فريق بحثي يعثر على أدوات حجرية تثبت أن أشباه البشر عاشوا في منطقة شبه الجزيرة العربية، وأن المنطقة تمتعت بظروف بيئية أشبه بسافانا شرق أفريقيا الحالية
مثل محقق جنائي يتحرى الأدلة في موقع جريمة، يتفحص علماء الأحافير والآثار البشرية القديمة بحذر، ثنايا الطبقات الصخرية، بحثًا عن آثار قديمة أو عظام متحجرة، فتلك هي أدلة “عالم الأحافير” التي تمكِّنه من كشف ملابسات الماضي، وطبيعته التي قد تختلف كثيرًا عما نعرفه عن عالمنا الحالي.
وعليه، وبينما كان لجزء صغير من “إصبع متحجرة”، عُثر عليها في صحراء “النفود” شمالي “شبه الجزيرة العربية”، أن يؤكد أن نوعنا -الإنسان العاقل Homo sapiens- قد استوطن بالفعل تلك المنطقة قبل ما يزيد على 85 ألف سنة.
وثقت دراسة حديثة نُشرت في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن” Nature Ecology and Evolution، بتاريخ 29 من أكتوبر من العام الجاري، أقدم وجود لأشباه البشر في شبه الجزيرة العربية؛ إذ تمكَّن فريق دولي من الباحثين من اكتشاف أدوات حجرية في منطقة “طعس الغضى” Ti’s AlGhadah (بالقرب من محافظة “تيماء” شمالي السعودية) بصحراء النفود السعودية، والتي قد يصل عمرها إلى قرابة نصف مليون سنة.
وتقدم الأدوات الحجرية وعلامات القطع على الأحافير الحيوانية المكتشَفة في ذلك الموقع دليلًا على وجود أشباه البشر في شبه الجزيرة العربية في وقت يسبق بـ100000 سنة على الأقل ما كان معروفًا في السابق.
يشير “هشام سلام”، مدير مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية -غير مشارك بالدراسة- إلى أن تلك القطوع والجروح على العظام تبرز بعض الجوانب الثقافية لذلك النوع من أسلاف البشر، فكما توضح الدراسة، كان بإمكانهم تقطيع شرائح اللحم من على الضلوع، وكسر العظام الكبيرة للوصول إلى نخاع العظم”.
أظهرت نتائج الدراسة التي قادها فريق بحثي مشترك من معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري، وباحثون من جامعة الملك سعود، وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، أن هجرة أشباه البشر hominins إلى تلك المنطقة، لم تكن بحاجة إلى التكيُّف مع ظروف بيئية متطرفة مثل الصحاري القاحلة والأحوال المناخية القاسية، كالموجودة في منطقة شبه الجزيرة العربية حاليًّا.
فمن خلال تحليل النظائر المستقرة Stable isotope analysis لعنصري الكربون والأكسجين، في بقايا أسنان الحيوانات المكتشَفة هناك، وهو تحليل دقيق يستخدمه علماء الآثار والأحافير القديمة، للتعرُّف إلى نمط التغذية والبيئة القديمة، تمكَّن باحثو الدراسة من إثبات أن المنطقة تمتعت في الماضي بظروف بيئية أشبه بسافانا شرق أفريقيا حاليًّا.
الماضي الأخضر
بالرغم من مساحتها الهائلة التي تمتد إلى ما يزيد على 3 ملايين كم مربع، وموقعها الجغرافي المميز الذي يصل قارة أفريقيا بكلٍّ من قارتي آسيا وأوروبا، لم يلتفت العلماء -حتى وقت قريب- إلى أهمية شبه الجزيرة العربية، بوصفها منطقةً مؤثرة لدراسة تاريخ أسلافنا وانتشارهم خارج القارة السمراء.
وبفضل جهود الباحثين والعلماء خلال العقود الماضية، ما لبثت رمال صحاري شبه الجزيرة العربية، تتكشف عن عظام متحجرة لفيَلة قديمة وغزلان، بل وأفراس نهر، بالقرب من ترسبات لأحواض برك ومسارات أنهار قديمة، لترجح أن المنطقة تمتعت في الماضي بظروف بيئية أقل قساوةً من حاضرها، وهو ما عزَّز بدوره فرص انتقال البشر وأسلافهم إليها.
يقول “مايكل بتراجليا”، أستاذ التطور البشري في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري، وهو مؤلف مشارك في الدراسة الأخيرة، في حديثه لـ”للعلم”: “وثقنا بأدلة واضحة عبر العقد الأخير، أن شبه الجزيرة العربية مرت في الماضي بفترات زمنية رطبة، أو أكثر “خضرةً”، إذ أظهرت الصور المتلقَطة بالأقمار الصناعية ما يقارب 10 آلاف بحيرة قديمة، وشبكات متفرعة من مسارات الأنهار، كما تؤكد أحافير الثدييات الكبيرة -كالفيلة المستخرجة من “طعس الغطى”- أن البيئة تختلف تمامًا عما هي عليه الآن”.
