ترى فرضية غايا المثيرة للجدل أن الأرض مثل كائن خارق تكَّيف ليكون مثاليّاً للحياة. أخيرًا قد يُظهِر نوعٌ عجيب من التطور كيفية حدوث هذا بالفعل
في عام 1948 بنى رائد السيبرانية Cybernetics روس آشبي Ross Ashby آلةً مثيرة للاهتمام. فقد شُيِّد جهاز الاتزان الداخلي Homeostat من أربع وحدات تحكم في القنابل مترابطة ببعضها البعض أخذت من سلاح الجو الملكي البريطاني UK’s Royal Air Force.
وتتضمن أربعة مغناطيسات محورية، يُحدَّ موضع كل منها وفقاً لموضع المغناطيسات الأخرى وتوجه بآليات تغذية راجعة Feedback مولدة باستخدام جدول من الإعدادات العشوائية. وعند تشغيل آشبي للجهاز تأرجحت المغناطيسات بعنف.
وأحياناً كانت تعود إلى وضع اتزان مستقر. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن آشبي أعد جهاز الاتزان الداخلي بحيث يعيد تشغيل نفسه باختيار جديد لإعدادات عشوائية. وبمرور الوقت ستؤدي هذه الخوارزمية الأساسية Basic algorithm – إذا كان الأمر غير مستقر، حاول مرة أخرى – دائماً إلى الاتزان في النهاية. وكان هذا هو غرض الجهاز الوحيد: إظهار أن النظام الديناميكي البسيط سيستعيد الاستقرار استجابةً للتغيرات في بيئته. واعتقد آشبي أن هذا «الاستقرار الشديد» Ultrastability هو المبدأ الحاكم في الطبيعة، موضحاً، من بين أمور أخرى، أن تكيف الأنواع في كواتها الإيكولوجية Niche – عملية قد تبدو ذات هدف لكنها تنشأ في الواقع عن عمليات عشوائية. وقد يبدو وصف تغير الاتزان الداخلي Homeostat’s change بمرور الوقت من حركة جامحة وصولاً إلى الاستقرار بأنه «تطور» وصفا شديد التعميم. فهو يفتقر إلى جميع السمات التي نربطها بالتطور الدارويني Darwinian evolution – مثل الحياة والتكاثر.
ومع ذلك، فهناك اعتقاد متزايد أن القوى نفسها التي تدفع آلة آشبي تُمسِك بمفتاح المفهوم الأعم للتطور، وهو مفهوم قد يشمل أنظمة شبه حية وحتى غير حية. قد يكون هذا الرأي الجديد ضروريّاً لفهم عمل النُّظم الإيكولوجية Ecosystems بل وحتى أصل الحياة. أما الأمر الأكثر إثارة للاهتمام؛ فهو أنه يعزز فرضية غايا Gaia hypothesis، وهي الفكرة المثيرة للجدل التي تقول إن المحيط الحيوي يتصرف مثل كائن حي عملاق ينظم نفسه بنفسه للحفاظ على الظروف المناسبة للحياة.
ومعادلة داروين الأصلية للتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي Natural selection تعمل على النحو التالي: الكائنات الحية تتباين، والكائنات ذات السمات الأكثر مواتاة تترك ذرية أكثر في المتوسط، ومن المرجح أن يرث هذا النسل سمات الوالدين المواتية. وهذا يفسر سبب تكيف الكائنات الحية جيدًا مع بيئاتها – لماذا تكون للطيور التي تتغذى بالبذور مناقير قوية وسميكة، ولماذا تنتج الأزهار الرحيق الغني بالسكر لجذب المُلقِحات، وعدد لا يحصى من السمات الأخرى.
ومع تطور تفكيرنا التطوري، أثبت الانتخاب الطبيعي قابلية التكيف بشكل ملحوظ؛ فيمكنه أن يفسر تطور «الجينات الأنانية» Selfish genes – وتلك فكرة نشرها جماهيريّاً البيولوجي ريتشارد دوكينز Richard Dawkins في سبعينات القرن الماضي – لأنه مثل الأفراد من النوع نفسه، قد يوجد جين ما في أشكال مختلفة، من المحتمل أن بعضها يكون أكثر قدرة على البقاء فتُنقل إلى الأجيال القادمة. وفي ضوء الظروف المناسبة، قد يمتد الانتخاب الطبيعي ليؤثر في مجموعات محددة من الكائنات الحية، كما هي الحال عندما يعمل عدد أكبر من السكان المتعاونين بطريقة أفضل ضد المجموعات الأقل تعاونًا. ولكن، تنهار هذه الدينامية الداروينية على مستوى غايا، الكوكب بأسره.
