بقامته الطويلة، ومنكبيه العريضين، وجمجمته الأطلسية، انحنى شخص مجهول ينتمي إلى جنس النياندرتال على فروعٍ جافة، ممسكًا بيديه قطعتين من الحجر، إحداهما سوداء اللون مدببة الأطراف، والأخرى شبه دائرية ذات بريق ذهبي جذاب. استمر ذلك الشخص في قرع الحجرين بعضهما ببعض، ليُنتِجا مع الصوت شررًا خفيفًا، امتد ليُمسك في الغصون الجافة، مُحدثًا دخانًا عزَّزه الكائن الطويل بنفحات مستمرة من رئتيه، ورويدًا رويدًا، تحول الدخان إلى نار، أضاءت ذلك الكهف الأوروبي، واستمد منها هذا الإنسان قوة جديدة، لم تكن معروفة سابقًا.. قوة التحكم في النار.
الزمان: قبل 50 ألف عام، والمكان: كهف فرنسي، يقع بالقرب من مدينة “ليل” الساحرة. في ذلك الوقت لم يكن للحدود وجود، ولا معنى، كان إنسان “النياندرتال” يرتع في وسط القارة الأوروبية، يعيش على الجمع والالتقاط، ويقتبس النيران من مصادرها الطبيعية، إلا أنه تمكن في ذلك اليوم المشهود من إشعال النار لأول مرة بأدواته الخاصة، وفق ما يُشير بحثٌ حديث، نُشر قبل عدة أيام في دورية “ساينتفك ريبورتس”.
للنار قصة قديمة
قصة النار بدأت قبل ذلك الزمان بكثير على مسافة آلاف الأميال من الكهف الفرنسي، بالتحديد على بُعد 32 كيلومترًا من مدينة “جوهانسبرج” بجنوب أفريقيا حيث يقع كهف “سوارتكرتز” المشهور، الذي يُعد كنزًا حقيقيًّا للباحثين في مجال الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وفي الطريق نصف المُعبَّد المؤدي إلى المنطقة الغنية بآثار أجدادنا، عثر العلماء على دلائل أسهمت في كتابة قصة الحياة البشرية على الأرض وتأريخها. من ذلك الكهف استخرج الباحثون أحافير أسهمت في حل بضعة ألغاز، منها كيف تطور الإنسان من سلالة غابرة، وكيف تطورت أدواته وسلوكه.
من ضمن تلك الدلائل، ما اكتشفه الباحثون عام 1988، حين عثروا على مجموعة من الأدوات بالقرب من مدخل الكهف الذي طالما ضم بين جنباته أجساد أجدادنا الراغبين في الحماية من تقلبات المناخ وهجوم الحيوانات المفترسة. أشارت تلك الأدوات إلى استخدام أشباه الإنسان للنار قبل نحو 700 ألف عام، وبعد سنة واحدة فقط من اكتشاف الأدوات، عثر فريق بحثي آخر على عظام في الموقع نفسه، لنوع من القردة العليا، عاش في الحقبة نفسها، فاستنتجوا أن تلك الأدوات تنتمي إلى ذلك النوع، وربما يكون قد استخدم النيران وسيلةً للتدفئة، أو للدفاع عن نفسه ضد هجمات الحيوانات الأخرى.
لكن، لم يتمكن الباحثون وقتها من معرفة ما إذا كانت تلك النيران قد أُشعلت عن طريق “أشباه الإنسان” أم أنهم فقط تمكنوا من اقتباسها من حرائق الغابات، ولم يُعرف -حتى أيام قليلة مضت- تاريخٌ مُحدد أشعل فيه الإنسان النار بأدواته الخاصة.
التحكم في إشعال النيران
وفي الدراسة العلمية الحديثة المنشورة في دورية “ساينتفك ريبورتس”، تمكن باحثون من جامعة ليدن الهولندية بالتعاون مع باحث من جامعة بوردو الفرنسية من اكتشاف مجموعة من الأدوات استخدمها الإنسان البدائي “نياندرتال” في صناعة نيرانه الخاصة.
