلًا: “غالباً ما تُعتبر دليلاً على السجل الثابت للإنسان في التدمير، في الماضي والحاضر والمستقبل.”
غير أنّ تاترسال يقول إنّ التعميمات حول تأثير الإنسان: “سابق لأوانه.” ويُشير تاترسال وبيرني، وهو من المدافعين منذ فترة طويلة عن نظرية الهجوم الخاطف، إلى أنّ ما اكتُشف في مدغشقر قد يكون دليلًا على إقامة مجموعة صغيرة من البشر لفترة وجيزة فقط على الجزيرة، وكان تأثيرها ضئيلًا في الحيوانات. ولا تزال فرضية الهجوم الخاطف قابلة للتطبيق في مكان آخر: فقد انقرض طائر الموا النيوزيلندي Moa – وهو طائر كبير آخر لا يطير بعد أقل من قرنين من وصول البولينيزيين Polynesians الأوائل (سكان جزر المحيط الهادي). ويقول هنري رايت Henry Wright، عالم الآثار من جامعة ميتشيغان University of Michigan في آن آربور: “يُظهِر مثال مدغشقر أنه لا يوجد تفسير واحد مناسب لجميع حالات الانقراض.”
وحتى الآن، لم يعثر علماء الآثار الذين يبحثون في العظام القديمة على أدوات حجرية قد تلقي الضوء على أسلوب حياة المستوطنين الأوائل ومدة بقائهم في الجزيرة. ويعترف هانسفورد أنّ حل الجدال المزدوج حول مستوطنة مدغشقر وزوال حيواناتها الضخمة سيحتاج إلى المزيد من التنقيب والتأريخ. ويأمل هو وفريقه في العودة إلى حفرة العظام في المستقبل القريب “الآن بعد أن فهمنا الأهمية المذهلة للموقع.”
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: حيوانات المُدن أقل حجمًا من حيوانات الريف