وعلى حد علمنا، الأرض هي حالة وحيدة: لا يوجد سكان يتنافسون لإعادة إنتاج كواكب تخضع للانتخاب طبيعيّاً من أجل اختيار الجيل القادم منها. ومع ذلك، كما الكائنات الخارقة التي صقلها التطور، يبدو أن الأرض ذاتية التنظيم بطرق ضرورية للحياة. وظلت مستويات الأكسجين نسبيّاً ثابتة لمئات الملايين من السنين، وكذلك توفرت اللبنات الأساسية للحياة مثل الكربون والنيتروجين والفوسفور. وبشكل حاسم، فقد ظلت درجة حرارة سطح الأرض ضمن النطاق الضيق الذي يسمح بوجود الماء السائل. صحيح أنه حدثت ثورات: خلال أحداث «أرض كرة الثلج» Snowball Earth قبل نحو 700 مليون عام، على سبيل المثال، تجمَّد معظم السطح بكامله. ويتساءل تيم لينتون Tim Lenton من جامعة إكستر University of Exeter بالمملكة المتحدة: «لكن السؤال الأساسي هو: لماذا يقضي النظام الكثير من الوقت في حالة مستقرة وليس التحليق في كل مكان فحسب؟»
لقد أربك هذا السؤالُ علماءَ الأرض منذ أن اقترح جيمس لوفلوك James Lovelock فرضية غايا في ستينات القرن الـ20. غير أنه ليست هناك طريقة واضحة لتطور مثل هذا التنظيم الذاتي. ويصح هذا خصوصاً لأن العمليات التي تنشأ عنها درجة حرارةٍ الأرض ومستويات الأكسجين وما شابه ذلك – عمليات تشمل أموراً مثل الصفائح التكتونية Plate tectonics والتعرية Erosion- هي عمليات تعمل على مدى ملايين السنين. وهذا وقت أطول بكثير من أن يجعل تكيف أفراد الكائنات الحية مع بيئاتها من خلال الانتخاب الطبيعي أمراً ذا مغزى. وقادت هذه المعضلة معظم علماء الأحياء التطورية إلى رفض أي فكرة تطور غاياني Gaian evolution رفضا تاما. ويقول تشارلز غودنايت Charles Goodnight من جامعة فيرمونت University of Vermont: «ببساطة لا يمكنك الحصول على تكيف على مستوى الكواكب».
لكن قد تكون هناك طريقة أخرى، كما يقول لينتون. ماذا لو كانت غايا تعمل مثل الاتزان الداخلي لآشبي Ashby’s Homeostat؟ وبعبارة أخرى، يقترح أن الأرض والحياة المبكرة عليها ربما تفاعلت بشكل عشوائي في البداية. فعلى سبيل المثال، حالات الضبط غير المستقر Unstable configurations – بقدر قليل من تدوير للعناصر الأساسية مثل النيتروجين أو تلك التي قد تخلو منها تماماً – كانت ستفشل سريعاً؛ مما يتطلب إعادة تشغيل الحياة من نقطة الصفر تقريبًا. وفي المحصلة، فعلى الرغم من ذلك، يجب أن يعثر النظام بوضعية ضبط مستقر يشتمل على آليات أفضل للتدوير وتنظيم أشد. حينئذ لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن كوكب اليوم لديه آليات تنظيمية قوية.
«مثل الكائنات الفائقة التي صقلها التطور، يبدو أن الأرض ذاتية التنظيم».
وهذه العملية التي تسمى “الانتخاب بالمثابرة” Selection by persistence تتجنب متطلبات المنافسة والتكاثر التي تولِّد إشكالية استخدام الانتخاب الطبيعي كآلية لشرح تطور الأرض. ويقول لينتون: «انظر إلى الأمر كما لو كان خوارزمية بحث»، «يمكن [للأرض] الخضوع لتجارب متكررة بمرور الوقت حتى تتوصل إلى بنية مستقرة. وبمجرد حدوث ذلك، يميل ذلك إلى الاستمرار».