عثر الباحثون على تلك الأدوات في كهف فرنسي، ويرجع تاريخها إلى نحو 50 ألف سنة، وهو ما يعني أن الإنسان القديم تمكَّن من إشعال نيرانه في ذلك التوقيت، على الأقل.
وتُعد تلك الأدوات هي الأقدم من نوعها –إلى الآن- والتي استُخدِمت في إشعال النار.
طيلة عقود، ظل الباحثون في مجال أبحاث النار يتناقشون حول ما إذا كان بإمكان النياندرتاليين أن يشعلوا النيران لأنفسهم، أم كانوا يعتمدون على المصادر الطبيعية للنار، مثل حرائق الغابات التى يضربها البرق، وكانت معظم آراء العلماء في كفة اقتباس النار من المصادر الطبيعية، غير أن الدراسة الحديثة تقدم لأول مرة دليلاً مباشرًا على صنع إنسان النياندرتال العشرات من الأدوات التي استُخدمت لإشعال النار في العديد من مواقع العصر الحجري القديم الأوسط في فرنسا.
صناعة النار.. تقنيتها ودلائلها
وتشير الأدوات إلى أن تقنية إشعال النار كانت واسعة الانتشار بين البشر النياندرتاليين في هذه المنطقة منذ حوالي 50 ألف سنة، وهو الأمر الذى يحسم الجدل بصورة نهائية، فإنسان النياندرتال كان متطورًا بدرجة كافية لاستيعاب وصنع تقنيات يُشعل بها النيران.
وتتكون الأدوات التي عُثر عليها من حجر الصوان الصلد، ومعدن البايرايت اللامع، وتُشير العينات المحفوظة إلى استخدام النياندرتال تلك القطع لإشعال النار بواسطة الاحتكاك.
فحين استخدم الباحثون أسلوب التحليل الميكروي –تحليل المجهري- للكشف عن وظيفة تلك الأدوات، لاحظوا وجود دلائل على تكرار القرع، وعثروا على ملحوظات تُشير إلى حدوث تآكل قوي يشير إلى تداخلات بين مادتين، وبفحص المنطقة المحيطة بتلك الأدوات، تَبيَّن وجود مجموعة من الأدوات الأخرى الشبيهة، علاوة على وجود آثار لإشعال الحرائق، فاستنتجوا أن تلك الأدوات كانت تُستخدم لإشعال النيران.
أظهرت نتائج فحص الأدوات عددًا من الأضرار السطحية، شملت خدوشًا في الطلاء الطبيعي للحجارة، وكسورًا في الحواف، وأخاديد في جسم الأدوات، وآثار طرق غير اتجاهية، وعلامات قرع دائرية معزولة أو مجمعة، وتقول الورقة البحثية إن تلك الآثار تنشأ من الاحتكاك القوي، والضربات المائلة المتعمدة.
وتتفق تلك الآثار مع عملية صنع الشرر التي تُنتج النيران، ويقول الباحثون إن نواتج الاصطدام تركت ندوبًا على الصوان على شكل حرف C تُشبه الندوب التى يُمكن أن يُحدثها معدن البايرايت اللامع.
كما بيَّن الفحص المجهري للأدوات وجود مجموعة من شظايا البايرايت على سطح حجر الصوان، الذي تبلغ صلادته 6.5 (نحو ضعفي صلادة حجر الصوان).
قدرات النياندرتال المعرفية
أندرو سورنسن، باحث في مرحلة ما قبل الدكتوراة بكلية الآثار جامعة ليدن، والمؤلف الرئيسي لتلك الدراسة، يقول في تصريحات خاصة لـ”للعلم”: إن النتائج تؤكد أن إنسان النياندرتال تمكَّن من إشعال النار والتحكم بها قبل نحو 50 ألف سنة، مشيرًا إلى أن تلك الورقة البحثية تحسم الجدل المُثار حول ما إذا كان النياندرتاليون قد صنعوا النيران أم اقتبسوها فقط من الطبيعة.