وحتى وقت قريب، لم تَحْظَ شبه الجزيرة العربية باهتمامٍ كافٍ من علماء الآثار والأحياء القديمة، ربما للصعوبات الشديدة التي تعوق البحث في بيئة صحراوية من هذا النوع، إضافةً إلى أنه كان هناك اعتقاد سائد بعدم قدرة أشباه البشر على الهجرة إلى أراضٍ قاحلة، وأنه خلافًا لنوعنا البشري الذي يبدو أنه قابل للتكيُّف على نحو فريد مع البيئات القاسية، كان يُعتقد أنه “ربما لم يكن أشباه البشر يملكون هذه القدرة على التكيف”.
في هذا الإطار، يوضح “عبد العزيز العقيلي”، الأستاذ المساعد في قسم علم الحيوان بجامعة الملك سعود، والمشارك في الدراسة الأخيرة، في حديثه لـ”للعلم”: “بجانب الأجواء الحارة للغاية في شهور الصيف، لا نزال لا نمتلك كوادر بحثية متخصصة في مجال “الآثار البشرية القديمة”، إلا أنه يعود ليشدد بقوله: “أعتقد أن ذلك قد يتغير خلال الفترة القادمة، مع تقديم المنح العلمية والاهتمام الذي توليه السلطات السعودية، للأبحاث التي تكشف التاريخ القديم للمنطقة”.
ومن جانبه، يشير “يحيى آل مفرح”، رئيس قسم الأحافير بهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، إلى غياب تدريس مفصل لعلوم الحفريات في الجامعات السعودية، ولذلك “تشكل مشاريع بحثية مماثلة، فرصةً جيدةً لتدريب كوادر الباحثين السعوديين”.
الانتشار المبكر
وتُعَد الدراسات التي أُجريت على الانتشار المبكر والمتأخر لأشباه البشر خارج أفريقيا من الأهمية بمكان لفهم مسار التطور البشري العالمي، فبمقارنة طبيعة تلك الهجرات القديمة، بهجرات نوعنا الأحدث نسبيًّا -هومو سابينس Homo Sapiens- يمكن للعلماء فهم سر تفرُّد نوعنا عن أسلافه.
يقود “بتراجليا” في الوقت الحالي فريقًا بحثيًّا متعدد التخصصات، ضمن مشروع “الصحاري القديمة- Palaeodeserts”، الذي تنفذه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمشاركة جامعة الملك سعود وهيئة المساحة الجيولوجية، ويهدف إلى فهم موقع “شبه الجزيرة العربية” من قصة التطور البشري.
نجح المشروع بالفعل خلال السنوات الماضية، في تسليط الضوء على مكونات البيئة القديمة المتنوعة لشبه الجزيرة العربية وسكانها القدامى، إلا أنه -قبل الدراسة الأخيرة- لم تتوافر دلائل عن طبيعة الترابط بين تلك المكونات، في صورة أكثر شمولًا.
يوضح “باتريك روبرتس” المؤلف الرئيس للدراسة، ومدير “معمل النظائر المستقرة” بمعهد ماكس بلانك، في حديثه لـ”للعلم”: لقد نجح “بتراجليا” وفريقه بالتعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، ضمن مشروعهم المشترك، في توضيح أن الهجرات البشرية القديمة إلى شبه الجزيرة العربية، حدثت في فترات تمتعت فيها المنطقة ببيئة خضراء، غنية بشبكات من الأنهار والبرك، إلا أننا لم نكن نفهم حينها طبيعة ذلك الغلاف الأخضر، وكيف أسهم ذلك النظام البيئي من شبكات الأنهار المتعددة، في دعم استقرار الحيوانات، أو أسلاف البشر أنفسهم، ولذا كان علينا إعادة البحث”.
فعلى الرغم من أن الأنواع التي تشكِّل جنس الهومو Homo، والتي غالبًا ما توصف بأنها “بشرية” في الخطابين الأكاديمي والعام، تُظهر تنوعًا متميزًا. تُظهر الدراسات الحديثة أن هذه المجموعة التطورية المتنوعة ارتبطت هجراتها بالاستخدام العام لفسيفساء مختلفة من الغابات والأراضي العشبية في مواقع الأنهار والبحيرات وفيما بينها.
وعلى النقيض من ذلك، تدعم عدة دراسات أن نوعنا -هوموسابينس- احتل في وقت مبكر مجموعةً متنوعةً من البيئات القاسية، بما في ذلك الصحاري والغابات الاستوائية المطيرة، ومنطقة القطب الشمالي، وعلى المرتفعات العالية، في جميع أنحاء العالم.
ويؤكد عدد من الباحثين أيضًا أن بعض أنواع “أشباه البشر”، يُظهر مرونةً تكيُّفيةً ثقافيةً وبيئية، إلا أن نقص المعلومات البيئية القديمة قد صعَّب اختبار هذه الفكرة بشكل منهجي.