العملية لا تتوقف عند هذا الحد، وفقًا للينتون. فبمجرد أن يكون النظام في حالة مستقرة، يمكنه مراكمة المزيد من التغييرات – على سبيل المثال آليات تنظيمية جديدة تعزز بدورها من استقرار النظام. ويسمي هذا «الانتخاب المتسلسل» Sequential selection. ونتيجة لذلك، لا تستمر الأنظمة المستقرة فحسب، بل تتحسن بمرور الوقت أيضًا. وفي بحث نشر العام الماضي وصف لينتون وآخرون الكيفية التي يضيف بها هذا التحسن التدريجي إلى عملية تطورية قد تؤدي إلى تنظيم غاياني ذاتي. لوفلوك، من ناحية، متحمس لهذه الفكرة. إذ يقول: «المشكلة في غايا وأنظمة التغذية الراجعة الديناميكية الأخرى هي أنه يمكن وصفها ولكن لا يمكن تفسيرها. وقد وسّع لينتون وزملاؤه نظرية غايا».
ومع ذلك، فعلى الرغم من أن الانتخاب بالمثابرة قد يكون منطقيّاً جدّاً، فهل هو ممكن عمليّاً؟ ينشأ التنظيم الذاتي بسهولة في أنظمة بسيطة نسبيّاً، كما يوضح الاتزان الداخلي لآشبي. ولكن مع زيادة تعقيد النظم، يزداد عدد الحالات المحتملة ازدياداً ضخماً – وتقل احتمالات العثور العشوائي على مستوى ثابت بالقدر نفسه، كما تقول ألكسندرا بن Alexandra Penn، عالمة التعقيد واختصاصية النظرية التطورية من جامعة سوري University of Surrey، بالمملكة المتحدة. وتتساءل: “هل من المعقول خلال عمر الأرض أن نصل إلى هذه النتيجة؟” بقدر ما تعرف هي، لم يُجب أحد عن ذلك.
«الأنظمة المستقرة لا تستمر فقط، إنها تتحسن باستمرار بمرور الوقت»
يشكك النقاد أيضًا في ادعاء مفاده أن الأنظمة يجب أن تصبح أكثر متانة بمرور الوقت من خلال تجميع التغيرات المستقرة. ويقول دانيال شراغ Daniel Schrag، عالم الكيمياء الجيولوجية في جامعة هارفاردHarvard University: «كلما طالت فترة وجودك في النظام، زاد الوقت الذي يمكنك زعزعة استقراره أيضاً». ويتفق لينتون مع هذا. ولكن نماذجه الرياضياتية، الموصوفة في ورقة حديثة، تشير إلى أن تأثير الاستقرار يفوق التأثير المزعزع للاستقرار على المدى الطويل.
وهناك أسباب أخرى لتوقع زيادة الاستقرار بمرور الوقت. إذا أراد النظام أن يستمر بدلاً من الانهيار في وجه التغيير، فيجب أن يكون متيناً. ويقول سايمون ليفين Simon Levin، الإيكولوجي من جامعة برينستون Princeton University، إن ثلاث ميزات تجعل نظاماً إيكولوجيّاً أو نظامًا كوكبيًا أكثر متانة. أولاً، تتمتع الأنظمة المتينة بدرجة من النسخ المتكررة Redundancy، ومن ثم فإن فقدان أي مكون معين – انقراض نوع ما – على سبيل المثال – لا يعرض الجميع للخطر. ثانياً، تمتاز هذه الأنظمة بالتنوع Diversity؛ مما يزيد من احتمالات أن تكون بعض الأنواع على الأقل قادرة على مواجهة التغيرات غير المتوقعة. ثالثًا، تتألف من وحدات نمطية Modularity، بحيث لا يؤدي فشل جزء من النظام إلى انهياره برمته.
ويقول ليفين إنه كلما تطوَّر نظام ما، زاد احتمال ظهور هذه الميزات الثلاث جميعها. بمعنى آخر، تزداد المتانة بمرور الوقت. والمحيط الحيوي للأرض موجود منذ تطور الحياة الأولى قبل أكثر من 3.9 بليون سنة، لذلك كان لديه متسع من الوقت ليصبح أكثر متانة.