ويقول الباحث إنه بدأ البحث عن أصول صنع النار خلال رسالة الماجستير قبل نحو 8 سنوات، حتى تمكن في عام 2013 من جمع مجموعة من البيانات والأدوات التى شكَّلت عصب دراسته المنشورة حديثًا.
ويرى الباحث أن المستقبل قد يحمل اكتشافات أخرى لأدوات استُخدمت في وقت أكثر بكورًا لصناعة النار، قائلًا إن ذلك الاكتشاف يعني أن إنسان النياندرتال “امتلك قدرات معرفية”، وكان على دراية كبيرة بالطبيعة من حوله، “لدرجة أنه عثر على المواد اللازمة لإشعال النار”، كما أنه تمتع “بالبصيرة اللازمة لجمع هذه المواد من أجل الحاجة المستقبلية”.
ويشير الاكتشاف أيضًا إلى أن إنسان النياندرتال كان لديه فهم عميق لخصائص المواد اللازمة لإشعال النيران، “لدرجة أنه تمكَّن من صنعها من عنصرين مختلفين كالصوان والبايرايت”، على حد قول “سورنسن”.
ما الذى يجعل البحث في تاريخ إشعال النيران أمرًا مهمًّا؟
الإجابة يقدمها “جون دجوايت” من جامعة ليفربول والمتخصص في أصل النار، إذ يقول في تصريحات خاصة لـ”للعلم”: إن سلوك البشر قد تغير تمامًا بعد اكتشاف طريقة التحكم في النيران.
“البشر بعد اكتشاف النار ليسوا كالبشر قبل اكتشافها”، يقول “جون”، مشيرًا إلى أن النار لم تكفل الحماية من الحيوانات المفترسة فقط، بل ساعدت على تكوين المجتمعات الحديثة، واكتساب قدرات معرفية أكبر، عبر طهو الغذاء الذي أسهَم في تحسين عملية التغذية وامتصاص مزيد من السعرات الحرارية، وبالتالي أسهَم في زيادة حجم الدماغ، وتحسين أداء المعدة، والتخلُّص من البكتيريا المُمرِضة، فأدى إلى زيادة العمر الافتراضي للإنسان.
كما أسهَمت النار –على حد قول جون- في تكوين المجتمعات الحديثة، وتعزيز الروابط الأسرية؛ “إذ إن البشر الأوائل طالما التفوا حول النيران لصناعة الطعام والحماية من هجمات الحيوانات المفترسة”. ويقول “جون” إن صناعة النار والتحكم بها “نقلت البشرية إلى منطقة الحضارة كما نعرفها الآن”.
مزيد من المفاجآت في المستقبل
ويرى “جون” أن نتائج الدراسة “وضعت تاريخًا مبدئيًّا لأول نيران مصنوعة في التاريخ”، مشيرًا إلى أن المستقبل ربما يحمل مزيدًا من المفاجآت بخصوص ذلك التاريخ.
كان التحدي الرئيسي في تلك الدراسة هو العثور على الأدوات التى تحمل أدلة مجهرية لصناعة النار، “كنا نبحث عن إبرة في كومة قش”، يقول المؤلف الرئيسي للدراسة “أندرو سورنسن”، مشيرًا إلى أن الفريق البحثي كان يقضي ساعات طويلة خلف المجهر للعثور على تلك الإبرة.
يود “أندرو” أن يُطبق ما تعلمه في أثناء البحث عن أدوات صنع النار في دراسة أخرى تهدف لمعرفة ما إذا كان النياندرتاليون قد تعلموا صناعة النار في أوروبا أم جلبوها معهم في أثناء رحلتهم العظمى من أفريقيا، “إذا ما كان الحال أن التقنية مستوردة من الخارج فهذا يعني أن تاريخ النار ستُعاد كتابته من جديد.. ومعه سيُعاد تقييم القدرات العقلية لأحد أسلاف الإنسان.. وربما تُعاد كتابة تاريخ ذلك الإنسان، إنسان النياندرتال”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.