الأسنان تحكي القصة الكاملة
في البحث الأخير، تقدم نظائر العناصر الكيميائية أدلةً دقيقةً للعلماء في تفحُّص أحداث العصور السابقة وتبيانها، فكمية نظير الكربون 14 المشع، تقل بمعدل منتظم في عينة محددة إلى النصف كل قرابة 5700 عام بعد وفاة الكائن، وبالتالي يستخدمه علماء الأحافير، لتقدير عمر الحفريات المكتشفة.
من الناحية الأخرى، فإن كمية النظائر المستقرة من الكربون 12 والكربون 13، تظل ثابتةً مع مرور الزمن، واعتمادًا على تلك الخاصية، يستطيع العلماء فهم نمط التغذية والبيئة القديمة، للحيوانات التي عاشت في الماضي.
فحيث إن أغلب النباتات التي تنمو في مناخ شبه معتدل مثل الأرز وكل النباتات الخشبية، تحوي نسبة معينة من نظير الكربون12 إلى الكربون13، والتي تختلف بشكل ملحوظ عن نسبة النظيرين في النباتات العشبية مثل النجيل أو قصب السكر، التي تنمو في المناطق الحارة الجافة نسبيًّا.
وبإدراك أن تلك النسبة -التي هي بمنزلة بصمة بيئية- تمرر إلى الحيوانات العاشبة التي تتغذى على تلك النباتات، لتحفظ في أنسجتها الرخوة أو عظامها، وتظل ثابتةً حتى بعد موت الحيوان بآلاف السنين، يستطيع العلماء تقصِّي نوع التغذية القديمة للحيوانات التي عاشت في الماضي –ومنه يتقصون بيئتها- عبر تحليل بقاياها، أو أسنانها كما تم في الدراسة الأخيرة.
ومن هنا يشرح “روبرتس” نتائج ذلك التحليل بقوله: أظهر “تحليل النظائر المستقرة” أن المنطقة قد غطتها أراضٍ عشبية في ظروف شبيهة بـ”سافانا شرق أفريقيا حاليًّا”.
وبمعلوم نتائج ذلك التحليل، ونتائج الفحص المجهري الذي أظهر قطوعًا وجروحًا في عظام الحيوانات التي عاشت في المنطقة، من جَرَّاء الأدوات الحجرية المكتشَفة في الموقع نفسه، كان من الممكن ربط كل العناصر ببعضها، لـ”تقديم تصوُّر مباشر للظروف البيئية القديمة في تلك المنطقة، وبشكل أكثر وضوحًا”، على حد تعبير “روبرتس”.
رغم ذلك، فإن تحديد النوع الذي تعود إليه تلك الأدوات الحجرية هو أمر صعب في المرحلة الحالية، فكما يوضح “بتراجليا”: إن الزمن الذي تعود إليه تلك الأدوات، والذي يتراوح بين 300 ألف و500 ألف سنة ماضية، هو أمر محير، فبرغم أننا ندرك أن أنواعًا أخرى من أشباه البشر مثل “هومو هايدلبيرغينيسيس – Homo heidelbergensis، عاشت في تلك الفترة في مناطق أخرى، إلا أننا لم نعثر على أدلة من العظام في “طعس الغطى” بعد. والـ”هومو هايدلبيرغينيسيس” هو أحد أشباه البشر، اكتُشفت أحافيره لأول مرة في مدينة “هايدلبرغ” الألمانية، ويُعتقد أنه استوطن مناطق مختلفة من أوروبا وأفريقيا، في الفترة الزمنية ما بين 200 ألف و700 ألف سنة ماضية.
قدرات تكيفية اسثنائية
من جهة أخرى، تدعم الدراسة مجددًا، أن نوعنا تفرَّد بين أسلافه بقدرات تكيفية مميزة، ورغم أن أسلافنا انطلقوا بهجرات واسعة قبلنا بسنين طويلة، فإنهم على خلافنا -وفقًا للأدلة الحالية- اعتمدوا خلال ذلك على بيئات محددة، مثل أراضي السافانا العشبية التي توجَد في شبه الجزيرة العربية، أو في منطقة “طعس الغضى” قبل قرابة نصف مليون سنة.
وعلى ذلك يعلق “روبرتس”: إن أشباه البشر لم يكونوا بحاجة إلى قدرات تكيفية مميزة لطبيعة الصحاري القاحلة عند وصولهم إلى شبه الجزيرة العربية، فقد كانت البيئة بالفعل أشبه بالسافانا الأفريقية حينها، على خلاف ذلك، فإن نوعنا -وإن كانت الأدلة محدودةً حتى الآن- قد واجه ظروفًا بيئية أكثر جفافًا عند وصوله للمنطقة، قبل قرابة 90 ألف سنة”.
يتوقع “باتراجليا” أن يظل مشروع “الصحاري القديمة” مستمرًّا لعدة سنوات قادمة، مشددًا على أنه “على الرغم من أن أحافير العظام البشرية نادرة للغاية، فقد حالفنا الحظ من قبل بالعثور على “جزء الأصبع”، وهو الدليل الأقدم لنوعنا في المنطقة، وبمزيد من البحث سنكتشف المزيد”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.