إعادة تشغيل الكوكب
على الرغم من أن النماذج الرياضياتية قد تظهر أن الاختيار عن طريق المثابرة أمر ممكن، فإنها لا تستطيع إثبات حدوثه بالفعل على الأرض. ومع ذلك، يرى لينتون عدة طرق لاختبار فرضيته. «أليس تاريخ الأرض حالة اختبار لهذه الأفكار؟» على وجه الخصوص، نحن نعلم أن الكوكب مرَّ بالعديد من التحولات الكارثية التي جرفت المحيط الحيوي القديم وأجبرت أشكال الحياة القليلة الباقية على خلق نمط جديد.
وكان من بين هذه التحولات ما يسمى حدث الأكسجة العظيم Great oxygenation قبل نحو 2.4 بليون سنة، عندما ارتفعت مستويات الأكسجين في الجو بشكل كبير مما يقارب الصفر بعد تطور البناء الضوئي انطلاقاً من مستوى يكاد يقارب الصفر. وظهور الأكسجين الشديد التفاعل من شأنه أن يربك جميع الدورات البيوكيميائية الحالية واستقلاب (أيض) الكائنات الحية التي تعتمد عليها. فإذا كان لينتون على صواب، فإن ذلك كان سيؤدي إلى فترة من عدم الاستقرار الكوكبي يليها تدريجيّاً ظهور نظام أرضي جديد ومستقر بشكل متزايد مع تراكم المزيد من المسارات الاستقلابية (الأيضية) الجديدة في المحيط الحيوي لتنظيم نظامه الجديد.
ولا توجد كائنات حية منذ ذلك الوقت البعيد، لكن بالنظر إلى الوراء في شجرة الحياة، بدأ علماء الأحياء بمعرفة الوقت الذي ظهرت فيه ابتكارات استقلابية معينة. يقول لينتون: «إذا كنا محظوظين، فسنكون قادرين على فهم الكيفية التي زعزع بها أصل الاستقلابات الجديدة الوضع الراهن حينها». ويتابع قائلاً: «سنكون قادرين على اختبار ما إذا، عندما نحصل على نسخة أكثر استقرارًا من شيء ما كدورة النيتروجين، حلَّت محل إصدار سابق أقل استقرارًا».
والنظر إلى تاريخ كوكبنا ليس بالطريقة الوحيدة لتقييم الفكرة. وأقوى اختبار قد يأتي من الحياة على الكواكب الأخرى. كم مرة نشأت الحياة خارج كوكب الأرض، وكم من الوقت استمرت؟ هل هناك ملايين الكواكب حيث ظهرت الحياة ولكنها فشلت في التنظيم الذاتي؛ مما يشير إلى وجود «عنق الزجاجة الغاياني» Gaian bottleneck الذي كانت الأرض محظوظة بالمروق منه؟ أم أن الانتخاب بالثبات موجود في كل مكان، وحتماً يقود العمليات الكوكبية نحو الاستقرار أينما تنشأ الحياة؟
«أقوى اختبار لهذه الفكرة قد يأتي من الحياة على كواكب أخرى».
ونظرًا لعدم النجاح في بحثنا عن الحياة في أي مكان آخر من الكون، فإن الإجابات عن مثل هذه الأسئلة لا تزال بعيدة المنال. لكن ربما لا نحتاج إلى بذل هذا القدر من الجهد. يقول فريدريك بوتشارد Frédéric Bouchard من جامعة مونتريال University of Montreal، وهو فيلسوف علمي يبحث في نظرية التطور، إن تغيير المنظور قد يكون كل ما هو مطلوب. ويعتقد أن تركيزنا المعتاد على التكاثر باعتباره وسيلة لقياس اللياقة Fitness أعمانا عن إمكانات أخرى. يقول: يمكن تشبيه الأمر بمثال أنك لم ترَ سوى الثدييات، فستستنتج أن جميع الأنواع تحتاج إلى أرجل. ثم أريك سرخسًا فستقول إنه ليس كائنًا حيّاً لأنه ليست له أرجل».
ومن وجهة نظر بوشارد، فإن الانتخاب الطبيعي يفضل الصفات التي تعزز المثابرة، حيث يكون النجاح التكاثري Reproductive success هو إحدى طرق القيام بذلك، لكن ليس الوحيد. تأمَّل، على سبيل المثال، واحدا من أقدم وأكبر الكائنات الحية في العالم، أيكة من أشجار الحور الراجفياني Quaking aspen trees في ولاية يوتا التي تنبت جميعها من مجموع جذري واحد مترابط. فعلى الرغم من أن الجذوع الفردية تظهر وتختفي، فإن الأيكة كانت كيانًا وراثيّاً ثابتاً لنحو 80 ألف عام. ويقول بوشارد إنه قد يتكاثر جنسيّاً بين الحين والآخر، لكن من المنطقي التفكير في نجاحه من حيث المثابرة.
وفي الواقع، فقد يكون الانتخاب بالمثابرة مجرد واحدة من مجموعة متنوعة من آليات الانتخاب التي يشتمل عليها التطور. ونظراً إلى أن المثابرة تأتي حقّاً في أنظمة أكبر وعلى فترات زمنية أطول، فقد تكون المثابرة أكثر أهمية من غايا فحسب.
خذ بعين الاعتبار النظم الإيكولوجية، مثل الشعاب المرجانية أو مجموعات الميكروبات في قناتك الهضمية. النظم الإيكولوجية قد تتنافس ضد بعضها البعض، لكنها لا تتكاثر ككل. ومع ذلك، فإن لها، على سبيل المثال، سمات تحتاج إلى تفسير تطوري. مثل غايا، فهي غالبًا ما تكون ذاتية التنظيم، وتحافظ على وظائف متسقة نسبيّاً، حتى عندما تظهر أنواع مكوناتها وتختفي. وعلى سبيل المثال، كشفت دراسة أجريت على الأعشاب البحرية الخضراء اُلفا أوستراليس Ulva Australis أن النظم الإيكولوجية للميكروبات التي تعيش على أي طحلبين كان لديها في المتوسط 15% فقط من الأنواع المشتركة. ومع ذلك، فقد تقاسمت 70% من وظائفها الإيكولوجية مثل الالتصاق والدفاع وتكوين البيوفيلم Biofilm. من الصعب تفسير هذا الاتساق من خلال الانتخاب الذي يعمل على الأنواع الفردية، لأنه لا يوجد ميكروب يؤدي جميع الأدوار. ولكنه يناسب فكرة مفادها أن الانتخاب بالمثابرة شكَّل النظام الإيكولوجي. «وحتى لو كنت منتخباً فقط بناء على المثابرة، يمكنك أن تتحسن وتتحسن»، كما يقول عالم الأحياء التطوري فورد دوليتل Ford Doolittle من جامعة دالهوزي Dalhousie University بكندا، الذي كان من أوائل الباحثين بدراسة دور المثابرة في التطور. ويضيف موضحاً أن هذه الأمثلة هي أمثلة شائعة.
ويعتقد لينتون أن نموذجه غير التقليدي للتطور قد يكون أفضل طريقة لفهم التطور الاجتماعي والثقافي أيضًا. ووفقاً لذلك، فالمعرفة الثقافية لا تتكاثر بالضبط. بدلاً من ذلك، تكتسب المفاهيمُ تأثيرًا بالانتشار، وهي ديناميكية يمكن وصفها بشكل أفضل باستخدام الانتخاب بالمثابرة بدلاً من التطور التقليدي بالانتخاب الطبيعي. ويستكشف لينتون الآن الكيفية التي يمكن بها أن يتحقق هذا وما إذا كان سيمنحنا رؤى جديدة في التطور الثقافي.
وقد تُسلط آلية لينتون التطورية الجديدة الضوءَ على أكبر سر في الحياة. بالعودة إلى ما قبل تطور الخلية الحية الأولى، ربما تكوَّن الحساء البدائي Primordial soup من جزيئات مختلفة تمكنت مجتمعة من خلق المزيد من الجزيئات إلى حد ما، ولكن ليس بالضبط، مثلها. وفي مثل هذا النظام كان النجاح سيشكل استمرار بقاء مجموعة طليقة من الجزيئات. وبعبارة أخرى، كما يقول بوشارد، كانت المثابرة وليس التكاثر القوة الدافعة وراء أصول الحياة.
ويمكن للانتخاب بالمثابرة أن يفسر الكثير عن العالم. السؤال هو ما إذا كانت الفكرة نفسها ستستمر. ومثل الاتزان الداخلي لآشبي، قد يتطلب الأمر إعادة التشغيل. ولكن، في دائرة تأتي بنتائج نحبذها، إذا أثبتت نظرية لينتون أنها معقولة ووصلت إلى توازن مستقر، فعليها تجميع مزيد من التغييرات التي ستجعلها أكثر ثباتًا.
بوب هولمز Bob Holmes: كاتب مقيم في إديمينتون بكندا.
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: ماهو الاصطفاء الاتجاهي؟